عرض مشاركة واحدة
قديم 07 - 11 - 2012, 05:01 PM   رقم المشاركة : ( 2 )
Magdy Monir
..::| VIP |::..

الصورة الرمزية Magdy Monir

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 12
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر : 58
الـــــدولـــــــــــة :
المشاركـــــــات : 51,017

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Magdy Monir غير متواجد حالياً

افتراضي

الفصل الخمسون


كلمات يسوع على الصّليب


إظلام الشّمس




ما أن أنتهي الجنود من صلب اللّصين وتقسّيم ملابس يسوع بينهم، حتى جمّعوا أدواتهم ووجهوا بضع كلمات مُهينة إلى الرب يسوع وذهبوا. أنطلق الفريسيون أيضاً إلى يسوع ونظروا إليه باحتقار، وتكلموا ببعض التّعبيرات المخزية، وبعد ذلك تركوا المكان. رحل الجنود الرّومان، الذين كان مائة منهم يحيطون بالجلجثة، وجاء مكانهم خمسون آخرين، تحت قيادة ابن ادار، العربي المولد، الذي اخذ بعد ذلك اسم كتسيفون في المعمودية؛ والثّاني في القيادة كان كاسيوس، الذي أصبح مسيحيا وُعرف باسم لونجينوس؛ وقد استخدمه بيلاطس بشكل متكرر كرسول. سعى اثنا عشر فريسيا واثنا عشر من الصدوقيين وعديد من الكتبة وبضع شيوخ إلى بيلاطس ليقنعوه بتغييّر اللوحة التى وُضعت على صليب يسوع، جاءوا الآن غاضبين لأن الحاكم الرّوماني رفض مطلبهم. انطلقوا حول الموضع وعندما عبروا بجوار صليب يسوع هزّوا رؤوسهم بازدراء‏ صائحين : " يا هادم هيكل الرب وبانيه في ثلاثة أيام، أنقذ نفسك, انزل عن الصّليب. فلينزل الآن المسيح ملك إسرائيل عن الصّليب، حتى نرى ونؤمن " استهزأ الجنود أيضاً منه .
وجه يسوع وكل جسده أصبح أكثر شحوباً: بدا على وشك أن يفقد الوعي، وجيماس اللّص الذى على يساره صاح "إن الشّيطان الذي بداخله على وشك أن يتركه" حينئذ أخذ جندي إسفنجه وملأها بالخلّ، وضعها على قصبة وقدّمها إلى يسوع، الذي بدا أنه يشرب. حينئذ قال له الجندي " إن كنت أنت ملك اليهود، أنقذ نفسك وانزل عن الصّليب " حدثت هذه الأمور خلال الفترة التي كانت تُستبدل فيها فرقة الجنود الأولى بفرقة ابن ادار. رفع يسوع رأسه قليلاً وقال : "أبتاه، اغفر لهم، لأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون. " وصرخ جيماس : " إن كنت أنت المسيح، أنقذ نفسك وإيانا " ديماس اللّص الذى على اليمين ظل صامتاً، لكنه تأثر بعمق من صلاة يسوع من أجل أعدائه.
عندما سمعت العذراء مريم صوت ابنها، لم تستطع أن تمنع نفسها، أسرعت للأمام وتبعها يوحنا وسالومه ومريم التى لكلوبا، واقتربوا من الصّليب، حيث لم يمنعهم القائد الروماني العطوف.
أعطت صلوات يسوع اللّص الذى على اليمين نعمة أكثر قوة؛ فتذكّر فجأة أنه يسوع ابن مريم الذي شفاه من البرص في طفولته وصاح بصوت عال وواضح فى زميله :" كيف تهينه هكذا بينما يصلّي هو من أجلك؟ لقد كان صامتاً، وعانى كل إساءتك بصّبر؛ إنه حقا نبياً, إنه ملكنا, إنه ابن الرب. " سبّب هذا التّأنيب الغير متوقّع من شفاه شرير بائس على وشك أن يموت على الصليب اضطراباً كبيراً بين الموجودين؛ فجمّعوا حجارة، ورغبوا أن يلقوها عليه؛ لكن ابن ادار القائد الروماني لم يسمح لهم بذلك.
