الصوم والتوبة:
الكاهن يهتم أن يسأل المتناولين في أيام الصوم عن صومهم ولا يهتم أن يسألهم عن توبتهم ... الأمر هنا يحتاج إلى مراجعة، فالله لم يهتم إطلاقاً بصوم الفريسي مع كل صدقاته وتطهيراته لأنه كان خالياً من الانسحاق والتوبة والاعتراف بالخطية ... في حين أن التوبة برَّرت العشار في نظر الله وأهلته أن يكون صاحب صوم مقبول وصلاة مسموعة!
فالتوبة وحدها هي التي تجعل الصوم صوماً، وبدونها لا يُحسب الصوم شيئاً. إذن فالصوم بدون توبة لا يبرِّر ولا يؤهِّل للتناول.
طقس التوبة والتناول من الجسد والدم:
الكنيسة جعلت من إحناء الرأس طقساً للتوبة، إنها مهارة من الكنيسة وحذق من الروح القدس أن يشكل من الطقس دعوة لتوبة جماعية ينادَى بها في كل صلاة كشرط أساسي للتناول من الجسد والدم. التوبة الجماعية هي أقدر الوسائط جميعاً في توحيد الجماعة، لأن الكل من جهة الخطية واحد ومتساوون: «أغلق على الجميع معاً في العصيان لكي يرحم الجميع.» (رو 11: 32)
إن نداء الشماس للشعب وكل الإكليروس بإحناء الرأس والوقوف موقف العشار قبل التناول مباشرة هو في الحقيقة دعوة للوحدة من تحت تأثير واحد بالشعور بالخطية، الجماعة المتحدة هنا بشعور الندم والتوبة تؤهِّل لكي تشترك في الجسد الواحد والدم الواحد للتبرير، وهنا الجماعة كلها تنزل إلى بيوتها مبرَّرة.
الكنيسة هنا تبنَّت موقف العشار بفضل الطقس الذي جمع القلوب معاً ونبهها لتوبة واحدة في وقت واحد، والروح القدس في هذه اللحظات يجعل من جماعة الخطاة التائبين جماعة قديسين ومن القرابين قُدسات للقديسين.
يا ما أعجب الطقس! ويا ما أعجب الروح القدس في الكنيسة! إنه يُتعجَّب منه حقاً، ولكن هل من مزيد من المعرفة؟ وهل من مزيد من توجيه للشعب حتى يعرف كيف يشرب الروح القدس وكيف يرتوي من نعمة الله وكيف يتوب ويتوحد معاً تحت شعور واحد بالندم؟؟
أعَلِمتُم يا أحبَّة كيف ومتى يصرخ الكاهن: ”القدسات للقديسين“؟ أو كيف يصير الشعب بالجملة جماعة خطاة منسحقين منحنين من جراء انكسار القلب تحت وطأة الشعور بالخطية؟ ثم كيف يرفع الروح القدس وجه الكنيسة مرة واحدة عندما يقبل الشعب جميعاً التبرير من الله كاستجابة لانسحاقهم وانحناء رؤوسهم وقرع صدورهم حسب قول وصدق الكتاب: «إلى هذا أنظر إلى المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامي» (إش 66: 2)؟ فحينما يقول الكاهن: ”القدسات للقديسين“ يعني أن الله قَبـِلَ توبتهم ورفع وجههم وأكمل تبريرهم بسبب اعترافهم، وصاروا قديسين بفعل الغفران ومستحقين للجسد بفعل التبرير.
الشماس يشهد لتوبة الكاهن:
ولكن قبل أن يصرخ الكاهن بصيرورة القدسات (الجسد والدم) من استحقاق الشعب التائب، يصرخ أيضاً الشماس بدوره مخاطباً الكاهن ومشجعاً إيَّاه، بعد أن يكون قد اعترف لتوه بخطاياه أمام الله بانسحاق كثير وحزن مع تذلُّل عندما يقول: [اذكر يا رب ضعفي أنا أيضاً واغفر لي خطاياي الكثيرة. وحيث كثر الإثم فلتكثر هناك نعمتك ومن أجل خطاياي خاصة ونجاسات قلبي لا تمنع شعبك نعمة روحك القدوس]. فيرد عليه الشماس في الحال: ”خَلُصت حقاً“!!
عجيب طقس الكنيسة القبطية، فإنه حينما يضع الشعب تحت دعوة الانحناء وقرع الصدر ونداء التوبة لا يستثني الكاهن، فالكاهن في القداس القبطي خاطئ وتائب عن نفسه ومعترف عن خطايا الشعب وممثل لتوبتهم، وحصول التبرير لا ينسى أيضاً نصيب الكاهن إذ قد صار بالانسحاق والتوبة قديساً ونائباً عن قديسين، وأنه لمن روائع القداس القبطي أن يخاطب الشماس الكاهن معلناً له الخلاص!! وبالنهاية نجد أن القداس يلهمنا روح التوبة الجماعية كشرط مسبق للخلاص والتبرير بجسد ودم المسيح.
القداس وروح التوبة الجماعية:
واضح إذن أن القداس يعطينا إلهاماً واضحاً عن قيمة التوبة الجماعية والاعتراف مع الانسحاق أمام الله كشرط مسبق لحلول الروح القدس على القرابين وعلى الشعب والكاهن معاً: [ليحل روحك القدوس علينا وعلى هذه القرابين الموضوعة ...]. حتى تصير القدسات للقديسين ...
القداس أبقى لنا الصورة الكاملة عن كيفية التوبة الجماعية وضرورتها كما يطلبها الروح القدس من الكنيسة بكل دقائقها وترتيبها وشكلها ونتائجها الحتمية، أما المضمون والممارسة العملية والتطبيق والحصول على النتائج الفعلية فقد ظلَّت كلها متعطلة تماماً على مستوى الجماعة، لا ينتبه لها إلا الأفراد وأفراد قليلون، الهيكل يشهد بذلك، فالمتناولون دائماً لا يزيدون عن واحد في المائة أو ربما أقل، مع أن الروح يدعو الجميع بلا استثناء للأكل من الجسد والشرب من الكأس لأنها دعوة حياة، والله لا يدعو للحياة بشح أو باستثناء أحد بل الكل مدعوون للخلاص: ”خذوا كلوا منه كلكم، خذوا اشربوا منها كلكم“ (القداس الإلهي)!!
والمدعوون للخلاص مدعوون مسبقاً للتوبة، ثلاث مرات ينادي الشماس في القداس حسب الأصول الكنسية المضبوطة داعياً الشعب والإكليروس للاعتراف بالخطية وإحناء الرأس لأخذ الحِلّ والبركة والتطهير:
الدعوة الأولى بعد رفع البخور في باكر وعشية،
والدعوة الثانية في بداية قداس الموعوظين،
والدعوة الثالثة قبل التناول مباشرة.