07 - 11 - 2012, 04:47 PM
|
رقم المشاركة : ( 44 )
|
..::| VIP |::..
|
أصل طريق الصّليب
خلال كل المشهدِ الذي وَصفنَاه الآن، كانت العذراء مريم تقف مع المجدلية ويوحنا في أحد جوانب الساحةِ: مغُمِورين بحُزنِ بغاية المرارة، حزن كان يتزاِيدَ مع كل ما يسَمعونه ويرونه. عندما اُخِذَ يسوع أمام هيرودس، قادَ يوحنا العذراءَ المباركَة والمجدلية ومروا على كل المناطق التي تقُدّسَت بخطاه. لقد مروا على دّارِ قيافا ثانية، دار حنان، أوفيل، جَثْسَيْمَانِي وبستان الزّيتونِ؛ لقد توَقفوا وتَأمّلوا كل بقعةِ حيث سَقطَ، أو حيث عَانى؛ وبَكوا بصمت بتذكر كل ما خَضعَ له. سَجدتْ العذراءُ المباركةُ راكعة وقَبّلتْ الأرض حيثما سَقطَ ابنها، بينما اعتصرت المجدلية يديها من الأسىِ المرّير، ويوحنا، مع أنه لم يستطع أَنْ يمنع دموعه، إلا أنه سَعى إلى مواساتهما ومساندتهما. هكذا كَانتَ ممارسة تكريس طريق الآلام لأول مرةِ؛ هكذا كَانَ إكرام آلام يسوع أول مرة، حتى قبل أن تكتمل تلك الآلام بحمل الصليبَ، والعذراء المباركة، ذلك النموذجِ للنقاوةِ التى بلا تلوثِ، كَانَت الأولَى فى إظهار التّبجيل العميق الذى تشعر به الكنيسةِ لإلهنا الحبيب. كم هو حلو ومُعزى أَنْ نتبع تلك الأمِ التى بلا دنس، بالمرور ذهاباً وإياباً، ونُبجل تلك البُقَعِ المقدّسة بدموع توبتنا. لكن، آه! كيف نستطيع أَنْ نَصفَ السّيف الحادّ، سيف الأسىِ الذى جاز فى نفسها الرقيقة؟ تلك التي حبلتْ بمخلص العالمِ في رحمها العفيفِ وأرضعته، تلك التي حَبلت بالحقيقة بكلمةَ الرب، أنها ذات القلب الممتلئ بالنّعمةِ، الذى تَنازلَ وسكن فيه مُخلص العالم تسعة اشهرَ، إنها من شَعرت به يَعِيشُ داخلها قبل أن يظَهرَ بين البشر ليَمْنحهمَ بركة الخلاص ويُعلّمهم تعاليمه السّمائية؛ لقد عَانتْ مع يسوع، شاركُته ليس فقط آلامه المريرة، بل أيضاً تلك الرغبة المتوهجة فى تحرير البشريةِ السَاقطةَ بالموتِ المخزي على الصليب.
بهذا الأسلوب المؤثر صنعت العذراءِ كلية الطهر والقداّسةِ أساسِ الولاءِ الذى سُمى بطريقَ الصّليبِ؛ في كل موقع موسوم بآلامِ ابنها، لقد ادخرت في قلبها استحقاقات لا تنضب من آلامه، وجمّعتهم كحجر كريمِ أو كرائحة زهور حلوة لتُقَدّمُهم كتقدمة مختارة إِلى الأبِ الأبدي نيابة عن كل المؤمنين الحقيقيين.
إن حزن المجدلية كَانَ شديداً جداً حتى أنها بدت تقريباً كشّخصِ مذهول. الحبّ المقدّس والغير محدود الذى أحست به تجاه يسوع حَثها على أن تسكب نفسها عند قدميه، وتسكب هناك مشاعر قلبها كما سكبت الطيب الثّمينَ ذات مرة على رأسه بينما كان يتكئ على المائدة؛ لكن ها هنا يوجد ما يحيل بينها وبينه. إن التوبة التى عاشتها لأجل ذنوبها كَانتْ هائلةَ، وشكرها لم يكن أقلَ شدة لأجل غفرانهم؛ لكن عندما اشتاقت أَنْ تَقدم أْعمال الحبِّ والشّكرِ كرائحة بخور ذكية عند قدمي يسوع، رأته مُخاناً، مُتألماً وعَلى وَشَكِ أَنْ يَمُوتَ من أجل التكفير عن آثامها التي أَخذَها على نفسه، وهذا المشهد مَلأها بالرّعبِ، ومزقت نفسها إرباً بمشاعرِ من الحبِ والندم والشكر. منظر جحودِ أولئك الذين كَانَ يسوع عَلى وَشَكِ أَنْ يَمُوتَ من أجلهم زاد من مرارة هذه المشاعرِ كثيراً وكل خطوةِ أو كلمة أو حركة أظهرت آلام نفسها.
أمتلئ قلب يوحنا بالحبِّ، وتألم بشدة، لكنه لم ينَطقَ بكلمةَ. لقد شَجّع أمَ سيده الحبيبِ في رحلتها الأولى لمواضع طريقِ الصليبِ، وسَاعدها في إعْطاءِ مثالِ عن ذلك الولاءِ الذي صار يُمَارسَ بكثير من التأجّجِ من أعضاءِ الكنيسةِ المسيحيةِ.
|
|
|
|