واست صلاة يسوع العذراء المباركة كثيراً وقوّتها، وقال ديماس لجيماس، الذي كان ما زال يجدف على يسوع " ألا تخاف الرب، ها أنت تحت نفس الإدانة. ونحن نُعاقب بعدل، لأننا ننال نظير أعمالنا؛ لكن هذا الرجل لم يفعل شراً. تذكّر أنك الآن على وشك الموت وتب " لقد استنار وتأثر واعترف بآثامه إلى يسوع وقال : " إلهى، إن أنت أدنتني فذلك سيكون بعدل. " فأجابه يسوع " إنك ستختبر رحمتي" . بدأ ديماس فى الحال وقد امتلأ بالنّدم، يشكر الرب لأجل النّعم العظيمة التى نالها، وتأمل فى الآثام التى اقترفها فى حياته الماضية.
كل هذه الأحداث حدثت بين الثانية عشرة والثانية عشرة والنّصف بعد الصّلب بقليل؛ لكن حدث تغيير عجيب فى مظهر الطّبيعة أدهش الحاضرين وملأ فكرهم بالرّهبة والرّعب.
كان قليل من البرّد قد سقط حوالي الساعة العاشرة، عندما كان بيلاطس يُجيز العقوبة، وصفا الجو بعد ذلك حتى نحو الثانية عشر، حيث بدأ ضباب كثيف محمر يحجب الشّمس. نحو السّاعة الثانية عشر أظلمت الشّمس فجأة.
لقد كُشف لى السّبب لهذه الظّاهرة؛ لكنى على نحو يؤسَف له‏ نسيته جزئياُ، والذي لم أنسه لا أستطيع أن أجد الكلمات لأعبر عنه؛ لكنى أستطيع القول بأنني قد أُصعدت من الأرض، ونظرت النّجوم والكواكب تتحرّك حول مداراتها الصّحيحة. ثم رأيت القمر مثل كرة هائلة من النّار تتدحرج كما لو أنها تطير من الأرض. ثم عدت فجأة إلى أورشليم، ورأيت القمر يظهر ثانية وراء جبل الزّيتون، يبدو شاحباً وكاملاً، وتقدّم بشكل سريع نحو الشمس, التي كانت معتمة ومُلبدة بالضباب. رأيت في شرق الشّمس جسماً مظلماً كبيراً له مظهر الجبل، والذي أخفى الشّمس بالكامل فى الحال. صارت السّماء أكثر ظلمة وظهرت النّجوم تسكب نوراً أحمر بشعاً. كل من الإنسان والحيوان أصيبوا بالرّعب؛ توقف أعداء يسوع عن سبه، بينما سعا الفريسيين أن يقدموا أسباب فلسفية لما يحدث، لكنهم فشلوا في محاولتهم ولزموا الصمت. كثيرون استولى عليهم النّدم وقرعوا صدورهم صارخين : " ليقع دمه على قاتليه! " آخرون سواء كانوا قرب الصليب أو بعيدين عنه، سقطوا على ركبهم وتوسّلوا أن يغفر يسوع لهم، أدار يسوع عينيه بحنو نحوهم في وسط آلامه. واستمرّت الظّلمة فى ازدياد، وترك الجميع الصّليب باستثناء العذراء مريم ورفاق يسوع المخلصين.
رفع ديماس رأسه حينئذ، وبنغمة متواضعة وبرجاء قال ليسوع " إلهى، تذكّرني عندما تجيء إلى ملكوتك". وأجابه يسوع " الحق أقول لك, أنك اليوم ستكون معي في الفردوس ", وقفت المجدلية ومريم التى لكلوبا ويوحنا بقرب صليب الرب يسوع ونظروا إليه، بينما توسّلت العذراء المباركة إلى ابنها، ممتلئة بالمشاعر الحبّ الأمومي الشديد، أن يجيز لها أن تموت معه، لكنه ألقي نظرة رّقيقة عليها تفوق الوصف والتفت إلى يوحنا وقال : يا امرأة، هو ذا ابنك " ثم قال ليوحنا : " ها هى ذى أمك " نظر يوحنا إلى فاديه المحتضر وحيّا هذه الأمّ المحبوبة التي اعتبرها من ذلك الوقت أمه بأسلوب بغاية التوقير. غلب الحزن العذراء المباركة من كلمات يسوع هذه فغابت عن الوعي تقريبا، وحُملت إلى مسافة صغيرة من الصّليب من قبل النّساء القديّسات.
