2- علاقة الله بالإنسان بكلمته وحكمته
إن علاقة الله بالإنسان تظهر في العهد القديم بنوع خاصّ في كلمته وحكمته وروحه. فكل ما قيل في العهد القديم عن كلمة الله وحكمته وجد تحقيقه في العهد الجديد في شخص يسوع المسيح. وكل ما قيل عن روح الله وجد تحقيقه في الروح القدس. لذلك يمكننا أن نرى في هذه المفاهيم تهيئة لظهور الابن والروح، الاقنوم الثاني والاقنوم الثالث من الثالوث الأقدس.
ء) كلمة الله
الكلمة هي تعبير عن فكر الإنسان وتعبير عن إرادته. وفي حال غياب الإنسان تمثّل كلمته نوعًا من حضوره. هكذا كلمة الله في الكتاب المقدس هي حضور الله في وسط شعبه. ويتّسم هذا الحضور بثلاث سِمَات: فكلمة الله تكوّن الشعب، وتخلّصه، وتخلق الكون.
* إن الله، بكلمته، يكشف لشعبة. علاقته به وتصميمه تجاهه. فهو الذي اختار شعبه "ليكونوا له خاصة من جميع الشعوب". وهذا ما أعلنه لموسى على جبل سيناء:
"وصعد موسى إلى الله، فناداه الرب من الجبل قائلاً: كذا نقول لآل يعقوب وتخبر بني إسرائيل. قد رأيتم ما صنعت بالمصريّين وكيف حملتكم على أجنحة النسور، وأتيت بكم إليّ. والآن إن امتثلتم أوامري وحفظتم عهدي، فإنّكم تكونون لي خاصة من جميع الشعوب، لأن جميع الأرض لي، وأنتم تكونون لي مملكة أحبار وشعبًا مقدّسًا" (خر 19: 3- 6).
وعلى جبل سيناء أوصى الله موسى أن يكتب "كلام العهد الكلمات العشر" (خر 34: 28)، أي وصايا الله العشر التي ستكون القاعدة والأساس لحياة الشعب وعلاقته بالله. فالشعب يكوّن وينشأ ويصير شعبًا مقدسًا لله بحفظه كلام الله. فكلمة الله هي إذن التي تخلق شعب الله، أي تجعل من جماعة من الناس شعب الله المقدس.
* ثم إن كلمة الله ترافق الشعب الذي خلقته لتقوده مدى تاريخه وتخلّصه. وذلك بواسطة الأنبياء الذين لا يتكلمون من ذواتهم بل ينقلون إلى الشعب كلام الله. فيقول أشعيا: "إستمعي أيتها السماوات، وأنصتي أيتها الأرض، فإنّ الربّ قد تكلّم" (أش 1: 2). ومعظم الأنبياء يبدأون نبوءاتهم بالعبارة التالية: "هكذا قال الرب" (عا 1: 3، 11؛ 2: 1؛ 3: 1). وكلمة الله هذه التي تُلقى إليهم تصير جزءًا منهم. وهذا ما يعبّر عنه إرميا وحزقيال بتعبير رمزيّ، "بأكل" كلمة الله. يقول إرميا:
"إن كلماتك قد بلغت إليّ، فأكلتُها، فكانت لي كلمتك سرورًا وفرحًا في قلبي، لأنّ اسمك ألقي عليّ، أيها الرب إله الجنود" (ار 15: 6).
ويسمع حزقيال صوت الله يقول له:
"يا ابن البشر، إني مرسلك إلى بني إسرائيل.. فاسمع ما أكلّمك به.. افتح فك وكُلْ ما أناولك". ويناوله الله كتابًا فيأكله، "فيصير في فمه كالعسل" ثم "ينطلق ليكلّم الشعب بكلام الله" (راجع حز 2- 3).
وعندما تثقل كلمة الله على النبيّ لعدم إصغاء الناس إليها، يودّ ألاّ ينطق بها، بيد أنها "تصير في قلبه كنار محرقة" (ار 20: 9)، ولا يستطيع إلاّ أن يتكلّم بها.
ولكونها كلمة الله نفسه، فلا يمكن إلاّ أن تؤتي فعلها، حسب قول أشعيا:
"كما ينزل المطر والثلج من السماء ولا يرجع إلى هناك، بل يروي الأرض، ويجعلها تنشئ وتنبت لتؤتي الزارع زرعًا والآكل طعامًا، كذلك تكون كلمتي التي تخرج من فمي لا ترجع إليّ فارغة، بل تتمّ ما شئت وتنجح في ما أرسلها له" (أش 55: 10- 12).
وكلمة الله هذه تقود الشعب وعليه وتخلّصه، وإن شعر النبيّ بضعفه وتردّده إزاء التبشير بها. فالله هو نفسه الذي يسهر على كلمته ليجريها. فعندما أعلن الله كلمته لإرميا النبيّ، خاف إرميا وقال لله: "هاءنذا لا أعرف أن أتكلّم لأني صبيّ، فقال له الرب: "لا تخف من وجوههم، فإنّي معدّ لإنقاذك". ثم مدّ الرب يده ولمس فمه وقال له: "هاءنذا قد جعلت كلامي في فمك. أنظر: إنّي أقمتك اليوم على الأمم وعلى الممالك لتقلع وتهدم وتهلك وتنقض وتبني وتغرس". ثم قال له الرب: "ماذا أنت راءٍ يا إرميا؟"، فقال: "إني راءٍ قضيبا ساهرًا". فقال له الرب: " قد أحسنت في ما رأيت، فإني ساهر على كلمتي لأجريها" (ار 1: 6- 12).
