قصدنا من هذا أن مهمة مارمرقس الرسول لم تكن مهمة سهلة, اليوم نحن نمجد مارمرقس من حيث النتائج التي وصل إليها, ومن حيث النتائج التي نحن حصلنا عليها ولكن إذا أردنا أن نرجع بعقولنا ونتصور الوقت الذي ظهر فيه الرجل, وصعوبة المهمة التي كانت أمامه نعرف مدي المعاناة والصعوبة التي قاسها الرجل الذي نقلنا إلي معرفة المسيح.
مارمرقس الرسول كانت مهمته إذن صعبة, ولكن هناك عوامل خففت من هذه الصعوبة, ومهدت له الطريق علي نوع ما, وكانت أول هذه العوامل هو مجئ المسيح له المجد مع سيدتنا كلنا وفخر جنسنا العذراء الطاهرة مريم ويوسف خطيبها إلي أرض مصر.
كان هذا تمهيدا عظيما خدم مارمرقس الرسول حينما جاء إلي مصر, لأن الرب يسوع مهد الطريق بوجوده, وعلي الرغم أن الناس عاملوا العائلة المقدسة أحيانا بقسوة, إلا أنه كانت هناك قلوب مستعدة رحبت بهم وأحسنت إليهم وتأثرت بالمسيح, وهذا الأثر بقي إلي أن جاء مارمرقس الرسول, فكانت هذه هي البذار الأولية التي سقاها مارمرقس بتعليمه والتي أدت إلي أن تصبح المسيحية شجرة وارفة, وأن تمتد جذورها وأن تتحول بلادنا إلي المسيحية, فليست هناك كنيسة في الوجود أخذت المسيحية بالبساطة والروحانية الذي أخذوا به الأقباط دين المسيح, وليست هناك كنيسة في الوجود تفاخر بأنها صدرت إلي السماء أكبر عدد من الشهداء مثل كنيسة مصر, وليست هناك كنيسة قدمت للعالم بأسره روحانية ورهبانية زاهدة ناسكة كمثل ما قدمت كنيسة مصر حتي قال بعض المؤرخين ليست السماء غنية بنجومها غني برية مصر برهبانها.
هذا أمرا نفتخر به ونعتز به فإن شعبنا علي الرغم من أنه لم يكن من السهل عليه أن يغير ديانته لأنه كان يأخذ الديانة المأخذ العميق, ل يكن شعب سطحي من السهل عليه أن يغير ديانته, لكن بعد الجهود العظيمة التي بذلها مارمرقس الرسول, وما عمله بعد ذلك الآباء الآخرون الذين جاءوا من بعده وتسلموا منه وديعة الإيمان, استطاعوا بنعمة الله وبفضله أن يحول هذا الشعب المتمسك العميق في ديانته إلي الديانة المسيحية, وبمثل العمق الذي عاش فيه المصريون في ديانتهم الوثنية, بأعظم من هذا العمق دخلوا في ديانة المسيح وأخذوا المسيحية المأخذ العميق, وتشبعوا من روحها وأثمروا فيها وبرزوا فيها حتي أنها أصبحت قائدة العالم, ومن الناحية العلمية مارمرقس الرسول وجد أنه بعد أن كرز بالمسيح وبعد أن صير عددا من الناس مسيحيين وعمدهم واختار من بينهم بعد أن اطمأن إليهم أسقفا ورسم أيضا قسوسا وشمامسة, ذهب إلي ليبيا وهي مسقط رأسه الأصلي, وهناك في ليبيا أيضا أسس كنيسة وأقام كهنة, لكنه وجد أنه لا يطمئن إلي وضع الكنيسة في مصر إلا إذا أنشأ مدرسة لاهوتية لكي تستطيع أن تواجه المدارس الفلسفية والعلمية التي كانت مدينة الإسكندرية تعج بها, ولابد أن يكون رجال الدين المسيحيين في المستوي العلمي والروحاني الذي به يستطيعون أن يردوا سهام الوثنيين, وأن يتفوقوا عليهم, فأنشأ مارمرقس أول مدرسة لاهوتية في العالم كانت مدرسة الإسكندرية, تاريخيا أول مدرسة في العالم لاهوتية, واستطاع علماء هذه المدرسة شيئا فشيئا مواصلة الجهود والدرس والمناقشات والجدل المتواصل مع أساتذة وعلماء المدارس الوثنية المختلفة, أمكنهم بنعمة الله أن يجهزوا علي المدارس الوثنية وأن يضعفوها, وأن يقتنصوا منها الطلبة والأساتذة, حتي أغلقت هذه المدارس أبوابها وامتصتها المدرسة اللاهوتية في الإسكندرية وابتعلتها, هؤلاء الأساتذة والعلماء انضموا إلي الكنيسة المسيحية وألفوا فيها مؤلفات وردوا علي آراء وهرطقات ظهرت في ذلك الزمان. وصار من بين العلماء الأفذاذ من أمثال أثيناغوراس وبنتينوس وأكليمنضس وأوريجينوس وديديموس, ومن خريجي تلك المدارس أثناسيوس وكيرلس وديسقوروس وكل أبطال الإيمان المسيحي, الذين رفعوا منارة الإيمان المسيحي في تلك الأزمنة, وامتد صيت مدرسة الإسكندرية اللاهوتية التي أنشأها مارمرقس, ولم يأت القرن الثاني للمسيحية حتي صارت مدرسة الإسكندرية اللاهوتية المرجع الأعلي للثقافة المسيحية في العالم بأثره, وسمع بها طلاب المعرفة والباحثون وراء الحق فقصدوا إليها ولما أنشئت مدارس لاهوتية في العالم كانوا خريجي تلك المدارس يشعرون بأن هناك مدرسة أعلي في الإسكندرية ينبغي بعد أن يتموا درساتهم في بلادهم أن يأتوا إلي مدرسة الإسكندرية.