لقد شعرت بشكل داخلي أن يسوع أعطى مريم إلى يوحنا كأمّ، ويوحنا إلى مريم كابن. فى رّؤى مشابهة كنت أشعر غالبا بالأشياء الغير مكتوبة، والكلمات ممكن أن تُظهر فقط جزء منها، أن مدلولها يكون واضحاً ولا يتطلّب أي تفسير. لهذا السبب لم أندهش لكون يسوع يدعو العذراء المباركة يا امرأة، بدلا من أن يدعوها يا أمي. لقد شعرت أنّه قصد أن يبرهن أنّها هى تلك المرأة التى تكلّم عنها في الكتاب المقدّس التي ستسحق رأس الحية، وأنه فى تلك اللّحظة قد تحقق ذلك الوعد بموت ابنها. لقد عرفت بأنّ يسوع، بإعطائها كأمّ إلى يوحنا، أعطاها أيضا كأمّ إلى كل من يؤمنون به، الذين صاروا أبناء الرب، ولم يولدوا من لّحم ومن دّم، أو من مشيئة إنسان، بل من الرب وُلدوا. لم يبدوا لي مفاجئاً أن الأكثر طُهراً، الأكثر تواضعا، والأكثر طاعة بين النّساء، التي، عندما حياها الملاك دعاها " الممتلئة نّعمة " أجابت على الفور " ها أنا آمة الرب، ليكن لي كقولك " والتى صار الكلمة فى الحال فى رحمها المقدّس جسداً، التي، عندما اعلمها ابنها المحتضر أنها ستصبح الأمّ الرّوحية لأبن آخر، أجابت بنفس الكلمات بطاعة متواضعة، وتبنت فى الحال كل أبناء الرب كأولاد لها وأخوة ليسوع المسيح. أن هذه الأمور أسهل أن تشعر بها بنعمة الرب أكثر من أن يًعبر عنها‏ بالكلمات. أتذكّر مرة قال لى فيها عريسي السّماوي " أن كل شيء يُدمغ في قلوب أولاد الكنيسة الذين يؤمنون ويترجون ويحبون "
كانت حوالي الساعة الواحدة والنّصف عندما آُخذت إلى أورشليم لأرى ما يحدث. كان السّكان هناك بغاية الرّعب والقلق؛ الشّوارع مظلمة وكئيبة، وبعض الأشخاص كانوا يلتمسون طرقهم بها، بينما الآخرون، جلسوا على الأرض ورؤوسهم مُغطاة ويقرعون صدورهم، أو يصعدون لأسطح بيوتهم، ينظرون إلي السّماء وينفجرون في بكاء مرّ. حتى الحيوانات أطلقت نداءات حزينة، واخفت نفسها؛ الطّيور طارت وحطت على الأرض. رأيت بيلاطس يتشاور مع هيرودس على حالة الانزعاج السائدة, كلاهما كان مضطربا بشدة، وتأمّلا مظهر السّماء من الشرفة التى كان يقف بها هيرودس عندما اسلّم يسوع ليُهان من قبل الرّعاع الغاضبين. صاح كلاهما : " أن هذه الأحداث ليست من السياق الشائع للطّبيعة، لابد أن يكون سببها غضب الآلهة التى استاءت من القسوة التي لاقاها يسوع الناصري" , أحاط الجنود ببيلاطس وهيرودس بينما كانا يتجهان بخطي مرتعشة متعجلة إلى قصر هيرودس. التفت بيلاطس برأسه عندما عبر جباثا التى حكم فيها على يسوع بالصلب، الميدان كان فارغاً تقريبا؛ بضعة أشخاص كانوا يرون عائدين لبيوتهم بأسرع ما يستطيعون، وآخرون يركضون ويبكون، بينما ظهرت مجموعتان صغيرتان أو ثلاث على البعد.
