علم الكريستولوجي
لاهوت السيد المسيح
بقلم نيافة الأنبا رافائيل
الكريستولوجي هو علم دراسة لاهوت السيد المسيح، وشخصه، وطبيعته، وما يخص معرفتنا به.
أهمية دراسة الكريستولوجي:
من خلال هذا العلم نتعرف على السيد المسيح الذي نعبده، مَنْ هو؟ وفيما نحن نتعرف عليه سوف ندرس الهرطقات التي برزت في التاريخ ضد السيد المسيح، سواء هذه التي انتقصت من ألوهيته أو مجده، أو تلك التي أنكرت ناسوته، أو التي فصلت بين اللاهوت والناسوت. كما سوف نتعرف على موقف الكنيسة، وكيف دافعت بحزم ضد أي انحراف في الإيمان الأصيل.
إن الحديث عن السيد المسيح هو أساس المسيحية، والتغيير في الإيمان بالمسيح يُهدد المسيحية .. بل يهدمها، لذلك يجب أن يكون إيماننا قويًا وراسخًا، وفيه وعي لاهوتي على مستوى عالي.
لاهوت السيد المسيح له المجد:
نحن نؤمن أن المسيح هو الله، هذا الإيمان لم يكن استنتاجًا أو اكتشافًا ولكنه إعلان إلهي. هناك مَنْ يدّعون أن المسيح هو إنسان عادي، وأن مَنْ اخترع قصة ألوهية المسيح هو مُعلِّمنا بولس الرسول.
وهناك مَنْ يقولون إن المسيحيين في القرون الأولى كانوا يعرفون أن المسيح مجرد نبي وإنسان، وذلك حتى مجمع نيقية ومجيء أثناسيوس الذي اخترع موضوع لاهوت المسيح.
وهم يستدلون على قولهم هذا بقول القديس أثناسيوس: "وأنا ضد العالم" إذ يقولون إن العالم كان أريوسيًا يؤمن أن المسيح مجرد نبي، لكن أثناسيوس فقط هو الذي نادى بأن المسيح هو الله، واستطاع أن يغيِّر الإيمان المسيحي ويحرِّفه (حسب رأيهم).
وعلى حد قولهم يكون المسيح نفسه لم يكن يقول إنه إله، ولم يقل أحد عنه إنه إله حتى مجيء مُعلِّمنا بولس الرسول (الذي اخترع قصة ألوهية المسيح)، وسيطرته على بقية الرسل وعلى الإيمان المسيحي، أو حسب الرأي الآخر حتى مجيء أثناسيوس الرسول. وكأن المسيح لم يكن يُقدّر ذلك، ولا يعرفه، ولم يكن يدري بألوهيته.
لذلك لابد أن ندرس:
كيف أن المسيح هو الله؟
المسيح هو الله لأننا استلمنا ذلك، كما استلمنا كل بنود الإيمان. إن إيماننا ليس مبنيًا على الآيات فقط، بل على الفهم السليم لنصوص الآيات، وذلك لأن هناك مَنْ يستخدمون الآيات ويعيدون ترتيبها بطريقة خاصة بهم، ويخرجون بمفاهيم تؤدي إلى إيمان غير سليم.
يقول القديس إيريناؤس: "صنع فنان موهوب صورة جميلة لأحد الملوك من الجواهر الثمينة والفسيفساء، لكن شخصًا آخر فك هذه الحجارة، وأعاد تركيبها بأسلوب آخر، ليقدم صورة كلب أو ثعلب، ثم زعم أن هذه الصورة هي الصورة الأصلية التي صنعها الفنان، وتعلل قائلاً: إن هذه الحجارة أو الفسيفساء هي أصلية، والحق أن التصميم الأصلي قد تهدم وضاع نموذج الإنسان الموضوع.
ويقصد القديس إيريناؤس أن يشرح كيف أن الهراطقة رتبوا الآيات بطريقة خاصة شوهت الإيمان في أذهانهم المنحرفة، وادّعو أن هذا هو الإيمان السليم بحجة أنهم يستخدمون نفس آيات الكتاب المقدس.
