قبل السبي كانت مملكة إسرائيل واحدة في عهد ثلاثة ملوك: شاول، داود، سليمان. وانقسمت المملكة إلي اثنين في عهد رحبعام. وكما ذكرنا فإن مملكة الجنوب (يهوذا) توالى عليها بعض الملوك الصالحين وشهدت عدة نهضات روحية، أما مملكة الشمال (إسرائيل) فدخلتها العبادات الغريبة والشر، ولم يكن لهم حظ أو نصيب في ذبيحة التسبيح مقارنة بمملكة يهوذا بأورشليم.
وبسبب شرور مملكة إسرائيل سلمهم الله إلي السبي بدءاً من سنة 722 ق.م. وانهزمت المملكة عدة مرات (2مل29:15)، (1أخ26:5)، (2مل6:17). وبهذا انتهت مملكة إسرائيل وتشتتت.
ولكن كي نتتبع رحلة التسبيح، علينا أن نتتبع مملكة يهوذا وما حدث لها (دا1:1-7)، (2مل24: 1-4)، (2مل24: 12-16)، (2مل25: 8-12).لقد دمرت أورشليم وانتهت مملكة يهوذا أيضاً وأصابها العار.
"على أنهار بابل هناك جلسنا، بكينا أيضاً عندما تذكرنا صهيون. على الصفصاف في وسطها علقنا أعوادنا. لأنه هناك سألنا الذين سبونا كلام ترنيمة، ومعذبونا سألونا فرحاً قائلين: "رنموا لنا من ترنيمات صهيون". كيف نرنم ترنيمة الرب في أرض غريبة؟ إن نسيتك يا أورشليم، تنسى يميني! ليلتصق لساني بحنكي" (مز137: 1-6)
كانت تسابيح أورشليم شهيرة جداً حتى أن الأعداء البابليين كانوا قد سمعوا عن مجد وبهاء هذا التسبيح، فطلبوا من الشعب المسبي بتهكم أن يرتلوا لهم هذه التسابيح، لكن لم تعد هناك حتى الرغبة في التسبيح.
لم تكن تسابيح الرب مجرد أغاني يتمتع بها الغرباء في حفلات صاخبة –كما كانوا يفعلون- لكنها كانت ذبيحة حب وفرح يُغنى بها في حضور إله إسرائيل.
لقد أتت نبوة أيوب: "صار عودي للنوح ومزماري لصوت الباكين" (أي31:30)وتحولت تسابيح الشعب مراثيا، وحق لهم أن يرددوا هذه المزامير بدلاً من مزامير الفرح: مز74، مز79، مز85.
" هل إلي الدهر تسخط علينا؟ هل تطيل غضبك إلي دور فدور؟ ألا تعود أنت فتحيينا، فيفرح بك شعبك؟" (مز85: 5-8)
لكن الله الحنون لم يترك شعبه إلي الانقضاء، بل أرسل لهم مخلصين ليخلصوهم من السبي، وعادوا إلي أورشليم ليعمروها بالمباني وأيضاً بالتسبيح. وهذا ما تنبأ عمه إشعياء النبي وقال:
"في ذلك اليوم يغنَّى بهذه الأغنية في أرض يهوذا: لنا مدينة قوية. يجعل الخلاص أسواراً ومترسة" (إش 1:26).
"ويكون في ذلك اليوم أنه يضرب ببوق عظيم، فيأتي التائهون في أرض أشور، والمنفيون في أرض مصر، ويسجدون للرب في الجبل المقدس في أورشليم" (إش13:27).
"ومفديو الرب يرجعون ويأتون إلي صهيون بترنم" (إش10:35).
"هذا الشعب جبلته لنفسي. يحدث بتسبيحي" (إش21:43).
"اخرجوا من بابل، اهربوا من أرض الكلدانيين. بصوت الترنم أخبروا. نادوا بهذا" (إش20:48).
كانت عودة الشعب إلي أرضه المقدسة سبباً في عودة الروح إليه، وبدأ الناس يعودون إلي عبادته المقدسة. وكانت أبرز علامات النهضة الروحية التي صاحبت العودة من السبي عودة ذبيحة التسبيح إلي مكانتها ومجدها اللائقين بها. وكانت هناك عدة علامات أظهرت الاهتمام بخدمة التسبيح:
1- في الإحصاء الذي أجراه كل من زربابل وعزرا ونحميا للعائدين من السبي، كان هناك اهتمام خاص بأعداد المسبحين، وقد أسماهم السفران عزرا ونحميا بـ"المغنين".. "المغنون بنو آساف مئة وثمانية وعشرون" (عز41:2)، "ولهم من المغنين والمغنيات مئتان" (عز65:2).
مجرد ذكر هذه الفئة ضمن تعداد الشعب وضمن فئات الناس، يُوحي بأن لهم كياناً مستقلاً واهتماماً خاصاً، وأن القادة كانوا ملتفتين إليهم باعتبارهم ضروريين لعودة الروح إلي الشعب.