أرسل بيلاطس فى طلب بعض الشيوخ وسألهم عن ما تنذر عنه هذه الظّلمة العجيبة فى رأيهم، وقال إنّه يعتبرها برهاناً رهيباً عن غضب إله اليهود بصلب الجليلي، الذي كان بكل تأكيد نبيهم وملكهم وأضاف أنّه ليس عليه شيء ليلوم نفسه عليه، لأنه غسل يديه من القضية بالكامل، وأنه بهذا برئ تماما. كان الشيوخ قساة كعادتهم دوماً وأجابوا بنغمة متجهّمة، أنه ليس هناك شيء غير طبيعي فى سياق الأحداث وأنه ممكن تعليل الظلمة بسهولة من قبل الفلاسفة، وإنهم ليسوا نادمين على أي شئ مما فعلوه. على أية حال، فقد آمن عديد من الأشخاص ومن بينهم أولئك الجنود الذين وقعوا على الأرض من كلمات يسوع عندما أُرسلوا ليعتقلوه في بستان الزّيتون.
تجمّع الرّعاع أمام دار بيلاطس، وبدلا من الصياح " أصلبه، أصلبه! " الذي دوّى في الصّباح، سُمع فقط صيحات " فليسقط القاضي الجائر! ليقع دم هذا الرجل البار على قاتليه! ". كان بيلاطس منزعجاً كثيراً؛ طلب حرّاس إضافيين، وسعى أن يضع كل اللائمة على اليهود. أعلن ثانية أن الجريمة لم تكن جريمته؛ أنه لم يكن له موضوع مع يسوع، وإنهم من جلبوا له الموت على نحو ظالم، وإنه كان ملكهم ونبيهم وقدّوسهم؛ وبالتالي هم فقط المذنبون، كما يجب أن يكون واضحاً للجميع أنه أدان يسوع فقط من قبل الإكراه
عجّ الهيكل باليهود الذين كانوا مُعتزمين ذبح حمل الفصح؛ لكن عندما ازدادت الظّلمة إلى هذه الدرجة حتي أنه كان من المحال أن تُميّز شخصاً من الأخر، استولى عليهم الخوف والرعب والفزع وعبروا عن ذلك بصرخات الحزن والبكاء. سعى رؤساء الكهنة إلى أن يفرضوا السكون والهدوء. أُشعلوا كل القناديل؛ لكن الاضطراب كان يتعاظم فى كل لحظة، وبدا حنان مشلولاً تماما بالرّعب. لقد رأيته يسعي ليختبئ فى موضع وبعد ذلك في موضع آخر.
عندما تركت الهيكل، ومشيت فى شّوارع أورشليم ، رأيت أبواب ونوافذ البيوت تهتز كما لو أنها في زوبعة، مع أن الهواء كان ساكناً، وكانت الظّلمة تزداد كثافة فى كل لحظة .
الذّعر الناتج عن الظّلمة المفاجئة في جبل الجلجثة كان متعذراً وصفه. عندما بدأت، كان تشويش جلبة المطارق وصخب الرّعاع وصراخ اللّصين عند تقيدهما إلى صليبهما وأحاديث‏ الفريسيون المُهينة، وتقيم الجنود وصيحات الجنود السكارى، كان كل ذلك قد يستغرق بالكامل انتباه كل شخص، والتّغيير الذي كان يجيء تدريجياً على وجه الطّبيعة لم يكن يلاحظه أحد؛ لكن ما أن ازدادت الظّلمة حتى توقف كل صوت، وأخذ الندم والرعب يملكان على كل قلب، بينما ابتعد الحاضرون كل واحد عن الآخر وابتعدوا عن الصّليب.
تلي ذلك أن أعطي يسوع أمه إلى القديس يوحنا، وفقدت الوعي جزئياً وحُملت بعيداً لمسافة قليلة. بينما استمرت الظّلمة تزداد بصورة أكثر كثافة، الصّمت صار مّذهلاً تماما؛ بدا كل شخص فى رعب؛ نظر البعض نحو السّماء، بينما التفت الآخرون نحو الصّليب، كانوا ممتلئين بالنّدم وقرعوا صدورهم وآمنوا. مع أن الفريسيون كانوا في واقع الأمر منزعجين تماما بنفس القدر كالآخرين، إلا إنهم سعوا في بادئ الأمر أن يبدوا متماسكين لما يحدث، وأعلنوا إنهم لا يروون أي شيء غير قابل للتفسير في هذه الأحداث؛ لكن أخيرا فقدوا سلامهم وفّضلوا الصمت.
