ولما دخل المأمون دمشق فنظر إلى جامعها وكان معه أخوه المعتصم، وقاضيه يحيى بن أكثم، قال: ما أعجب ما فيه؟ فقال أخوه: هذه الأذهاب التي فيه، وقال يحيى بن أكثم: الرخام وهذه العقد، فقال المأمون: إني إنما أعجب من حسن بنيانه على غير مثال متقدم، ثم قال المأمون لقاسم التمار: أخبرني باسمٍ حسن أسمي به جاريتي هذه، فقال: سمها مسجد دمشق، فإنه أحسن شيء. وقال عبد الرحمن: عن ابن عبد الحكم، عن الشافعي، قال: عجائب الدنيا خمسة: أحدها منارتكم هذه - يعني منارة ذي القرنين بالإسكندرية - والثانية أصحاب الرقيم وهم بالروم اثنا عشر رجلاً، والثالثة مرآة بباب الأندلس على باب مدينتها، يجلس الرجل تحتها فينظر فيها صاحبه من مسافة مائة فرسخ. وقيل: ينظر من بالقسطنطينية، والرابع مسجد دمشق وما يوصف من الإنفاق عليه، والخامس الرخام والفسيفساء، فإنه لا يدري لها موضع، ويقال: إن الرخام معجون، والدليل على ذلك أنه يذوب على النار. قال ابن عساكر: وذكر إبراهيم بن أبي الليث الكاتب - وكان قدم دمشق سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة - في رسالة له قال: ثم أمرنا بالانتقال فانتقلت منه إلى بلد تمت محاسنه، ووافق ظاهره باطنه، أزقته أرجة، وشوارعه فرجة، فحيث ما مشيت شممت طيباً، وأين سعيت رأيت منظراً عجيباً، وإن أفضيت إلى جامعه شاهدت منه ما ليس في استطاعة الواصف أن يصفه، ولا الرائي أن يعرفه، وجملته أنه كنز الدهر، ونادرة الوقت، وأعجوبة الزمان، وغريبة الأوقات، ولقد أثبت الله عز وجل به ذكراً يدرس، وخلف به أمراً لا يخفى ولا يدرس. (ج/ص: 9/174)
قال ابن عساكر: وأنشدني بعض المحدثين في جامع دمشق عمره الله بذكره وفي دمشق فقال:
دمشق قد شاع حسن جامعها * وما حوته ربى مرابعها
بديعة الحسن في الكمال لما * يدركه الطرف من بدائعها
طيبة أرضها مباركة * باليمن والسعد أخذ طالعها
جامعها جامع المحاسن قد * فاقت به المدن في جوامعها
بنيةِ بالإتقان قد وضعت * لا ضيع الله سعي واضعها
تذكر في فضله ورفعته * آثار صدق راقت لسامعها
قد كان قبل الحريق مدهشة * فغيرت ناره بلاقعها
فأذهبت بالحريق بهجته * فليس يرجى إياب راجعها
إذا تفكرت في الفصوص وما * فيها تيقنت حذق راصعها
أشجارها لا تزال مثمرة * لا ترهب الريح من مدافعها
كأنها من زمرد غرست * في أرض تبر تغشى بنافعها
فيها ثمار تخالها ينعت * وليس يخشى فساد يانعها
تقطف باللحظ لا بجارحة الـ * أيدي ولا تجتني لبايعها
وتحتها من رخامة قطع * لا قطع الله كف قاطعها
احكم ترخيمها المرخم قد * بان عليها إحكام صانعها
وإن تفكرت في قناطره * وسقفه بان حذق رافعها
وإن تبينت حسن قبته * تحير اللبُّ في أضالعها
تخترق الريح في منافذها * عصفاً فتقوى على زعازعها
وأرضه بالرخام قد فرشت * ينفسح الطرف في مواضعها
مجالس العلم فيه مؤنقة * ينشرح الصدر في مجامعها
وكل باب عليه مطهرة * قد أمن الناس دفع مانعها
يرتفق الناس من مرافقها * ولا يصدون عن منافعها
ولا تزال المياه جارية * فيها لما شق من مشارعها
وسوقها لا تزال آهلة * يزدحم الناس في شوارعها
لما يشاؤون من فواكهها * وما يريدون من بضائعها
كأنها جنة معجلة * في الأرض لولا مسرى فجائعها
دامت برغم العدى مسلمة * وحاطها الله من قوارعها
(ج/ص: 9/175)
فصل فيما روي في جامع دمشق من الآثار
وما ورد في فضله من الأخبار عن جماعة من السادة الأخيار.