الفصل الرابع والثلاثون
جلد يسوع
كرر بيلاطس عدَة مراتُ عبارة " أنى لست أَجدُ جُرماً فيه, لذا سَأؤدبه ثم أطلقه " لكن اليهود استمرّوا يَرْددّون، " اَصْلبه! اصلبه!" لكنه صَمّمَ على أن يَتمسّكَ بقراره بعدم إُدانةُ الرب إِلى الموتِ، وأَمر أنْ يُجْلَدُ طبقاً للأسلوب الروماني.
اَقتاد الحرّاس يسوع وسط الحشود الغاضبةِ إِلى الساحة، وفعلوا ذلك بوحشيةِ بالغة، في نفس الوقت واصلوا سبه وأهانته، وضَربه بعصيهم.
يقع العمود الذى كان يُجلد عليه المجرمون شمالِ قصرِ بيلاطس، قُرْب بيت الحرسِ، وَصل الجلاّدون فى الحال، حاملين السياط والعصي والحبال، التى القوها أسفل العمود. لقد كَانوا ستة أفراد، ذى بشرة داكنة، أقصر قليلا من يسوع؛ صدورهم مغُطاة بقطعةِ من الجلد، أذرعهم القوية المشعرة عارّية. كَانوا أشراراً من تخوم مصر وقد أدينوا لأجل جرائمهم بالأشغال الشاقةِ، وقَدْ استخدموا من حيث المبدأ في شق القنواتِ، وفي نَصْبِ البناياتِ العامّةِ، لقد اُختير الأكثر جرماً ليَقُوموا بدور الجلادين في دار الولاية.
هؤلاء الرّجالِ القساة كَانوا قد جلدوا عديداً من المرات مذنبين مساكين علي هذا العمودِ حتى الموتِ. إنهم يشَبهون الوحوشَ أو الشياطين، وبَدوا نصف سكارىِ. ضَربوا الرب بقبضات أياديهم، وجروه بالحبالِ التي كان مُكبلاً بهاَ، مع أنه تبعهم دون أن يبدى أدنى مقاومةِ، وفى النهاية طرحوه بشكل بربري عند العمودِ. وُضعَ هذا العمودِ وحده في منتصف القاعة ولم يكن له أى دور فى حمّلَ أي جزءِ من البنايةِ؛ لم يكن مرتفعاً، كان ممكن لأي إنسان طويلِ القامة أَنْ يَمْسَّ قمّته بمِدِ ذراعه؛ كَانت هناك حلقة حديديةَ عند قمته، وحلقة وخُطاف أسفل قليلا. من المستحيل تماماً أَنْ أصفَ القسوة التى رأيتها فى هؤلاء الأشرارِ تجاه يسوع: لقد مَزّقوا العباءةَ التى كَانَ مكتسي بها عندما سّخروا منه في محكمةِ هيرودس، وطرَحوه شبه ساجداً.
أرتعد يسوع وارتجف عندما وَقفَ قبالة العمودِ، وخلع ملابسه بسرعة بقدر ما يستطيع، لكن يديه كَانتا ملطختين بالدماء ومتورمتين. المقابل الوحيدة الذى صنعه عندما ضربه جلادوه المتوحشون وسبوه كَانَ الَصلاة من أجلهم بأسلوبِ مؤثر للغاية: أدارَ وجهه مرة نحو أمه، التي كَانتْ تَقفُ مقهورة بالأسىِ؛ هذه النّظرةِ أفقدتها شجاعتها تماماً: غِابتْ عن الوعي، وكَادت أن تَسْقطُ، لولا أن النِّساءُ القدّيساتُ سندنها. وضع يسوع ذراعيهَ حول العمودِ مطوقاً إياه، وعندما رُفعت يداه هكذا، قيدها الجلادون بالحلقة الحديدية التي علي قمةِ العمودِ؛ ثم شدوا ذراعيه عالياً بحيث كانت قدميه المقيدة بأحكام بقاعدةِ العمودِ تمَسَّ بالكاد الأرضَ. هكذا كَانَ قدوس القديسين ممدّداً بقسوة، بدون أى لُباسِ، على عمودِ يستعملَ لعقابِ اعتي المجرمين؛ وبعد ذلك بدأ شريران هائجان متعطشان لدمه بأسلوب بغاية البربرية يَجْلدَان جسده المقدّس من الرّأسِ إِلى القدمينِ. السّياط التي استعملوها أولا بدت لي مصنوعة من نوع من الخشب الأبيضِ المرنِ، لكن ربما كانت تنتهي بأوتار الثيرانِ، أو بأشرطةِ من الجلدِ.