لذلك فعليَّ أن أُميز بين الصواب والخطأ في مفاهيم الإيمان، وأتساءل: ما هو الترتيب الصحيح؟ وما هي المفاهيم التي انتقلت من الأجداد إلى الآباء ثم الأحفاد؟!
هذا هو الإيمان والمنهج الأرثوذكسي، وهذا ما يُميز المنهج الأرثوذكسي عن المناهج المنحرفة إيمانيًا.
إننا استلمنا العقيدة كمفاهيم مدعومة بالآيات، وليست آيات مرصوصة حسب استحسان البشر، أو استنتاج أو استنباط المفسرين، ولكن من تسليم الآباء الذين أخذوه من المسيح وسلّموه لنا بكل أمانة، حسب قول مُعلِّمنا بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس في (2تي2: 2): "ما سمعته مني بشهود كثيرين، أُودعه أناسًا أمناء، يكونون أكفاء أن يُعلِّموا آخرين أيضًا".
إن الاعتماد على النص فقط يؤدي إلى انحرافات خطيرة في الإيمان، فالمهم هو المفاهيم أكثر من النصوص. لذلك يقول السيد المسيح عن كلامه: "الكلام الذي أُكلمكم به هو روح وحياة" (يو6: 63). وكذلك علّمنا أن "الروح يحي والحرف يقتل".
+ نحن تعلّمنا أن المسيح هو الله قبل أن يكون الكتاب المقدس متداولاً، فإنجيل يوحنا مثلاً كُتب حوالي عام 96 أو 98 ميلادية، وهو أكثر إنجيل تحدث عن لاهوت السيد المسيح، فهل يمكن أن نقول إن الكنيسة حتى وقت كتابة هذا الإنجيل لم تكن تؤمن أن المسيح هو الله؟ أو لم تكن تمتلك وثائق ترتكز عليها تؤكد أن المسيح هو الله؟ أو لعلها كانت تنتظر مُعلِّمنا يوحنا الإنجيلي حتى يكتب إنجيله؟ إن هذا غير ممكن!!
نحن نعرف أن السنوات الأولى في تاريخ المسيحية (العصر الرسولي) كانت من أعظم سنوات تاريخ الكنيسة، فقد كان المسيحيون يستشهدون بسبب إيمانهم أن المسيح هو الله.
وعلى الرغم من عدم وجود إنجيل يوحنا في الجيل الأول للمسيحية، إلا أن أحدًا لم يتجاسر ويقول ما قاله أريوس في أن المسيح ليس هو الله، وبالرغم من وجود إنجيل يوحنا في أيام أريوس متداولاً ومنتشرًا، وأريوس نفسه كان يعرفه ويدرسه، ومع ذلك أنكر أن المسيح هو الله. فالمشكلة ليست في توافر النصوص، ولكن الأهم هو صحة المفاهيم مع النصوص.
لقد استلم آباؤنا الإيمان قبل الآيات، وجاءت الآيات مطابقة لما استلموه من الإيمان، وذلك لأن المصدر واحد وهو الله، الله أعطانا معرفته وبعد ذلك دوّن آباؤنا الرسل هذه المعرفة بالوحي من الروح القدس معصومين من الخطأ في الكتابة.
أصبحنا بذلك نملك مستندين: مستندًا شفهيًا ومفاهيم ترسخت في الأفهام، ومستندًا آخر مكتوبًا وقد يكون هذا هو الأقوى لأنه مكتوب، لكن الأسبق منه هو المفهوم المتداول بين المسيحيين.
فالخلاصة .. إننا نعرف أن المسيح هو الله، لأننا تعلّمنا هذا من آبائنا وأجدادنا وأسلافنا .. وهناك براهين أخرى على لاهوت السيد المسيح ..
يظن البعض أنه لا توجد آيات من الكتاب المقدس تتكلَّم صراحة عن لاهوت السيد المسيح، ويدّعون أن تأليه المسيح هو فكر استحدثته الكنيسة. بعضهم يقول أن بولس الرسول، والآخرون أن أثناسيوس الرسولي هو الذي استحدث هذا الفكر.