كان قرص الشّمس كان قد صُبغ بالظلمة، كان بالأحرى يشبه جبلاً عندما يُشاهد بضوء القمر ومُحاط بحلقة نارية ساطعة؛ ظهرت النّجوم، لكنّ ضّوئها كان محمراً وشاحباً؛ كانت الطّيور بغاية الفزع وحطت على الأرض؛ البهائم ارتعدت وناحت؛ خيل وحَمير‏ الفريسيون زحفت أقرب ما يمكن لبعضها البعض، ووضعوا رؤوسهم بين سيقانهم. اخترق الضّباب السّميك كل شيء.
خيم السّكون حول الصّليب. يسوع مُعلّقا عليه وحيداً؛ متروكاً من قبل الجميع، من التلاميذ والمعارف والأصدقاء، حتى أمه أبعدوها من جانبه؛ ولا شخص واحد من الآلاف الذين أغدق عليهم بالمنافع كان قريباً منه ليقدم له أدنى تّخفيف لمعاناته المرّة، نفسه كانت ملآنة بشعور متعذر وصفه من المرارة والأسى، كل شئ داخله كان كئيباً ومظلماً وبائساً. الظّلمة التي خيمت حوله كانت مجرد رمز لما انتشر داخله؛ وعلى الرغم من هذا التفت إلى أبيه السّماوي وصلّى من أجل أعدائه، مقدماً كأس آلامه لأجل فدائهم، استمرّ يصلّي كما كان يفعل خلال كل آلامه، وكرّر أجزاء من تلك المزامير التى تّنبأت عنه والتى تتحقق فيه الآن ورأيت الملائكة تقف حوله.
نظرت ثانية إلى يسوع, عريسي الحبيب, على صليبه، معذّباً ويحتضر، ومع ذلك ما زال في عزلة كئيبة. لقد تحمل في تلك اللّحظة الألم الذي لا يستطيع أن يصفه قلم، لقد شعر بذلك الألم الذي يغمر إنساناً ضعيفاً مسكيناً حُرم فى لحظة من كل تّعزية، سواء إلهية أو بشرية، وبعد ذلك يُرغم على عبور صّحراء عاصفة بمفرده، بدون أي معونة أو نور، مُدعوماً فقط بالإيمان والرجاء والمحبة.
أن آلامه كان متعذر وصفها؛ لكن من قبلها نحن استحققنا نّعمة ضرورية لنقاوم ذلك الأغراء الذى سيهاجمنا ليجعلنا نيأس في سّاعة الموت، تلك السّاعة المروِّعة‏ عندما سنشعر بأنّنا على وشك أن نترك كل ما هو عزيز علينا هنا على الأرض. عندما يفقد ذهننا الضعيف من قبل المرض قوة التّفكّير، وحتى آمالنا فى الرّحمة والمغفرة تصبح مغلّفة بالغشاوة والشك، حينئذ علينا أن نهرب إلى يسوع، نوحّد مشاعرنا بالعزلة مع مشاعر العزلة المتعذر وصفها التي تحمّلها على الصّليب، ونكون واثقين من الحصول على غلبة مجيدة على أعدائنا. لقد قدم يسوع إلى أبيه السّرمدي فاقته وهجره وأعماله، وقبل كل شيء، الآلام المرة التى سبّبتها تحمّله لها في التّكفير عن آثامنا وضعفاتنا؛ لهذا لا أحد قد وحّد نفسه بيسوع في أحضان كنيسته يجب أن ييأس في تلك اللّحظة المرعبة التى تسبق خروجه من هذه الحياة، حتى لو كان محروماً من كل بصيص الوعي والرّاحة؛ لأنه يجب أن يتذكّر حينئذ أنّ المسيحي لم يعد ملزما أن يدخل هذه الصّحراء المظلمة وحيداً وغير محمياً، لأن يسوع قد تحمل عنا بهذا الترك الذى عاناه على الصليب سواء الهجر الدّاخلي أو الخارجي ما كان ينبغى أن نشعر به فى لحظة الموت، بِناء على ذلك‏ فإنه لن يُترك ليتغلب على مشكلات‏ الموت بمفرده، أو يعانى من أن يترك هذا العالم بترك الرّوح، محروماً من التّعزية السّماوية. لهذا يجب أن نترك كل الخوف من الوحدة واليأس في الموت؛ لأن يسوع، الذي هو نورنا الحقيقي والطّريق والحق والحياة، قد سبقنا فى ذلك الطّريق الكئيب، لقد نشره بالبركات، ورفع صليبه فوقه، لمحة واحدة عليه ستهدّئ كل خوفنا.