إلهنا الحبيب، ابن الرب، الإله الحقيقي والإنسان الحقيقي، تَلوّى تحت ضرباتِ هؤلاء البرابرةِ؛ آهاتَه العميقةَ كانت تُسْمعُ من بعيد؛ لقد دَوت خلال الأثيرِ. هذه الآهاتِ تشَبه بالأحرىَ صراخاً مؤثراً نابعاً من الصّلاةِ والتّضرّعِ أكثر من كونها أنيناً من الألمِ. صخب الفريسيون والشعب شَكّل نوعاً أخرَ من المصاحبة، كانت في بعض الأوقات مثل زوبعةِ رعديةِ تجلب الُصمّم تخَفّت وتخَنق هذه النّداءاتِ المقدّسةِ والمحزنةِ، وترددت صيحات " أسلمه إِلى الموتِ! أَصْلبه!" أستمر بيلاطس يَتفاوضُ مع الشعب، وعندما طَلبَ الصمتَ ليستطع الَتكلّمَ، كان مضطراً إلى أَنْ يعلن عن رغباته إِلى الحشود الصّاخبةِ بصوتِ البوقِ، وفي مثل هذه اللّحظاتِ رُبَما تَسْمعَ ثانية أصوات السّياطِ وأنين يسوع ولعنات الجنودِ، وَمأمأة حملانِ الفصحِ التي كَانت تُغْسل في بركةِ بروباتيكا، على مسافةُ قريبة من الساحة. كَانَ هناك شيء ماَ مؤثر بشكل غريب في المأمأة الحزينة لهذه الحملانِ: لقد بدت كأنها توحّد أنينها وتمزجه بالأنين المؤلم لمخلصنا.
تُجمّع غوغاء اليهود علي مسافةِ قليلة من العمودِ حيث كَان يتم العقاب المُخيفِ، وكان الجنود الرومان منتشرين في مناطق مختلفةِ. عديد من الأشخاصِ كَانوا يَمْشونَ ذهاباً وإيابا، البعض في صّمتِ، وآخرون يَتكلّمونَ عن يسوع بأكثر التعبيرات مهانة، وبدا القليل متأثر، واعتقد أنى نَظرتُ أشعةَ من النور تُصدرُ من إلهنا وتدُخُلِ قلوبِ هؤلاء.
رَأيتُ مجموعاتَ من الشّبابِ الوقح والسّيئ السمعة، يشغلون أنفسهم قُرْب دار الحراسة في إعْداْدِ سياطِ جديدةِ، بينما ذَهبَ الآخرون ليَنشدوا فروعاً من الأشّواكِ. ْبعض من خدمِ رؤساء الكهنة صعدوا إِلى الجلادين المتوحشين وأعطوهم أموالاً ودورقاً كبيراً ممتلئ بسائلِ أحمرِ ساطع أسكرهم تماماً، وزِادَت قسوتهم نحو ضحيتهم البريئة عشرات الأضعاف. استمرّ الشّريران يَضْربان إلهنا بعنفِ متواصلِ لمدة ربع ساعةِ، ثم استبدلا بآخرين. لقد تغطى جسده بالكامل بعلامات زرقاء وسوداء وحمراء؛ الدّم كَانَ يقطّرُ ساقطاً على الأرضِ، ومع ذلك أظهرت النّداءات الغاضبة التي صدرتْ من اليهودِ المُتجَمَّعين أنّ قسوتهم كَانتْ بعيدةَ من أن تَكُونُ مُشبَعة.
شرع الجلادان الجديدان فى جَلْد يسوع بأقصى ضراوة ممكنة؛ لقد استعملا نوعاً مختلفاً من العصي، نوع من العصي الشّائكِة، مغَطاة بالعقدِ والنتوءات. الضّربات من هذه العصي مَزّقتْ لحمه إِلى قِطَعِ؛ اندفع دمه ليُلطّخَ عصيهم، وهو تَأَوَّه وصَلَّى وارتجفَ. فى هذه اللّحظةِ، اجتاز الساحة بعض الغرباءِ الممتطين الجمال؛ توَقفوا للحظةِ، وقَدْ تُأثروا تماماً برّحمةِ ورّعبِ من المشهدِ الذى أمامهم، وَضّحَ بعض من الموجودون لهم سببَ ما يشَهدونه. كَانَ بعض من هؤلاء المسافرين قَدْ تعمّد على يد يوحنا، والآخرون قَدْ سَمعوا عظة يسوع على الجبلِ. كَان صخب وجلبة الغوغاءِ يصم الأذان حتى قُرْب دارَ بيلاطس.
آخذ جلادان جديدان أماكن الأخيرينِ، كانت سياطهم مصنوعة من سّلاسلِ صّغيرةِ، أو أشرطة مغَطاة بخطّافاتِ حديديةِ، لقد كانت تخترق إِلى العظم وتمَزّقْ قِطَعاً كبيرة من اللّحمِ في كل ضربةِ. أى كلمات مُمكنُ أَنْ تَصفَ هذا المشهد الفظيع ؟ ليس هناك كلمات ممكن أن تصفه!