لكننا نؤمن أن السيد المسيح هو الله الظاهر في الجسد .. وهذا الإيمان كائن في الكنيسة منذ البدء، ومؤيد بنصوص كتابية منذ قبل مُعلِّمنا بولس الرسول، وطبعًا منذ قبل أثناسيوس الرسولي العظيم .. الذي دافع عن لاهوت السيد المسيح كما استلمه من الآباء السابقين عليه وليس كما اخترعه هو.
دعنا الآن نتعرّض لبعض الآيات التي تتكلَّم صراحة عن أن السيد المسيح هو الله .. ((عن كتاب "لاهوت السيد المسيح" لقداسة البابا شنوده الثالث فصل "آيات صريحة عن لاهوت المسيح")).
(1) "منهم المسيح حسب الجسد، الكائن على الكل إلهًا مباركًا إلى الأبد. آمين" (رو9: 5).
+ "منهم المسيح حسب الجسد" = ميلاده جسديًا من العذراء مريم التي هي من بني إسرائيل.
+ "الكائن على الكل إلهًا مباركًا" .. تعني أن المسيح هو الله.
وقد يفهم أحدهم أن كلمة (إله) غير كلمة (الله) .. فنجيبه بأننا نؤمن بإله واحد.. فإذا كان المسيح (إلهًا) غير الله .. نسقط في تعدد الآلهة. وهذا لا يوافق عليه أحد. فالسيد المسيح هو الإله الواحد الظاهر في الجسد.
(2) "أجاب توما وقال له: ربي وإلهي" (يو20: 28).
إن كانت كلمة "ربي" تعني "سيدي" .. فماذا نقول عن كلمة "إلهي" ؟!! لقد سمعها السيد المسيح وقَبِلها، وقَبِل السجود له من توما ومن آخرين .. ولو لم يكن السيد المسيح هو الله لرفض هذه الكلمة من توما، ولرفض أيضًا السجود .. مثلما رفض الملاك في سفر الرؤيا أن يسجد له يوحنا الرائي قائلاً:
& "انظر لا تفعل! أنا عبد معك ومع إخوتك الذين عندهم شهادة يسوع. اسجد لله! فإن شهادة يسوع هي روح النبوة" (رؤ19: 10).
& ومرة أخرى أيضًا .. "فقال لي: انظر لا تفعل! لأني عبد معك ومع إخوتك الأنبياء، والذين يحفظون أقوال هذا الكتاب. اسجد لله!" (رؤ22: 9).
& وكمثلما رفض مُعلِّمنا بطرس أن يسجد له كرنيليوس .. "فأقامه بطرس قائلاً: قم، أنا أيضًا إنسان" (أع10: 26).
& وأيضًا رفض الرسولان بولس وبرنابا أن يُقدِّم لهما الناس العبادة قائلين: "أيها الرجال، لماذا تفعلون هذا؟ نحن أيضًا بشر تحت آلام مثلكم، نبشركم أن ترجعوا من هذه الأباطيل إلى الإله الحي الذي خلق السماء والأرض والبحر وكل ما فيها" (أع14: 15).
إننا لا نقبل السجود والعبادة إلا لله الواحد الحي .. فإن كان السيد المسيح قد قَبِل السجود والعبادة فهو الله الحي وليس آخر سواه.
(3) "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله" (يو1: 1).
المسيح هو الكلمة .. وهنا الآية صريحة "كان الكلمة الله".. ثم الآية (رقم 14) تتكلَّم عن التجسد ..
& "والكلمة صار جسدًا وحلَّ بيننا، ورأينا مجده، مجدًا كما لوحيد من الآب، مملوءًا نعمة وحقًا" (يو1: 14).
أي أن (الله صار جسدًا) وحلّ بيننا .. ويشهد يوحنا أنه رأى مجده كمثل مجد الابن الوحيد من الآب .. أي المساوي لمجد الآب والمساوي لجوهر الآب.