2- كان وجود فرق التسبيح جزءً أساسياً في احتفالات تدشين الهيكل والسور "ولما أسس البانون هيكل الرب، أقاموا الكهنة بملابسهم بأبواق، واللاويين بني آساف بالصنوج، لتسبيح الرب على ترتيب داود ملك إسرائيل. وغنوا بالتسبيح والحمد للرب، لأنه صالح لأن إلي الأبد رحمته على إسرائيل. وكل الشعب هتفوا هتافاً عظيماً بالتسبيح للرب" (عز3: 10-11). "وعند تدشين سور أورشليم طلبوا اللاويين من جميع أماكنهم ليأتوا بهم إلي أورشليم، لكي يدشنوا بفرح وبحمد وغناء بالصنوج والرباب والعيدان" (نح27:12). لقد كانت فرحتهم ببناء الهيكل وبناء السور فرحة روحية مقدسة، لذلك كان يصاحبها التسبيح.
3- إعفاء فرق التسبيح من الضرائب ومنحهم مرتبات مجزية كمثل أيام داود وسليمان "ونعلمكم أن جميع الكهنة واللاويين والمغنيين والبوابين والنثينيم وخدام بيت الله هذا، لا يؤذن أن يُلقى عليهم جزية أو خراج أو خفارة" (عز24:7). "لأن وصية الملك من جهتهم كانت أن للمرنمين فريضة أمر كل يوم فيوم" (نح23:11).هذا الأمر لم يكن موجوداً قبل نحميا، مما جعله يخاصم الولاة، لأنهم لم يقوموا بإعطاء أنصبة اللاويين والمغنين (نح13: 10-11).
4- اشتراك كل الشعب في التسبيح "فقال كل الجماعة: آمين. وسبحوا الرب. وعمل الشعب حسب هذا الكلام" (نح13:5)، ولم يعد الأمر مقصوراً على اللاويين والمسبحين فقط، بل قد اشترك كل الشعب في تسبيح الرب الإله.
5- إنشاء تسابيح عظيمة جديدة على غرار مزامير داود، تمتلئ بشرح التاريخ المقدس، وحمد الله على صنيعه مع شعبه (نح9: 5-38)، وهكذا تجدد عطاء الروح القدس على فم الأنبياء والآباء، بسبب عودة التوبة إلي القلوب، وعودة الفرح والإحساس بحضور الله في حياتهم.
6- لم تُـهمل وظيفة التسبيح عند توزيع الوظائف على اللاويين..كانت كل فرقة من اللاويين لها وظيفة، وكان المسبحون لهم أيضاً دور في تنظيم العبادة المقدسة، كمثل أيام داود وسليمان "واللاويون: يشوع و... الذي على التحميد هو وأخوته" (نح8:12).إنها صورة لما حدث أيام داود النبي عندما رتب العبادة في الهيكل، وصارت كل فرقة من اللاويين مسئولة عن جزء من الخدمة.
7- أدخل نحميا تطويراً جديداً على خدمة التسبيح، مازالت كنيستنا القبطية تعمل به، وهو نظام الخورسين اللذين يتبادلان التسبيح (ربع بحري وربع قبلي)..
"وأقمت فرقتين عظيمتين من الحمّادين" (نح31:12)
"والفرقة الثانية من الحمّادين وكبت مقابلهم، وأنا وراءها" (نح38:12)
"فوقف الفرقتان من الحمّادين في بيت الله، وأنا ونصف الولاة معي" (نح40:12)
هذا النظام في التسبيح يُسمى (Antiphon) أي نظام المرابعة...
8- الالتزام بنظام داود وسليمان في العبادة بالتسبيح..
"على ترتيب داود ملك إسرائيل" (عز10:3)
"بآلات غناء داود رجل الله" (نح36:12)
"حسب وصية داود وسليمان ابنه" (نح45:12)
وقد رأينا سابقاً أن التسبيح بلغ أوج مجده في عهدي داود وسليمان المباركين. لذلك صار ترتيبهما مرجعاً لكل العصور. وقد التزم نحميا بذلك ليعيد المجد إلي إسرائيل.
وتحققت نبوات الأنبياء وعاد التسبيح إلي هيكل الرب بعد السبي:
"صوت الطرب وصوت الفرح، صوت العريس وصوت العروس، صوت القائلين: احمدوا رب الجنود لأن الرب صالح، لأن إلي الأبد رحمته. صوت الذين يأتون بذبيحة الشكر إلي بيت الرب، لأني أردُّ سبي الأرض كالأول، يقول الرب" (إر11:33).
"لأجعل لنائحي صهيون، لأعطيهم جمالاً عوضاً عن الرماد، ودهن فرح عوضاً عن النوح، ورداء تسبيح عوضاً عن الروح اليائسة، فيدعون أشجار البر، غَرسَ الرب للتمجيد" (إش3:61).
بعد العودة من السبي واستقرار أمور شعب الله نسبياً، وبناءً على تنظيم عزرا ونحميا لخدمة الهيكل والتسبيح، عادت للهيكل أمجاده القديمة. ومع مرور الوقت استقرت التنظيمات الخاصة بالعبادة داخل الهيكل، وصار لها ترتيب مستقر استمر حتى مجيء ابن الله بالجسد، حيث شارك فيها بالتسبيح ربنا يسوع مع تلاميذه القديسين.
وقد كانت المزامير وتسابيح الأنبياء تشكّل المادة الأساسية لكل العبادة بالتسبيح في الهيكل بأورشليم..فعلى مدار الأسبوع كانت هناك تسابيح مخصصة لكل يوم، وكذلك كانت هناك تسابيح مرتبة للأعياد والمواسم الدينية.