أحد الثَعالبِ كان يعيش في غابة ، وكان هذا الثعلبُ كثيرَ الاعتزازِ بمكرِه ، ومُقتنِعاً أن مكرَهُ قادرٌ على أن يُحقِّقَ له مايريدة .
وفي يومٍ من الأيام جاعَ الثعلب ، ولم يَعثر على ما يأكُلُه على الرغم مِن بحثِه الطويل ، فاستَلقى تحت أغصانِ شجرةٍ حزيناً يَحلُم بدجاجةٍ أو أرنب .
وبعد لحظات حط غراب على غصن الشجرة ونَظَر إلى أسفَل ، فرأى الثعلبَ باديَ الحزن ، فأشفَق عليه وسأله : ما بِك ؟
فلم يُجِب الثعلب ، بل رفعَ رأسَهُ وتأمّلَ الغُرابَ بنَظَراتٍ مُتفحِّصة ، فبَدا له طَعاماً شهيّاً ، وقال لنفسِه : لَحمُ الغُرابِ مُرٌّ كَريه ، ولكنّه أفضَلُ مِن الموت جُوعاً .
ثمّ خاطبَ الغراب بٍ حاوَلَ أن يَجعلَهُ مُرتَعشاً ضعيفاً : آه يا صديقي الغراب ، أنا حزين لأنّي مريض .
وسَعَلَ الثعلب سعالاً مُصطَنعاً ، ثمّتابع الكلامَ متسائلا : هل صحيحٌ ماسمعتةعنكَ يا صديقي الغراب ؟
فقال الغراب بِفُضول : ماذا سَمِعتَ ؟
قال الثعلب : سمعتُ أنك خَيرُ طبيبٍ في الغابةِ كلِّها .
قال الغرابُ بفَخر : ما سمعتة ليس بعيداً عن يقة ، أنا فِعلاً طبيبٌ قدير ، وأُقدِّمُ خِبرتي لمن يحتاجُ إليها .
قال الثعلب : إذَن ماذا تَنتظِر ؟! هيّا اترُكِ الغُصنَ وتَعالَ افحَصني .
ففكّرَ الغرابُ لحظات ، ثمّ قال للثعلب : أنت بالتأكيدِ تَجهلُ مِهنةَ الطب ، ففَحصُ المريضَ يَتمُّ على مرحلتَين .
في المرحلةِ الأولى أفحَصُ المريضَ وأنا بعيدٌ عنه ، فإذا لم أتمكّن مِن معرفةِ مرضهِ ألجأ عندئذٍ إلى المرحلةِ الثانية ، فأقترِبُ من المريضِ وأفحَصُهُ فَحصاً دقيقاً .
فقال الثعلب : هَيّا افحَصني كما تشاء .
فقال الغراب : افتَح فمَك .
فأطاعَ الثعلبُ وفتحَ فمَه ، فبَدَت أنيابُه لامِعةً حادّةً مُخيفةً جَعَلت الغرابَ يَرتَجفُ ، ولكنّه ضَحِكَ ضِحكةً مَرِحة ، فسألَهُ الثعلبُ بلهجةٍ لا تَخلو مِن لومٍ واستِنكار : لماذا تَضحك ؟! أليَس من القَسوَةِ أن تَهزَأ بمريضٍ مِسكينٍ مِثلي يُعاني الأوجاع ؟!
فقال الغراب : لقد ضَحِكتُ لأنني تَذكّرتُ نَصيحةَ جَدّي .
فقالَ الثعلبُ بتعجّب : وما هي نصيحة جَدِّك ؟!
قال الغراب : نصيحةُ جَدّي تُحَذِّرُ من الاقتِراب مِن مريضٍ له أنيابٌ كأنيابِك .
قال الثعلبُ مُتَصنِّعاً الغضبَ والاحتجاج : عَيبٌ عليك ، أتشُكُّ فيَّ ؟! هذه إهانةٌ لا أقبَلُها ، وأنا مُستعدٌّ لأنْ أُقسِم .. ، فقاطَعَهُ الغرابُ قائلاً : لا داعي إلى الكلام ، فأنيابُكَ تكلَّمت ، وأنا قد صَدَّقتُ ما قالَته .
وطارَ الغراب بعيداً تاركاً الثعلبَ جائعاً ، ناقِماً على أنيابهِ التي فَضَحَت ما يَعتزِمُ أن يَفعَله `16`
حقاً .. من ثمارهم تعرفونهم.
فهناك آلاف مثل هذا الثعلب يتوددون بمعسول الكلم و هو يحمل داخله سماً زعافاً.
ربنا يحافظ على أولاده.