(4) "هوذا العذراء تحبل وتلد ابنًا، ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره: الله معنا" (مت1: 23).
الاسم نفسه يدل على اللاهوت. فكلمة "عمانوئيل" تعني "الله معنا". لقد صار الله معنا على الأرض بسبب التجسد، وهذا الاسم قيل من قبل في الأنبياء .. "ولكن يعطيكم السيد نفسه آية: ها العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل" (إش7: 14). بل أن كلمة "يسوع" تعني "يهوه يخلِّص"، فاسم المسيح يدل على لاهوته.
وقد قيل في الأنبياء أيضًا أنه لا يوجد مخلِّص غير واحد وهو الله ..
& "أنا أنا الرب، وليس غيري مخلِّص" (إش43: 11).
& "والآن هكذا يقول الرب، خالقك يا يعقوب وجابلك يا إسرائيل: لا تخف لأني فديتك، دعوتك باسمك. أنت لي" (إش43: 1).
& "لأني أنا الرب إلهك قدوس إسرائيل، مخلِّصك" (إش43: 3).
كل هذا يبرهن بقوة أن مخلصنا المسيح هو الله نفسه الواحد.
(5) "لأنه يولد لنا ولد ونعطى ابنًا، وتكون الرياسة على كتفه، ويدعى اسمه عجيبًا، مشيرًا، إلهًا قديرًا، أبًا أبديًا، رئيس السلام. لنمو رياسته، وللسلام لا نهاية على كرسي داود وعلى مملكته، ليثبتها ويعضدها بالحق والبر، من الآن إلى الأبد. غيرة رب الجنود تصنع هذا" (إش9: 6-7).
هذه النبوة في منتهى الوضوح .. إنها تتكلَّم عن ولد أي طفل مولود، ثم تصفه بأنه رئيس "تكون الرياسة على كتفيه"، وتتحدث النبوة عن ألقابه (عجيب، مشير، إله، قدير، أب أبدي، رئيس السلام).
دعنا نتوقف عند كلمة (إلهًا قديرًا) .. هل يوجد إله آخر غير الله؟!! مستحيل.. إذًا المسيح هو الإله القدير وحده.
أما كلمة (عجيب) فقد تكلَّم بها الرب في ظهوره لمنوح في سفر القضاة .. "لماذا تسأل عن اسمي وهو عجيب؟" (قض13: 18).
وكلمة (أبديًا) تشير إلى ألوهيته، فليس أحد أبديًا إلا الله وحده، ولذلك قيل إن مملكته تدوم إلى الأبد .. "هذا يكون عظيمًا، وابن العلي يدعى، ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لملكه نهاية" (لو1: 32-33).
وقيل كذلك في المزمور .. "كرسيك يا الله إلى دهر الدهور. قضيب استقامة قضيب ملكك. أحببت البر وأبغضت الإثم، من أجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك" (مز45: 6-7).
وهذه النبوة شرحها مُعلَّمنا بولس الرسول .. إنها قيلت عن المسيح الابن .. "وأما عن الابن: كرسيك يا الله إلى دهر الدهور. قضيب استقامة قضيب ملكك" (عب1: 8).
+ وكذلك تنبأ دانيال عن هذه المملكة الأبدية قائلاً:
& "وفي أيام هؤلاء الملوك، يقيم إله السماوات مملكة لن تنقرض أبدًا، وملكها لا يترك لشعب آخر، وتسحق وتفني كل هذه الممالك، وهي تثبت إلى الأبد" (دا2: 44).
& وأيضًا .. "كنت أرى في رؤى الليل وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام، فقربوه قدامه. فأعطي سلطانًا ومجدًا وملكوتًا لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول، وملكوته ما لا ينقرض" (دا7: 13-14).
& "والمملكة والسلطان وعظمة المملكة تحت كل السماء تعطى لشعب قديسي العلي. ملكوته ملكوت أبدي، وجميع السلاطين إياه يعبدون ويطيعون" (دا7: 27).
حقًا .. إن الرب يسوع هو الملك الأزلي الأبدي، وليس آخر سواه.