لقد قدم يسوع وصيّته لأبيه وأورث استحقاقات موته وآلامه إلى الكنيسة وإلى الخطاة. لم تُنس نفس مُخطئة واحدة؛ لقد فكّر فى كل شخص؛ مصّلياً، أيضاً، حتى من أجل أولئك الهراطقة الذين سعوا إلى إن يبرهنوا بأنّه لكونه إلهاً فأنه لم يُعانى كإنسان. إن الصراخ الذي سُمح أن يعبر على شفاهه في علو معاناته لم يدل فقط عن زيادة الآلام التى كان يتحمّلها حينئذ، بل كانت أيضاً ليشجّع كل النفوس المبتلية التي تعترف بالرب كأبيها أن تضع حزنها بثّقة بنوية عند قدميه.
لقد كانت نحو الساعة الثالثة عندما صرخ يسوع بصوت عال : " إلوي، إلوي لما شبقتني ؟ " التى معناها " إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟ " هذه الكلمات لإلهنا قطعت الصّمت المميت الذي استمرّ طويلاً؛ التفت الفريسيون نحوه، وقال واحد منهم : " ها هو ينادى إيليا " وآخر قال " فلنرى إن كان إيليا سيجيء لينجيه " . عندما سمعت مريم صوت ابنها الإلهي، كانت عاجزة عن أن تمنع نفسها أكثر، بل اندفعت للأمام، ورجعت إلى أقدام الصّليب، وتبعها يوحنا ومريم التى لكلوبا ومريم المجدلية وسالومة.
كانت فرقة من حوالي ثلاثين خيالاً من اليهودية وضواحي يافا فى طريقهم إلى أورشليم للاحتفال بالعيد، تعبر عندما كان كل شئ حول الصليب صامتاً، الجميع كانوا مملوءين بالرّعب والخوف. عندما نظروا يسوع مُعلقاً على الصليب، رأوا القسوة التى عُومل بها، وميزوا العلامات الاستثنائية لغضب الرب التي ملأت الطّبيعة، امتلئوا بالرّعب وصاحوا " لو لم يكن هيكل الرب في أورشليم، لكانت المدينة احترقت حتى الأرض لكونها آخذت على نفسها هذه الجريمة المخيفة ", هذه الكلمات التى جاءت من شفاه غرباء, بدوا كأشخاص ذوى شأن كبير, تركت تأثيراً عظيماً على الحاضرين وهمهمة عالية وصياحاً حزيناً قد سمع من كل جانب؛ تجمّع بعض الأشخاص سوية في مجموعات، مطلقين العنان لأحزانهم، ولو أن جزء من الحشد استمرّ يسب ويلعن كل من حوله.
أضطر الفريسيون أن يُظهروا نغمة أكثر تواضعا، لأنهم خافوا من عِصيان مسلَّح‏ بين الناس، لكونهم مدركين جيّداً للإثارة العظيمة الموجودة بين سكان أورشليم. لهذا استشاروا ابن أدار، القائد الروماني، واتفقوا معه أن تُغلق بوّابة المدينة، التي بجوار موضع الصليب، لمنع أى اتصال إضافي، وإنهم يجب أن يرسلوا إلى بيلاطس وهيرودس حوالي خمسمائة رجل ليمنعوا أى فرصة للتمرد، القائد الروماني، في أثناء ذلك كان يفعل كلّ ما فى قدرته ليحافظ على النظام ويمنع الفريسيون من إهانة يسوع، خشية أن يثير ذلك الناس.
