07 - 11 - 2012, 04:37 PM
|
رقم المشاركة : ( 6 )
|
..::| VIP |::..
|
الفصل الثامن عشر
نظرة على أورشليم
الصّلوات المألوفة والإعداد للاحتفال بالعيد كان يشغل الجزء الأعظم من مدينة أورشليم الكثيفة السكان، بينما غط الغرباء الذين تجمعوا هناك فى النوم بعد إعياء اليوم، عندما أُعلن القبض على يسوع، اندهش كل شخص، سواء أصدقائه أو خصومه، واستجاب البعض فى الحال لدعوة رئيس الكهنة لحضور المحاكمة، وتركوا منازلهم للتّجمّع في ساحته. مكّن ضوء القمر البعض من أن يتلمّسوا طريقهم بأمان على طول الشّوارع المظلمة والكئيبة، لكن في أجزاء أخرى اضطروا لاستعمال المشاعل. قليل جدا من المنازل قد شيدت بنوافذ تطل على الشّارع، وبشكل عام فإن أبوابها كانت في الساحات الدّاخلية، مما أعطى الشّوارع مظهراً كئيباً أكثر من المعتاد في هذه السّاعة. خُطى الجميع كانت متجه نحو جبل صهيون، وأى مُستمع مستيقظ كان يمكنه أن يسمع أشخاصاً يقفون على أبواب أصدقائهم ويقرعون ليوقظوهم ويستعجلوهم، ثم يتوقّفون ثانية كى يسألون الآخرين، وأخيرا يسرعون نحو صهيون. تجار الأخبار والخدام كانوا يتعجّلون أن يتحقّقوا مما يحدث، من أجل أن يرجعوا ويقدموا تقريراً لمن مكثوا في البيوت؛ وكان تثبيت وتحصين الأبواب يُسمع بوضوح، كما أن عديداً من الأشخاص كانوا حذرين وخائفين من التمرد، بينما قيلت آلاف المقترحات المختلفة وأعطت آراء، كالتّالي : " أن لعازر وأختيه سيعرفون قريبا من هو هذا الرّجل الذي وضعوا فيه مثل هذه الثقة القوية, يونَا وخوزِي وسوسنه ومريم أمّ مرقص وَسَالُومَةُ سيندمون، لكن متأخراً جداً, حماقة تصرفهم؛ سيرغم سيرفيا زوجة سيراخ على الاعتذار لزوجها الآن، لأنه انتقدها كثيراً جدا بتحيزها للجليلي. إن المنحازين لهذا الرّجل المتعصّب، هذا المحرّض على التمرّد، الذى زعم أنه ممتلئ بالشّفقة لن يعرفوا الآن أين يخفون رؤوسهم. إنه لن يجد الآن أحد يلقى ملابسه وينثر أغصان الزيتون عند قدميه. أولئك المنافقون الذين زعموا إنهم أفضل كثيراً من الأشخاص الآخرين سينالون عقوبات مُستحقة، لأنهم متورّطون جميعاً مع الجليلي. إنه عمل جدّي أكثر بكثير مما قد ظُن في بادئ الأمر. أنى لأحبّ أن اعرف كيف سيخرج نيقوديموس ويوسف الرامى منه؛ إن رؤساء الكهنة قد ارتابوا فيهما لبعض الوقت؛ لقد جعلوا من لعازر قضية عامة لكنهم مخدعين بشدة. أن كل شئ سيُكشف الآن على أية حال "
كلام مثل هذا قد نُطق من قبل أشخاص ساخطين، ليس فقط ضد تلاميذ يسوع، بل ضد النّساء القديّسات أيضاً اللاتي كن يجهّزن احتياجاته الدّنيوية، وكن يجهرون علانية وبجراءة بتبجيلهن لتعاليمه وبإيمانهن بمهمته الإلهية.
لكن مع أن عديداً من الأشخاص تكلّموا عن يسوع وتلاميذه بهذا الأسلوب المحتقر، إلا أنه كان هناك الآخرون الذين تمسكوا بآراء تختلف تماماً، وبعض من هؤلاء قد خاف، وآخرون، لكونهم مغلوّبين بالحزن، التمسوا أصدقاء يجدون لديهم العزاء لقلوبهم، والذين يستطيعون أمامهم أن يعطوا متنفساً لمشاعرهم بلا مخافة؛ لكن عدد الذين كان لديهم الجسارة فى إعلان ولائهم ليسوع علانية كان قليلاً.
