إن ما يمُيز حياة السماء هو التسبيح الدائم، والفرح غير المنقطع، وهذا ما يُعلنه القديس يوحنا اللاهوتي في سفر الرؤيا.. حيث يصف السماء وصفاً دقيقاً يشمل صفوف وأنواع السمائيين، وملابسهم، وطريقة سجودهم أو جلوسهم، وبالطبع التسابيح التي يتلونها، والبخور المتصاعد من مجامرهم.
ما أجمل المنظر السمائي البهي الذي يشترك فيه الأربعة والعشرون شيخاً مع الأربعة حيوانات غير المتجسدة في تسبيح الجالس على العرش بالثلاثة تقديسات.
"وللوقت صرت في الروح، و إذا عرش موضوع في السماء، وعلى العرش جالس...وحول العرش أربعة وعشرون عرشاً. ورأيت على العروش أربعة و عشرين شيخاً جالسين متسربلين بثياب بيض، وعلى رؤوسهم أكاليل من ذهب...وفي وسط العرش وحول العرش أربعة حيوانات مملوَّة عيوناً من قدام ومن وراء... لكل واحد منها ستة أجنحة حولها، ومن داخل مملوَّة عيوناً، و لا تزال نهاراً و ليلاً قائلة: "قدوس، قدوس، قدوس، الرب الإله القادر على كل شيء، الذي كان والكائن والذي يأتي". وحينما تعطي الحيوانات مجداً وكرامةً وشكراً للجالس على العرش، الحي إلي أبد الآبدين، يخر الأربعة و العشرون شيخاً قدام الجالس على العرش، ويسجدون للحي إلي أبد الآبدين، ويطرحون أكاليلهم أمام العرش قائلين: أنت مستحق أيها الرب أن تأخذ المجد والكرامة والقدرة، لأنك أنت خلقت كل الأشياء، وهي بإرادتك كائنة وخُلِقَت" (رؤ4: 2-11).
إن أبهى ما في السماء هو الجالس على العرش في الوسط.. إنه ربنا يسوع المسيح الذي يجب له التسبيح. إن مجرد وجوده وظهوره وحضوره هو تسبيح وفرح لا ينقطع، ومجد وكرامة لا يُعبَّر عنها، وهذا ما جعل هذه الطغمات السمائية تلهج بالتسبيح بهذه الطريقة البديعة.
إن النفس التي تنفتح على رؤية المسيح لابد أن ينطق لسانها وقلبها بالتسبيح. ولأن المسيح حاضر دائماً في كنيسته، ومُستعلن بكل بهائه (عمانوئيل إلهنا في وسطنا الآن بمجد أبيه والروح القدس) لذلك تحيا الكنيسة على الأرض في حياة التسبيح الدائم.. "أُخبر باسمك إخوتي، وفي وسط الكنيسة أسبحك" (عب12:2)، "فلنقدم به في كل حين لله ذبيحة التسبيح، أي ثمر شفاه معترفة باسمه" (عب15:13).
وها هو منظر سمائي آخر يصف جمال التسبيح:
"ورأيت فإذا في وسط العرش والحيوانات الأربعة وفي وسط الشيوخ خروف قائم كأنه مذبوح...ولما أخذ السفر خرت الأربعة الحيوانات والأربعة والعشرون شيخاً أمام الخروف، ولهم كل واحد قيثارات وجامات من ذهب مملوّة بخوراً هي صلوات القديسين. وهم يترنمون ترنيمة جديدة قائلين: "مستحق أنت أن تأخذ السفر وتفتح ختومه، لأنك ذُبحت واشتريتنا لله بدمك من كل قبيلة ولسان وشعب وأمّة، وجعلتنا لإلهنا ملوكاً وكهنةً فسنملك على الأرض". ونظرت وسمعت صوت ملائكة كثيرين حول العرش والحيوانات والشيوخ، وكان عددهم ربوات ربوات وألوف ألوف، قائلين بصوت عظيم: "مستحق هو الخروف المذبوح أن يأخذ القدرة والغنى والحكمة والقوة والكرامة و المجد والبركة!". وكل خليقة مما في السماء وعلى الأرض وتحت الأرض، وما على البحر، كل ما فيها، سمعتها قائلة: "للجالس على العرش وللخروف البركة والكرامة والمجد و السلطان إلي أبد الآبدين". وكانت الحيوانات الأربعة تقول: "آمين" والشيوخ الأربعة والعشرون خروا وسجدوا للحي إلي أبد الآبدين" (رؤ5: 6-14).