بعد الساعة الثالثة بقليل بدأ النور يظهر ثانية، بدأ القمر يبتعد عن قرص الشّمس، بينما أشرقت الشّمس ثانية، ولو أن ظهورها كان خافتاً، لكونها محاطة بسّحب حمراء؛ أصبحت تدريجياً أكثر سطوعا، واختفت النّجوم، لكن السّماء كانت ما زالت كئيبة. استعاد أعداء يسوع روحهم المتغطرسة عندما رأوا النور يرجع؛ وعندئذ صاحوا : " ها هو ينادى إيليا "
كان يسوع يغيب عن الوعي تقريبا؛ لسانه كان جافاً وقال : " أنى عطشان " نظر التلاميذ إليه بأعمق تّعبير عن الحزن، أضاف يسوع " ألم تستطيعوا أن تعطوني قليلاً من الماء ؟ " بهذه الكلمات أعطاهم أن يفهموا بأنّ لا أحد كان سيمنعهم من فعل ذلك خلال الظّلمة. ملئ يوحنا بالنّدم وأجاب: " نحن لم نفكّر أن نفعل هذا يا رب " نطق يسوع ببضع كلمات أكثر، بمعنى : " إن أصحابي ومعارفي قد نسوني أيضاً، ولم يعطوني لأشرب، هذا ليتم المكتوب " هذا الإهمال قد أذاه كثيرا جدا ً" حينئذ عرض التلاميذ مال على الجنود ليأذنوا لهم أن يعطوه قليل من الماء لكنهم رفضوا، لكنهم غمّسوا إسفنجه في الخلّ الممزوج بالمر وكانوا على وشك أن يقدموها ليسوع، عندما آخذها منهم ابن ادار القائد الروماني، الذي تأثر قلبه وغمس إسفنجه فى بعض الخلّ وربطها إلى قصبة، وضع القصبة في نهاية رمح، وقدّمه ليسوع ليشرب. سمعت الرب يقول بضعة أشياء أخرى، لكنى أتذكّر فقط هذه الكلمات : " عندما سيصمت صوتي، ستُفتح أفواه الموتى"
حانت سّاعة يسوع أخيرا؛ كفاح موته قد شرع؛ انتشر العرق على كل أطرافه. وقف يوحنا عند قدم الصليب، ومسح قدمي يسوع بردائه. انحنت المجدلية بتذلّل‏ على الأرض بانسحاق تام وأسى خلف الصّليب. وقفت العذراء المباركة بين يسوع واللّص اليمين، مستندة على سالومة ومريم التى لكلوبا، وعيناها مثبّتتان على وجه ابنها المحتضر. حينئذ قال يسوع : " قد أُكمل " ورفع رأسه وصرخ بصوت عظيم " أبتاه، في يديك أستودع روحي." هذه الكلمات، التي نطقها بنبرة واضحة وعالية، دوّت خلال السّماء والأرض؛ وبعدها أنحني رأسه واسلم الروح.
لقد رأيت نفسه، بصورة تُشبه نيزك ساطع، تخترق الأرض عند موطئ الصّليب. ركع يوحنا والنّساء القديّسات ساجدين على الأرض. ثبت ابن ادار القائد الروماني عينيه بقوة على وجه يسوع، وقد غُمر بالكلية بكل ما حدث. عندما نطق يسوع كلماته الأخيرة، ارتجفت الأرض وتشققت صخرة الجلجثة، مًشكّلة هوّة عميقة بين صليب يسوع وصليب جيماس.
تردد صوت يسوع خلال كل الكون؛ وقد كسر الصّمت المهيب الذي تخلّل كل الطّبيعة. كل شئ قد تمّ. نفس يسوع تركت جسده: ملأت صرخته الأخيرة كل صدر بالرّعب. قدمت الأرض المشققة الإجلال إلى خالقها: طعن سيف الأسى قلوب أولئك الذين أحبّوه. هذه اللّحظة كانت لّحظة نّعمة لأبن ادار؛ ارتعد حصانه من تحته؛ تأثر قلبه؛ لقد كان قلبه كالصخر الصلب؛ ألقى برمحه بعيداً، قرع صدره وصرخ : " مُبارك يكون الإله العلى، إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب؛ حقا أن هذا الرّجل كان ابن الرب! " أقنعت كلماته عديداً من الجنود، التي تبعوا مثاله، وتحوّلوا أيضاً إلى الإيمان بيسوع ربا وفاديا .
اصبح ابن ادار من تلك اللّحظة إنساناً جديداً؛ مُمجداً الإله الحقيقي، ولم يعد يخدم أعدائه. أعطى حصانه ورمحه إلى ضابط اسمه كاسيوس، الذي، بعد ما خاطب الجنود ببضع كلمات، أمتطي جواده، واخذ على عاتقة السّيطرة على المكان. ترك ابن ادار حينئذ الجلجثة، وذهب إلى وادي جِيحُونَ إلى مغارات في وادي هنوم، حيث اختبأ التّلاميذ، وأعلن لهم عن موت يسوع، وذهب بعد ذلك إلى المدينة، ليلاقى بيلاطس.