وعلى الرغم من هذا، حدثت بعض الاضطرابات فى بعض أجزاء أورشليم, في الأجزاء التى وصلها رّسل من قبل رؤساء الكهنة والفريسيون، ليدعوا أعضاء المجلس للاجتماع وكي يدعون الشّهود. لقد ظهرت لي ورأيت مشاعر الكراهية والغضب تجتاح أجزاء مختلفة من المدينة، تحت شكل نيران، نيران تعبر الشّوارع، تتّحد بنيران أخرى وتمضى فى اتجاه جبل صهيون، كانت النيران تتزايد فى كل لحظة وجاءت أخيرا لتستقر عند محكمة قيافا، حيث استقرت مُشكّلة معاً عاصفة من النّار.
لم يكن للجنود الرّومان أى دور فيما يحدث؛ إنهم لم يفهموا مشاعر الشعب الغاضبة، لكن حراسهم تضاعفوا، اُستدعيت كتائبهم، واحتفظوا بمظهرهم الصارم؛ حقا كان هذا مألوفاً في ذلك الوقت بسبب عيد الفصح، وبسبب الأعداد الغفيرة للغرباء الذين يتجمعون فى المدينة. حاول الفريسيون أن يتجنّبوا الاقتراب من الحرس، خوفاً من أن يسألوهم، ومن التخلص من التدنس من قبل أجابه أسئلتهم.
أرسل رؤساء الكهنة رسالة إلى بيلاطس يعلنوا له فيها أسباب إرسالهم لجنود حول أوفيل وصهيون؛ لكنه ارتاب في نواياهم، أنه لم يستطيع أن ينام، بل تجول معظم اللّيل، يصغي إلى التّقارير المختلفة ويصدر أوامر متتالية بناء على ما يتلقاه من بيانات؛ نامت زوجته، لكن نومها تخللته أحلام مخيفة، وناحت وبكت بشكل متعاقب.
لم يتسبب اعتقال يسوع فى أي نوع من مظاهر الأسى فى أى بقعة من أورشليم كما حدث من سّكان أوفيل الفقراء، الذين يعمل جزء عظيم منهم كعمالة مؤقتة والباقين منهم موظفين فى مكاتب حقيرة في خدمة الهيكل. لقد جاءتهم الأخبار بشكل غير متوقّع؛ لأول وهلة شّكوا في صدق التّقرير، وتردّدوا بين الأمل والخوف؛ لكن منظر سيدهم، مانحهم النعم، مُعزيهم، مجروراً فى الشّوارع، مكُدّم وممزّق، ويساء معاملته بكل الطرق القابلة للتخيل، ملأهم بالرّعب؛ وحزنهم ازداد بمنظر أمه المكلومة وهى تجوّل هائمة من شّارع إلى شّارع، يرافقها بعض النّساء القدّيسات، ويسعين إلى الحصول على بعض الأخبار بخصوص ابنها الإلهى. هؤلاء النّسوة القديسات قد اضطررن إلى أن يختبئن في الزّوايا وتحت المداخل خوفاً من أن يكنّ مرئيات من قبل أعداء يسوع؛ لكن حتى مع هذا الحذّر كن كثيرا ما يتعرضن للإهانات ويعتبرن كنساء من النوع السيئ, كانت مشاعرهن تهان على نحو متكرر من قبل سماع الكلمات المؤذية ومن تعبيرات الانتصار من اليهود القساة، ونادرا، نادرا جدا، ما كانت كلمات الشّفقة أو الرّحمة تصل لأسماعهم. لقد استنزفن بالكامل قبل وصولهن لمكانهن، لكنهن سعين إلى مواساة ومساندة كل منهن الأخرى، ولفّفن المناديل على رؤوسهن. عندما جلسن أخيرا، سمعن طرقاً مفاجئاً على الباب، أصغوا بسكون, تكرّر الطرق، لكن بهدوء، لهذا تأكدن أن الطارق ليس بعدو، ومع ذلك فتحن الباب بحذر، مخافة البراعة في الخِداع. لقد كان حقا صديق، فسألنه بلهّفة، لكنهن لم يتلقين أى تعزية من كلماته؛ لهذا، عجزن أن يسترحن، خرجن وسرن لبعض الوقت، وبعد ذلك رجعن ثانية إلى مكانهن وهن منسحقات القَلْب أكثر من ذى قبل.
