الفصل الحادي والخمسون
الزّلزال
ظهور الموتى في أورشليم
لقد رأيت نفس يسوع، في لحظة موته، تظهر على شكل شبه نيزك ساطع يخترق الأرض عند موطئ الصّليب وترافقها الملائكة، من بين الذين ميّزتهم كان الملاك غبريال. رأيت هذه الملائكة تلقي بعدد من الأرواح الشّريّرة في هاوية عظيمة، وسمعت يسوع يأمر بعض النفوس التى في عالم النسيان أن تدخل الأجساد التي سكنوها ذات مرة، لكى يملأ منظرها الخطاة بمخافة ذات فائدة، وأن تؤدى هذه النفوس شهادة مهيبة عن لاهوته.
ألحق الزّلزال الذي انتج الهوّة العميقة في الجلجثة أضراراً عظيمة فى كثير من أجزاء إسرائيل، لكن تأثيره كان أعظم في أورشليم. كان سكانها فى بداية اطمئنانهم بعودة ظهور الشمس، عندما أرعبتهم اهتزازات الزّلزال والضوضاء والفزع الرهيب الذى سببه انهيار البيوت والجدران من كل جانب، وازداد فزعهم بالظّهور المفاجئ لأشخاص من بين الأموات، يواجهون الفاجرين المرتجفين الذين كانوا يهربون كي يخفوا أنفسهم، ويخاطبونهم بلهجة حادّة وبتّأنيب.
نصح رؤساء الكهنة الشعب أن يواصلوا ذبح حمل الفصح الذى توقّفت بسبب الظّلمة الغير متوقّعة، وكانوا مبتهجين بالنّصر بعودة ضياء الشمس، عندما اهتزت الأرض فجأة من تحتهم، انهارت البنايات المجاورة، وأنشق حجاب الهيكل لنصفين من أعلى إلى أسفل. في بادئ لأمر, الرّعب جعل الذين فى الخارج صّامتين، لكن بعد فترة انفجروا في الصراخ والبكاء.
كانت الحشود التى داخل الهيكل عظيمة، لكن الطقوس كانت منفذة بمهابة من قبل الكهنة. جاءت أولاً تقدمة الحمل، ثم رُش دمه، متبوعاً بترتيل الأناشيد الدينية وهتاف الأبواق. كان الكهنة يسعون إلى الاستمرار فى الذبائح، عندما نشاء فجأة توقف مروّع غير متوقّع؛ تمثّل الرّعب والدّهشة على كل وجه؛ الكل كان مرتبكاً؛ لا صوت قد سُمع؛ توقف الذبح ؛ كان هناك اندفاع عامّ نحو أبوّاب الهيكل؛ كانت الجموع تسعى للهرب سريعاً بقدر ما تستطيع. أزداد الفزع والخوف؛ بظهور أشخاص سبق أن كانوا فى عداد الأموات ودفنوا منذ عدة سنوات في وسط الجموع! نظر هؤلاء الأشخاص إليهم بصرامة، ووبّخوهم بشدة على الجريمة التى ارتكبوها فى ذلك اليوم، بجلب الموت للإنسان البار وصياحهم بأن دمه على رؤوسهم. حتى في وسط هذا الارتباك، كانت تُبذل بعض المحاولات من قبل الكهنة للمحافظة على النظام؛ حاولوا منع من كانوا في الجزء الدّاخلي من الهيكل من الاندفاع للأمام، وتقدموا وسط الحشود التى كانت تتقدمهم، ونزلوا الدرجات التى تقود إلى خارج الهيكل: حتى إنهم استمروا فى الذبائح في بعض الأجزاء، وسعوا إلى أن يهدّئوا من رعب الناس.
قيافا وحاشيته لم يفقدوا صوابهم، وبالهدوء الذى اكتسبوه بقساوة قلوبهم، هدئوا الاضطراب إلي درجة عظيمة، وبعد ذلك فعلوا ما بوسعهم ليمنعوا الشعب من النّظر إلى هذه الأحداث الهائلة كشهادة عن براءة يسوع. أدت الحامية الرّومانية التى تخص قلعة أنطونيا جهوداً عظيمة للمحافظة على النظام؛ ولذلك، اضطراب الاحتفال بالعيد لم يتلوه شغب، ولو أن كل قلب أمتلئ بالخوف والقلق، القلق الذي سعى الفريسيون, وفي بعض الحالات بنجاح, أن يهدّئوه.
أنى أتذكّر بضع أحداث أخرى: بالدرجة الأولى، العمودان اللذان علي مدخل قدّس الأقداس، واللذان يوجد بينهما حجاب فخم، لقد تأرجحا حتى أساساتهما؛ العمود الذى على الجانب الأيسر سقط فى اتجاه الجنوب، والذي على الجانب الأيمن سقط في اتجاه الشمال، وهكذا أنشق حجاب الهيكل لنصفين من أعلى إلى أسفل بصوت رهيب، وأنكشف قدّس الأقداس إلى نّظر العامّة. أنحلّت حجارة كبيرة وسقطت من الحائط الذى في مدخل القدّس، بالقرب من الموضع الذى كان يسجد فيه سمعان الشيخ، وأنكسر القوس. ارتفعت الأرض لأعلى، وسقطت عديد من الأعمدة الأخرى في أجزاء أخرى من الهيكل.