ما أجمل هذا المنظر.. إنه سجود وقيثارات وبخور وترنيم، ثم خوارس تتبادل التسبيح، ومخلوقات سمائية تردد "آمين"..والعجيب هنا أن الطغمات الملائكية يقولون للابن الوحيد: "لأنك ذُبحت واشتريتنا لله بدمك" (رؤ9:5).. ومعروف طبعاً أن الابن اشترانا نحن البشر بدمه ولم يشترِ الملائكة.. فلماذا إذاً يقولون له هذا التعبير؟ إنهم حقاً "يسبحون تسبحة الغلبة والخلاص الذي لنا"بحسب تعبير القديس "غريغوريوس اللاهوتي" في القداس الإلهي. فكما نشاركهم في تسبيحهم قائلين: "قدوس..قدوس..قدوس"يشاركونا هم أيضاً في تسبيحنا قائلين: "ذبحت واشتريتنا".إنها شركة التسبيح، وكم هي جميلة..لأنها تدخلنا في علاقة حب واتحاد مع السمائيين.
إن الأبدية السعيدة هي مكافأة الأبرار، وانتصار العدل على الأشرار. وهذا أيضاً موضوع تسبحة السمائيين..
"فحدثت أصوات عظيمة في السماء قائلة: قد صارت ممالك العالم لربنا ومسيحه، فسيملك إلي أبد الآبدين. والأربعة والعشرون شيخاً الجالسون أمام الله على عروشهم، خروا على وجوههم وسجدوا لله قائلين: نشكرك أيها الرب الإله القادر على كل شيء، الكائن والذي كان والذي يأتي، لأنك أخذت قدرتك العظيمة وملكت. وغضبت الأمم، فأتى غضبك وزمان الأموات ليدانوا، ولتُعطَى الأجرة لعبيدك الأنبياء والقديسين والخائفين اسمك، الصغار والكبار، وليهلك الذين كانوا يُهلكون الأرض" (رؤ11: 15-18).
في هذا المنظر الجميل هناك أصوات عظيمة تليق بتسبيح الإله العظيم وحده، وهناك كلمات تسبيح تعبر عن سيادة الله، ومملكته التي لن تزول، وهناك أيضاً الخوارس التي (ترابع) التسبيح بطريقة المردات أو المرابعة.
والأعظم أيضاً في هذا التسبيح أن الملائكة متهللة لهزيمة الشيطان، وسقوطه هو ومملكته، وطرحه في بحيرة النار والكبريت. لذلك صارت هذه الهزيمة المنكرة موضوع تسبيحهم، وبرهان شركتهم مع البشر القديسين الذين غلبوه بدم الخروف وبكلمة شهادتهم..
"وسمعت صوتاً عظيماً قائلاً في السماء: الآن صار خلاص إلهنا وقدرته وملكه وسلطان مسيحه، لأنه قد طرح المشتكي على إخوتنا، الذي كان يشتكي عليهم أمام إلهنا نهاراً وليلاً. وهم غلبوه بدم الخروف وبكلمة شهادتهم، ولم يحبوا حياتهم حتى الموت. من أجل هذا، افرحي أيتها السماوات و الساكنون فيها. ويل لساكني الأرض والبحر، لأن إبليس نزل إليكم وبه غضب عظيم! عالماً أن له زماناً قليلاً" (رؤ12: 10-12).
وهذه التسبحة تشبه الهوس الأول الذي فيه نسبح الله على نجاة شعبه، وهلاك فرعون في البحر الأحمر.
إن التسبيح في السماء يُعبّر عن الصفاء والنقاوة التي سنتمتع بها مع السمائيين، بعد أن طرح الله الشيطان المشتكي علينا في بحيرة النار، وخلّص الكون من شره وفساده وسلطانه المزعوم.
"ثم نظرت وإذا خروف واقف على جبل صهيون، ومعه مئة وأربعة وأربعون ألفا، لهم اسم أبيه مكتوباً على جباههم. وسمعت صوتاً من السماء كصوت مياه كثيرة وكصوت رعد عظيم. وسمعت صوتاً كصوت ضاربين بالقيثارة يضربون بقيثاراتهم، وهم يترنمون كترنيمة جديدة أمام العرش وأمام الأربعة الحيوانات والشيوخ. ولم يستطع أحد أن يتعلم الترنيمة إلا المئة والأربعة والأربعون ألفاً الذين اشتروا من الأرض. هؤلاء هم الذين لم يتنجسوا مع النساء لأنهم أطهار. هؤلاء هم الذين يتبعون الخروف حيثما ذهب. هؤلاء اشتروا من بين الناس باكورة لله و للخروف. وفي أفواههم لم يوجد غش، لأنهم بلا عيب قدام عرش الله" (رؤ14: 1-5).
لقد انفتح المجال للبشر (المائة والأربعة والأربعون ألفاً - وهو رقم رمزي يدل على المؤمنين المتمتعين بالحياة الأبدية) أن يشتركوا مع صفوف السمائيين في تسابيحهم، ويتعلموا ترنيمهم، ويتبعوا الخروف حيثما ذهب.