ما أن أعلن ابن ادار شهادته على الملأ بإيمانه بألوهية يسوع، حتى تبعه عدد كبير من الجنود، كما فعل أيضا بعض من الموجودين، وكثير من الفريسيون قرعوا صدورهم باكين وعادوا إلى بيوتهم، بينما مزق آخرون ملابسهم وأهالوا التراب على رؤوسهم، وامتلأ الجميع بالرّعب والخوف. نهض يوحنا وأتت بعض من النّساء القدّيسات اللواتي كنّ على مسافة قصيرة إلى العذراء المباركة وأخذوها بعيدا عن الصّليب.
عندما أسلم يسوع، رب الحياة, روحه في يدي أبيه، وسمح للموت أن يملك على جسده، أرتجف هذا الجسد المقدّس وصار شاحباً جداً؛ بدت الجراح الغير معدودة التي تغطت بالدم المتجمد كعلامات داكنة؛ خداه صارا غائرين أكثر، أنفه أكثر تدبّبا، وعيناه اللذان قد حجبا بالدّم، بقيتا شبه مفتوحة. رفع رأسه المرهق، الذي كان ما زال متوّجاً بالأشّواك، للحظة، وبعد ذلك سقط ثانية في معاناة الألم؛ بينما شفاهه الجافّة والممزّقة كانت مُغلقة جزئيا وبدا لسانه دّمويا ومنتفخ. في لحظة الموت فُتحت يديه، التي كانت قد تقلّصت حول المسامير فى وقت من الأوقات، فُتحتا وعادتا إلى حجمها الطّبيعي وكذلك ذراعيه؛ جسده أصبح جثّة، وثقله بالكامل قد أُلقي على قدميه، ركبتاه انحنتا وقدماه التفتتا قليلا على جانب واحد.
ما من كلمات ممكن أن تُعبر عن أسى العذراء المباركة, عيناها منًغلقتان، شاحبة كالموتى؛ عاجزة عن أن تقف, فسقطت على الأرض، لكن النساء أقمنها سريعاً واستندت على يوحنا والمجدلية والآخرون. نظرت أكثر من مرة على ابنها الحبيب, ذلك الابن الذي حبلت به من الروح القدس، إنه لحم من لحمها وعظم من عظامها وقلب من قلبها, على الصليب بين لّصين؛ مخزياً ومصلوباً، مُداناً من قبل من جاء إلى الأرض كي يخلصهم؛ ولعله جيّداً أن تُلقب في تلك اللّحظة بـ " ملكة الشهداء. "
الشّمس ما زالت تبدو خافتة؛ وخلال وقت الزّلزال كان الهواء راكداً وثقيل الوطأة‏، لكن مع الوقت اصبح صافياً ومتجدداً .
عندما مات يسوع كانت حوالي الساعة الثالثة. كان الفريسيون في بادئ الأمر مرتعبين من الزّلزال؛ لكن عندما مرت الصّدمة الأولى استعادوا أنفسهم، بدءوا يلقون الأحجار في الهوّة، وحاولوا أن يقيسوا عمقها بالحبال. اكتشفوا إنهم لا يستطيعوا أن يقيسوا عمق قاعها، اصبحوا مستغرقين في التفكير‏، يستمعون بقلق‏ إلى آهات النّادمين، الذين كانوا ينوحون ويقرعون صدورهم، وبعد ذلك تركوا الجلجثة. آمن عديد من الموجودين حقا، والجزء الأعظم منهم عاد إلى أورشليم مغلّوباً تماما بالخوف.
وُضع الجنود الرومان علي الأبوّاب وفي الأجزاء الرئيسية الأخرى من المدينة، ليمنعوا احتمال التمرد. بقى كاسيوس على الجلجثة مع حوالي خمسين جندياً. وقف رفاق يسوع حول الصّليب، يتأمّلون الرب ويبكون؛ عديد بين النّساء القدّيسات رجعن إلى بيوتهن، وكنّ صامتات ومغلّوبات بالأسى.
  رد مع اقتباس