ظهر الكاهن الأكبر زكريا، الذي ذُبح بين الهيكل والمذبح، لقد شوهد في القدّس ونطق بتهديدات رهيبة، تكلّم عن موت زكريا الثّاني , وعن موت يوحنا المعمدان، وأيضا عن الموت العنيف للأنبياء الآخرين. أبني الكاهن الأكبر سمعان, المُلقب بالبار ، ظهرا في الجزء الذى يشغله فى العادة مُعلمي الناموس؛ تكلّما أيضا بتّعبيرات رّائعة عن موت الأنبياء، عن ذبائح العهد القديم التي على وشك أن تتوقّف الآن، وقد حثّوا كل الموجودين على أن يؤمنوا بالرب يسوع كرب وفادي وأن يعتنقوا التعاليم التي أوصى بها. ظهر أيضاً النبي أرميا؛ ووقف قرب المذبح، وصرّح، بنبرة تهديد، أن الذبائح القديمة قد أتت لنهايتها، وأن ذبيحة جديدة قد بدأت.
بنما كانت تحدث ظّهورات أخرى فى الأجزاء التى لا يُسمح لأحد بالدخول فيها إلا للكهنة، كان قيافا وبضع من الآخرون فقط من يميزونها، وقد سعوا بأقصى ما يستطيعون، أمّا أن ينكروا حقيقتها، أو أن يخفونها. هذه الأعاجيب قد تليت بأعاجيب أخرى أكثر روعة. انفتحت أبواب القدّس من تلقاء نفسها، وسُمع صوت ينطق بهذه الكلمات : " فلنترك هذا الموضع " ورأيت كل ملائكة الرب تترك الهيكل فى الحال. الاثنين والثّلاثين فريسي الذين ذهبوا إلى الجلجثة قبل وقت قصير من موت يسوع آمنوا جميعهم تقريبا وهم عند الصّليب. رجعوا إلى الهيكل في وسط الفوضى، وكانوا مصعوقين تماما من كل ما حدث هناك. تكلّموا بصرامة إلى حنّان وقيافا، وتركوا الهيكل. حنان الذى كان دوماً من أكثر أعداء يسوع كراهية، وترأّس كل إجراء أُتخذ ضده؛ كان للأحداث الخارقة التي حدثت تأثيراً عظيماً على أعصابه حتى أنه لم يكن يعرف أين يخفي نفسه. قيافا كان منتبّه جداً وممتلئ بالقلق، لكن كبريائه كان عظيماً جدا حتى أنه أخفى مشاعره بأقصى ما يستطيع، وسعى أن يطمئن حنّان. نجح لبعض الوقت؛ لكن الظّهور المفاجئ للأشخاص الذين سبق أن ماتوا منذ عديد من السنوات أفسد تأثير كلماته، وصار حنّان مرة أخرى فريسة للرّعب والخوف والندم.
بينما كانت هذه الأشياء تحدث في الهيكل، لم تكن الفوضى والرّعب في أورشليم أقل. أشخاص أمواتاً كانوا يتجولون فيها، وعديد من الجدران والبنايات قد اهتزّت بالزّلزال وانهارت أجزاء منها. خَوْف بيلاطس مِن المجهول أفزعه؛ وصمت تماما من الرّعب؛ اهتزّ قصره إلى أساساته ومادت الأرض تحت قدميه. ركض بتهور من غرفة إلى غرفة، والموتى وقفوا بشكل ثابت أمامه، يوبخونه عن الحكم الجائر الذى أصدره ضد يسوع. لقد ظن إنهم آلهة الجليلي، والتجأ إلى غرفة داخلية، حيث قدم بخور ونذر نذور لأصنامه ملتمساً معونتهم. هيرودس كان مضطرباً هو أيضاً؛ لكنه أغلق قصره على نفسه، كي لا يبصره أحد .
أكثر من مائة شخص من الذين ماتوا في عهود مختلف عادوا ودخلوا الأجساد التى شغلوها عندما كانوا على الأرض، ظهروا في مختلف أجزاء أورشليم، وملئت ساّكنيها بذّعر متعذر وصفه. تلك النفوس التي أُطلقت من قبل يسوع من عالم النسيان كشّفت وجوهها وتجوّلت ذهابا وإيابا في الشّوارع، ومع أن أجسادهم كانت نفس الأجساد التي عاشوا فيها عندما كانوا على الأرض، إلا أن هذه الأجساد ما ظهرت تمسّ الأرض بينما كانت تسير. دخلوا بيوت ذويهم وأعلنوا براءة يسوع، ووبّخوا الذين شاركوا في موته بشدة. لقد رأيتهم يعبرون الشّوارع الرّئيسية؛ وكانوا يسيرون أزواجاً، وظهروا لي وكأنهم ينزلقون على الهواء بدون أن يحركوا أقدامهم. وجوه البعض كانت شاحبة؛ الآخرون كانوا بصبغة صفراء؛ لحاهم كانت طويلة، وأصواتهم كانت غريبة وكئيبة. أكفانهم كانت الأكفان التى كانت قيد الاستعمال في زمن موتهم. عندما وصلوا المكان الذى أُعلن فيه حكم الموت ضد يسوع قبل أن يبدأ الموكب نحو الجلجثة، توقّفوا للحظة، وصاحوا في صوت عالي : " المجد ليسوع إلي الأبد، والإبادة لأعدائه! ". فى نحو الساعة الرابعة عاد كل الموتى إلى قبورهم. الذبائح في الهيكل كانت قد قوطعت، والفوضى التى سببتها الأعاجيب المختلفة كانت عظيمة جدا، حتى أن بضع أشخاص أكلوا حمل الفصح فى ذلك المساء.