إنها تسبحة خالدة، تلك التي ترنم بها موسى مع شعبه عند خروجهم من أرض مصر، وسجلت في سفر الخروج (الإصحاح 15). والآن نحن نسبح بها الله في الهوس الأول؛ من أجل أعماله العظيمة في خلاصنا. وسوف نستمر نسبحها في السماء مع كل الغالبين، لأنه بالحقيقة أنقذنا من سلطان إبليس.. فعندما ذُبح المسيح من أجلنا (مثل خروف فصح) عبر بنا من ظلمة الخطية إلي النور، ومن عبودية إبليس إلي حرية مجد أولاد الله.. "ورأيت كبحر من زجاج مختلط بنار، والغالبين على الوحش وصورته وعلى سمته وعدد اسمه، واقفين على البحر الزجاجي، معهم قيثارات الله، وهم يرتلون ترنيمة موسى عبد الله، وترنيمة الخروف قائلين: عظيمة وعجيبة هي أعمالك أيها الرب الإله القادر على كل شيء! عادلة وحق هي طرقك يا ملك القديسين! مَنْ لا يخافك يا رب ويمجد اسمك؟ لأنك وحدك قدوس، لأن جميع الأمم سيأتون ويسجدون أمامك، لأن أحكامك قد أُظهرت"(رؤ15: 2-4).
الحرية التي نتمتع بها بالحقيقة في السماء سوف تجعلنا ننطق بالتسبيح قائلين هللويا. إنها كلمة تحمل معاني عميقة، فنحن نتهلل لإلهنا وبه، ونحمده ونفرح به من خلالها، لأنه بالحقيقة إلهنا القوي المحب الرحوم على أبنائه.
"وبعد هذا سمعت صوتاً عظيماً من جمع كثير في السماء قائلاً: هللويا! الخلاص والمجد والكرامة والقدرة للرب إلهنا، لأن أحكامه حق وعادلة، إذ قد دان الزانية العظيمة التي أفسدت الأرض بزناها، وانتقم لدم عبيده من يدها. وقالوا ثانية: هللويا! ودخانها يصعد إلى أبد الآبدين. وخر الأربعة والعشرون شيخاً والأربعة الحيوانات وسجدوا لله الجالس على العرش قائلين: آمين! هللويا!. وخرج من العرش صوت قائلاً: سبحوا لإلهنا يا جميع عبيده، الخائفيه، الصغار والكبار!. وسمعت كصوت جمع كثير، وكصوت مياه كثيرة، وكصوت رعود شديدة قائلة: هللويا! فإنه قد ملك الرب الإله القادر على كل شيء. لنفرح ونتهلل ونعطيه المجد! لأن عرس الخروف قد جاء، وامرأته هيأت نفسها. وأعطيت أن تلبس بزاً نقياً بهياً، لأن البز هو تبررات القديسين" (رؤ19: 1-8).
هذه هي حياة السماء وجمال تسبيحها. أما الأشرار الذين حرموا أنفسهم من تسبيح الله في حياتهم، وكانوا بدلاً من ذلك يغنون بأغاني الشيطان، ونعيم الدنيا وموسيقى الشر، فسيتم فيهم قول الكتاب:
"بقدر ما مجدت نفسها وتنعمت، بقدر ذلك أعطوها عذاباً وحزناً" (رؤ7:18).
"وصوت الضاربين بالقيثارة والمغنين والمزمرين والنافخين بالبوق، لن يسمع فيك فيما بعد...نور سراج لن يضيء فيك في ما بعد. وصوت عريس وعروس لن يسمع فيك في ما بعد. لأن تجارك كانوا عظماء الأرض. إذ بسحرك ضلت جميع الأمم. وفيها وجد دم أنبياء وقديسين، وجميع من قتل على الأرض" (رؤ18: 22-24).
فطوبى لمن يمتلئ فمه بالتسبيح، ولسانه بالنغم الروحاني، وقلبه بسكنى المسيح...حقاً سيكون له نصيب وميراث مع خوارس السماء في هذا التسبيح الأبدي.
لذلك نرى في سفر الرؤيا البشر الغالبين يشاركون أيضاً في هذا التسبيح السمائي الجميل: "بعد هذا نظرت وإذا جمع كثير لم يستطع احد أن يعده، من كل الأمم والقبائل والشعوب والألسنة، واقفون أمام العرش وأمام الخروف، متسربلين بثياب بيض وفي أيديهم سعف النخل، وهم يصرخون بصوت عظيم قائلين: الخلاص لإلهنا الجالس على العرش وللخروف. وجميع الملائكة كانوا واقفين حول العرش، والشيوخ والحيوانات الأربعة، وخروا أمام العرش على وجوههم وسجدوا لله قائلين: آمين! البركة والمجد والحكمة والشكر والكرامة والقدرة والقوة لإلهنا إلي أبد الآبدين. آمين!" (رؤ7: 9-12).
طوبى لهؤلاء الغالبين لأنهم يقفون أمام عرش الله ويخدمونه بالتسبيح في هيكله المقدس نهاراً وليلاً.