كان أغلب التلاميذ هائمين على وجوههم بين الوديان التي تحيط بأورشليم، وفي بعض الأوقات التجئوا إلى مغارات أسفل جبل الزيتون. بدءوا يتكلمون بنبرات مرتجفة واتصل بعضهم ببعض، وسكنوا فى هدوء وبدون جلبة. أولاً أخفوا أنفسهم في أحد المغائر وبعد ذلك فى مغارة أخرى، بعد ذلك سعوا إلى أن يرجعوا إلى المدينة، بينما تسلّق البعض منهم قمة جبل الزيتون ونظروا بحرص على المشاعل، ليتبينوا من ضّوئها ما يحدث فى صهيون؛ لقد استمعوا لكل صوت بعيد، خمنوا ألف تخمين مختلف، وبعد ذلك رجعوا إلى الوادي، علي آمل أن يحصلوا على بعض الأخبار.
أنيرت الشّوارع التى بجوار محكمة قيافا بالقناديل والمشاعل بشكل ساطع، الحشود كلما تجمّعت، كلما ازدادت الضّوضاء والفوضى. اختلطت أصوات الوحوش التي كانت خارج أسوار أورشاليم بهذه الأصوات ومأمأة الخراف. كان هناك شيء ما مؤثر في مأمأة تلك الخراف التي كانت ستُقدم كذبيحة فى اليوم التالي في الهيكل، الحمل الوحيد الذى كان على وشك أن يُقدم كذبيحة بإرادته لم يفتح فاه، كخروف بين يدي الجزار، لم يقاوم، أو كحمل صامت أمام ذابحه؛ وذلك الحمل كان حمل الرب, الحمل الذى بلا عيب, حمل الفصح الحقيقي, يسوع المسيح ذاته .
بدت السّماء مظلمة، كئيبة ومُنذرة, القمر كان محمراً ومُغطّي ببقع شاحبة؛ بدا كما لو أنه يرهب أن يصل إلى كماله، لأن خالقه كان عليه أن يموت.
بعد ذلك ألقيت نظرة خارج المدينة، وقرب البوّابة الجنوبية، نظرت الخائن، يهوذا الأسخريوطى، هائماً على وجهه، وحيداً، وفريسة لعذاب الإحساس بذنبه؛ خائفاً حتى من ظله، وقد تبعته عديد من الشّياطين، الذين سعوا أن يحولوا مشاعر النّدم إلى مشاعر من اليأس الأسود. آلاف الأرواح الشّريّرة كانت تنشط نفسها في كل الأجزاء، لتُغرى الإنسان بخطيئة واحدة وبعد ذلك بالأخرى. بدا كما لو أن أبواب الهاوية قد فتحت، وإبليس يكافح بجنون ويمارس طاقاته الكاملة ليزيد من ثّقل الإثم الذي أخذه الحمل الذى بلا عيب على نفسه.
تردّدت الملائكة بين البهجة والأسى؛ لقد رغبوا بتوهج أن يسقطوا ساجدين أمام عرش الرب، وأن يحصلوا على أذن أن يساعدوا يسوع؛ لكن في نفس الوقت كانوا ممتلئين بالدّهشة، واستطاعوا فقط أن يمجّدوا معجزة العدل الإلهى والرحمة التى وُجدت في السّماء منذ الأزل وإلى الأبد، والتى على وشك أن تتمّ؛ لأن الملائكة تؤمن مثلنا بالرب، الأب القدير، خالق السّماء والأرض، وبيسوع المسيح، أبنه الوحيد، إلهنا، الذي حُبل به من الروح القدس، وولد من مريم العذراء، والذي بدأ فى هذه اللّيلة يتألم فى عهد بيلاطس البنطى، وفى اليوم التالي سيصلب، ليموت ويدفن؛ ينزل إلى الهاوية، يقوم ثانية فى اليوم الثالث، يصعد إلى السّماء، يجلس على يمين الرب الأب القدير، ومن هناك يأتى ليدين الأحياء والأموات؛ ويؤمنون أيضاً بالروح القدس، بالكنيسة المقدّسة، بشركة القديسين، بمغفرة الآثام، بقيامة الأجساد والحياة الأبدية .
|
|
|
|