مع ذلك, قسوة هؤلاء البرابرةِ لم تشبع بعد؛ حَلا يسوع ورْبُطاه ثانية بظهره ملتصق بالعمودَ. ولأنه كَانَ عاجزاً بالكلية عن أَنْ يَسند نفسه في وضع الوقوف، أجازوا الحبال حول خصره وتحت ذراعيهِ ومن فوق رُكَبتيه، وقيدوا يديه بإحكام في الحلقاتِ التي وُضِعتْ في الجزءِ الأعلى من العمودِ، وجْلداه بضراوة أعظمِ من ذى قبل؛ واحد منهم ضَربه بشكل ثابت على وجههِ بعصاِ جديدةِ. لقد تمزق جسد إلهنا تماماً إِلى قطع صغيرةِ، إنه لم يكن سوى جرحَ واحد. لقد نَظرَ إلى مُعذبيه بعينيه الملآنة بالدّمِ، كما لو أنه ينشد الرحمة؛ لكن وحشيتهم بدت أَنْها تَزدادَ، وتأوهاته صارت تخفت أكثر فى كل لحظة.
تواصل الجَلْد المُخيف بلا توقف لمدة ثلاثة أرباعِ الساعةِ، حينئذ أسرع من وسط الحشودِ إنسان غريب قريب لكتسيفون، الرّجل الأعمى الذي أبرأه يسوع، واقتربَ من العمودِ بسكينِ على شَكّلَ سيف قصير مقوّس في يدّه. وصاح بنغمةِ غاضبة : كفى! كفى! لا تجلدوا هذا الرّجلِ البريء حتى الموت! " آَخذوَا الأوغاد السّكارى على حين غرة، توَقفاَ لبرهةَ، بينما قَطعَ الرجل الحبالَ التي تُقيد يسوع بالعمودِ بسرعة واختفىَ بين الحشودِ. سَقطَ يسوع تقريباً دون وعي على الأرضِ، التي قَدْ اغتسلت من دماه. تركه الجلادان هناك، وانضما ثانية إلى رفاقهم القساة، الذين كَانوا يَسلّونَ أنفسهم في دارِ الحراسِة بالشُرْبِ، وضَفْر إكليل الشّوكِ.
ظل إلهنا لوقتِ قصيرِ على الأرضِ، عند العمودِ، مستحمَّاً في دمه، واقتربت بعض الفتيات الوقحات ليَرضينَ فضولهن بالنَظْر إليه. ثم اَستدرن مشمئزات، في هذا الوقت كانت ألام جراحِ يسوع شديدة جدا حتى أنه رُفِعَ رأسَه النَازْفة ونَظرَ إليهن. تراجعن بسرعة، وضحك الجنود وسخر منهن الحرّاس .
خلال جَلْدِ إلهنا، رَأيتُ ملائكةَ باكية تَقتربُ منه لمرات عديدة؛ سَمعتُ أيضاً الصّلواتَ التى يُوجها إلى أبيه بشكل ثابت ليغفر لنا آثامنا, صلوات لم تتَوقّف خلال تعرضه لهذا العقابِ القاسي.
بينما كان يسوع ممدداً مستحمّاً في دمه رَأيتُ ملاكاً يقدم إليه وعاء يَحتوي على شرابَ ساطع المظهرَ الذي بدا أَنْه يُنشّطه لدّرجةِ معينة. رَجع الجنود فى الحال، وبعد أن وجهوا له بعض الضّرباتِ بعصيهم, أمروه أن يَنْهضُ ويَتْبعهم. لقد نهض بصّعوبةِ بالغة، لأن قدميه المرتجفتان استطاعتا بالكاد أن تحملا جسده؛ أنهم لم يعطوه الوقت الكافي ليرتدى ملابسه، بل ألقوا ردائه على كتفيه العاريتين واقتادوه من العمودِ إِلى بيت الحرسِ، حيث مَسحَ الدّمَ الذي كان يَقطّرَ من وجهه بطرف ردائه. عندما اجتاز أمام المقاعدِ التى يجلس عليها رؤساء الكهنة، صَرخوا، " أسلموه إِلى الموتِ! اصلبوه! اصلبوه! " وبعد ذلك استدارواَ بازدراء. اقتاد الجلادون يسوع إلي داخلِ بيت الحرسِ، الذي كان ممتلئاً بالعبيدِ والجلاّدين وأناس سكارى من الشعبِ، لكن لم يكَنَ هناك جنودُ.
نَبّه الهياج العظيم بين عامة الناسِ بيلاطس كثيراً، حتى أنه أرسلَ إِلى قلعةِ أنطونيو يطلب تعزيزاتِ من الجنودِ الرّومان، وأُرسلتْ هذه الفِرَق العسكريةِ حول بيت الحرسَ؛ لقَدْ سُمح لهم أَنْ يَتحدّثوا وأَنْ يَسْخروا من يسوع بمختلف الطرق الممكنة، لكنهم مُنّعواَ من أَنْ يَتْركواَ صفوفهم. كان عدد هؤلاء الجنودِ، الذين طَلبَهم بيلاطس كى يُخيفَوا الغوغاء، حوالي ألف جندي.