دعوة إلى: صوم جماعي وتوبة جماعية
”احنوا رؤوسكم للرب“:
تاس كيفلاس إيمون تو كريو إكليناتيه ...(1)
بهذه الجملة المهيبة يهتف الشماس وهو واقف بجوار المذبح يدعو الشعب وكل الإكليروس أن يطأطئوا رؤوسهم لله قبل التقدُّم للتناول قبل أن يصرخ الكاهن قائلاً: ”القُدسات للقديسين“.
ولكن لشدة الأسف لا يستجيب الشعب أو الإكليروس لهذا النداء كما ينبغي فبعضهم يسمع النداء ولا ينحني وبعضهم يسمعه فيسجد وكلاهما يخطئ السمع والفهم والاستجابة ...
إن الدعوة هنا إلى إحناء الرأس للرب، لأنها لحظة توبة واعتراف بالخطايا، حتى يؤهَّل الشعب لقبول صلاة الحل من فم الكاهن.
فالكاهن في هذه اللحظات، والشعب كله منحنٍ، يعترف عن الشعب ومع الشعب لدى الله: [اللهم يا حامل خطية العالم ابدأ بقبول توبة عبيدك من أيديهم نوراً للمعرفة وغفراناً للخطايا ... اللهم حاللنا وحالل كل شعبك من كل خطية ومن كل لعنة ومن كل جحود ومن كل يمين كاذب ...].
أما لماذا يكون هنا إحناء رأس وليس سجوداً، فلأن الدعوة هنا ليست للعبادة وتكريم الله، بل الدعوة إلى الاعتراف بالخطايا في انسحاق وخوف وتذلُّل، فالشماس بهذا النداء المحدَّد لإحناء الرأس إنما يقصد أن يذكِّرنا بموقف معين هو موقف العشار الذي ذكره المسيح: «أما العشار فوقف من بعيد لا يشاء أن يرفع عينيه نحو السماء بل قرع صدره قائلاً اللهم ارحمني أنا الخاطئ» (لو 18: 13)
إذن، فالذي يحني رأسنا في هذه اللحظات الرهيبة - قبل التناول - هي الخطية، المسألة ليست طقساً وحسب، بل حزن وتوجُّع وخجل مع الإحساس بالهم الثقيل من جراء تذكرنا لخطايانا، هذا هو الذي يجعل رأسنا تسقط على صدرنا من تلقاء نفسها، هذا الندم مع الحزن الشديد الذي يجعل الإنسان غير قادر بالمرة أن يرفع رأسه نحو السماء، هو موقف يتناسب مع الحضرة الإلهية وأمام الجسد والدم، إنه موقف مطلوب في هذه اللحظات الحرجة.
الفريسي في مَثَل المسيح رفع رأسه نحو السماء معتمداً على صومه وصدقته وطهارته وعدله: «اللهم أنا أشكرك أني لست مثل باقي الناس الخاطفين الظالمين الزناة ... أصوم مرتين في الأسبوع وأُعشِّر كل ما اقتنيته.» (لو 18: 11 و12)
ولكن للأسف بالرغم من كل هذا فإن الله لم يرفع وجه الفريسي، فالمسيح يقول إن العشار نزل مبرَّراً دون الفريسي ...
وبمعنى أوضح فإن الصلاة والصوم والصدقة وطهارة الجسد مع العدل والتعفُّف كل هذه لا تستطيع وحدها بدون توبة أن ترفع وجه الإنسان أمام الله، لأنه بعد كل هذه الفضائل وأكثر منها يظل الإنسان بلا قدرة ولا استطاعة ولا حق أن يرفع رأسه أمام الله ... الخطية تمنع الإنسان أن يرفع رأسه بتاتاً ... الذي برَّر العشار هو أنه أحنى رأسه إحساساً منه بأنه غير مستحق أن يرفع عينيه نحو السماء، وعلى الوجه الأصح فإنه لم يستطع قط أن يرفع رأسه لأن خطيته كانت ماثلة أمامه في ذلك الحين ...
إن توبة العشار واعترافه بالخطية مع انسحاق نفسه وانكسار قلبه الذي ظهر في إحناء رأسه وقرع صدره أمام الله جعلت صلواته وصدقاته مقبولة لدى الله، الله برَّر العشار لما دان العشار نفسه.
حينما ينادي الشماس بإحناء الرأس فإنه يدعو إلى دينونة النفس حتى تؤهَّل لتبرير الله بواسطة الجسد والدم.
الكنيسة في هذه اللحظات تقف كلها تائبة منحنية الرأس تطلب الغفران، الشعب كله يكون مدعواً بهذا النداء أن يسترجع في حياته العشار، لذلك يُقال إن الكنيسة جماعة تائبين.