لذلك يرجو الشعب كلمة الله لأنها تخلّصهم: "أرسل كلمته فشفاهم ونجّاهم من مهالكهم" (مز 106: 20). وتؤكد المزامير بنوع خاصّ رجاء المؤمن بكلمة الله وحمده الله على كلمته: "أحمد الله على كلامه، أحمد الرب على كلامه" (مز 55: 11)، "ذابت نفسي شوقًا إلى خلاصك، إنّما رجوت كلمتك، كلّت عيناي من انتظار أقوالك، وأنا أقول متى تعزّيني" (مز 118: 81، 114، 147)
* انطلاقًا من كلمة الله التي تخلق الشعب وتخلّصه، توصلت أسفار العهد القديم الأحدث عهدًا إلى القول إنّ كلمة الله أيضاً التي خلقت الكون. ففيمَا تصف رواية الخلق الأقدم عهدًا أنّ الله جبل الإنسان من طين، تصف الرواية الأحدث أنّ الله خلق الكون والإنسان بكلمته: "وقال الله: ليكن نور، فكان نور.." (تك 1: 3- 26). ونجد هذا التعبير عن الخلق بالكلمة في المزامير والأسفار الحكمية: "بكلمة الرب صنعت السماوات، وبروح فيه كل جنودها" (مز 32: 6). "الرب صانع الجميع بكلمته" (حك 9: 1).
إن كلمة الله التي بها يكوّن الله شعبه ويرافقه ويخلّصه، والتي بها يخلق الكون، تشير في آن معًا إلى تسامي الله عن الكون والإنسان من جهة، وإلى حضوره في الكون وقربه من الإنسان من جهة أخرى. وكل ما قيل عن كلمة الله في العهد القديم سيرى العهد الجديد، ولا سيّمَا يوحنا الإنجيلي (يو 1: 1- 18)، تحقيقه تحقيقًا كاملاً في المسيح الذي هو كلمة الله المتجسّد.
ب) حكمة الله
هناك علاقة وثيقة بين كلمة الله وحكمة الله. فكلاهما تخلقان الكون وتكوّنان الإنسان وتقودانه وترشدانه إلى إرادة الله وإلى كل عمل مقدّس. هذا ما نقرأه في سفر الحكمة الذي يجمع بين كلمة الله وحكمته، فيقول:
"يا إله الآباء، يا ربّ الرحمة، يا صانع الجميع بكلمتك، وفاطر الإنسان بحكمتك، لكي يسود على الخلائق التي كوّنتها، ويسوس العالم بالقداسة والبرّ، ويجري الحكم باستقامة النفس، هب لي الحكمة الجالسة إلى عرشك ولا ترذلني من بين بنيك.. فإن كان في بني البشر أحد كامل ولم تكن معه الحكمة التي منك لا يُحسب شيئًا.. فأرسلها من السماوات المقدسة وابعثها من عرش مجدك، حتى إذا حضرت تجدّ معي وأعلم ما المرضيّ لديك. فإنها تعلم وتفهم كلّ شيء، فتكون لي في أفعالي مرشداً فطينا وبعزّها تحفظني.. نحن بالجهد نتمثّل ما على الأرض وبالكدّ ندرك ما بين أيدينا، فمَا في السماوات من اطّلع عليه، ومن علم مشورتك لو لم تؤتِ الحكمة وتبعث روحك القدوس من الأعالي، فإنه كذلك قوّمتَ سبل الذين على الأرض وتعلّم الناس مرضاتك. والحكمة هي التي خلّصت كلّ من أرضاك منذ البدء". (حك 9: 1- 19).
تلك الحكمة تراها الأسفار المقدسة موجودة الله منذ الأزل:
"الرب حازني في أول طريقه قبل ما عمله منذ البدء. من الأزل مُسحتُ من الأوّل قبل أن كانت الأرض. ولدتُ حين لم تكن الغمار والينابيع الغزيرة المياه. قبل أن أقرّت الجبال وقبل التلال وُلدتُ. اذ كان لم يصنع الأرض بعد.. كنت عنده مهندسًا.. طوبى للإنسان الذي يسمع لي.. فانه من وجدني وجد الحياة" (أم 8: 22- 36).
وهي، على مثال كلمة الله، قد خرجت من فم الله. "اني خرجت من فم العليّ بكرا قبل كل خليقة، وجعلت النور يشرق في السماوات على الدوام.. قبل الدهر من الأوّل حازني، وإلى الأبد لا أزول" (سير 24: 5- 6، 14).
ان العهد الجديد سيرى في يسوع المسيح "حكمة الله" (1 كو 1: 24)، و"ضياء مجده وصورة جوهره وضابط كل شيء بكلمة قدرته" (عب 1: 3).
في العهد القديم كرز الأنباء بكلمة الله، وتكلّم سليمان بحكمة الله أمّا في العهد الجديد، فقد حضرت إلينا كلمة الله وحكمته في شخص يسوع المسيح:
"رجال نينوي سيقومون، في الدينونة، مع هذا الجيل، ويحكمون عليه، لأنهم تابوا بوعظ يونان، وههنا أعظم من يونان. ملكة الجنوب ستقوم، في الدينونة، مع هذا الجيل، وتحكم عليه، لأنها أتت من أقاصي الأرض لتسمع حكمة سليمان، وههنا أعظم من سليمان" (متى 12: 41- 42).