أعد الله فتى صغيراً ليطور به نظام العبادة ويُدخِل به، إلي جانب الذبائح الدموية، ذبيحة أخرى سامية تعبر عن الحب والود بين الله والناس، وتشيع الفرح والتهليل بين صفوف العابدين، وتنبئ عن الصلح والسلام اللذان سيصيران بين السماء والأرض بعد إتمام الفداء بدم السيد المسيح.
تلك الذبيحة الطاهرة هي "ذبيحة التسبيح": "فلنقدم به في كل حين لله ذبيحة التسبيح، أي ثمر شفاه معترفة باسمه" (عب 15:13)، وكان هذا الفتى الصغير هو داود "مُرنم إسرائيل الحلو" (2صم1:23)، الذي وصف بأنه: "كان أشقر مع حلاوة العينين وحسن المنظر" (1صم12:16). ذلك الفتى الذي استحقره جليات الفلسطيني، ومع ذلك فقد قيل عنه إنه "يحسن الضرب (بالموسيقي)، وهو جبار بأس ورجل حرب، وفصيح ورجل جميل، والرب معه" (1صم18:16).
ونستطيع أن نقول أن داود هو أهم مرحلة مر بها التسبيح في الكتاب المقدس، وهو "عميد" المرنمين والمسبحين.
وقد كان داود شاعراً فصيحاً يُجيد التعبير عن أحاسيسه في أشعار خلابة. وكان وهو يرعى أغنامه في البرية يستوحي من الطبيعة المحيطة به صوره الشعرية الجميلة، التي صاغها في المزامير والتي تتأمل في عمل الله وخليقته الحسنة. كانت السماء، الفلك، الشمس، القمر، البحار، الأنهار، الحيوانات والطيور كلها مصدر إلهام لذلك الشاعر الصغير الرقيق، مسوقاً من الروح القدس.
"ما أعظم أعمالك يا رب! كلها بحكمة صنعت. ملآنة الأرض من غناك. هذا البحر الكبير الواسع الأطراف. هناك دبابات بلا عدد. صغار حيوان مع كبار" (مز24:104،25).
"إذا أرى سماواتك عمل أصابعك، القمر والنجوم التي كونتها" (مز3:8).
"الغنم والبقر جميعاً، وبهائم البر أيضاً، وطيور السماء، وسمك البحر السالك في سبل المياه" (مز7:8،8).
"السماوات تحدث بمجد الله، والفلك يخبر بعمل يديه. يوم إلي يوم يذيع كلاماً، وليل إلي ليل يبدي علماً." (مز1:19،2).
"للرب الأرض وملؤها. المسكونة وكل الساكنين فيها. لأنه على البحار أسسها، وعلى الأنهار ثبتها" (مز1:24،2).
"صوت الرب على المياه. إله المجد أرعد. الرب فوق المياه الكثيرة" (مز 3:29).
"كما يشتاق الإيل إلي جداول المياه، هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله"(مز1:42).
"غمر ينادي غمراً عند صوت ميازيبك. كل تياراتك ولججك طمت عليّ" (مز7:42).
"رفعت الأنهار يا رب، رفعت الأنهار صوتها. ترفع الأنهار عجيجها. من أصوات مياه كثيرة، من غمار أمواج البحر، الرب في العُلى أقدر" (مز3:93،4).
والظروف المتباينة التي مر بها هذا الفتى الرقيق جبار البأس كانت مصدراً لإلهامه الشعري، واستطاع الروح القدس أن يستثمر هذه الظروف في صياغة مزامير خالدة، مناسبة لكل الأجيال. وهذه الظروف المتباينة نقصد بها المواقف التالية:
"يا رب، ما أكثر مضايقي! كثيرون قائمون عليّ" (مز1:3).
"يا بني البشر، حتى متى يكون مجدي عاراً؟ حتى متى تحبون الباطل وتبتغون الكذب؟" (مز2:4).
"لأن أعدائي تقاولوا علين والذين يرصدون نفسي تآمروا معاً" (مز10:71).
"يا رب، لا توبخني بغضبك، ولا تؤدبني بغيظك.. وأنت يا رب فحتى متى؟" (مز1:6،3).
"يا رب، لماذا تقف بعيداً؟ لماذا تختفي في أزمنة الضيق؟" (مز1:10).
"إلي متى يا رب تنساني كل النسيان؟ إلي متى تحجب وجهك عني؟" (مز1:13).
"أحمد الرب بكل قلبي. أحدث بجميع عجائبك. أفرح وأبتهج بك. أرنم لاسمك أيها العلي" (مز1:9،2).
"أحبك يا رب، يا قوتي. الرب صخرتي وحصني ومنقذي. إلهي صخرتي به أحتمي" (مز1:18،2).
"الرب راعي فلا يعوزني شيء" (مز1:23).
"ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب" (مز8:34).
"طوبى للذي غُفِر إثمه وسُترت خطيته. طوبى لرجل لا يَحسب له الرب خطية، ولا في روحه غش" (مز1:32،2).
"أعترف لك بخطيتي ولا أكتم إثمي. قلت: أعترف للرب بذنبي، وأنت رفعت أثام خطيتي" (مز5:32).
"ليست في جسدي صحة من جهة غضبك. ليست في عظامي سلامة من جهة خطيتي. لأن آثامي قد طمت فوق رأسي. كحمل ثقيل أثقل مما أحتمل" (مز3:38،4).
"اغسلني كثيراً من إثمي، ومن خطيتي طهرني. لأني عارف بمعاصي، وخطيتي أمامي دائماً. إليك وحدك أخطأت، والشر قدام عينيك صنعت" (مز 2:51-4).
اُختير داود ليكون عازفاً أمام شاول الملك "وكان عندما جاء الروح من قبل الله على شاول أن داود أخذ العود وضرب بيده، فكان يرتاح شاول ويطيب ويذهب عنه الروح الرديء" (1صم23:16).
وانتصر داود على جليات الذي عيَّر بني إسرائيل (1صم17: 50،51)ومر بظروف كثيرة في حياته، مذكورة في سفري صموئيل الأول والثاني، تخللها دائماً التسبيح والترنيم.
وبتدبير إلهي أتيح لهذا الفتى الصغير الفرصة لأن يعمم محبة الناس للتسبيح، وينشر مزاميره ليترنم بها شعب الله، وذلك عندما صارت بيده مقاليد الأمور وأصبح ملكاً لكل إسرائيل (2صم5: 3،4).
عندما استقرت المملكة في يد داود، فكر في استرداد تابوت عهد الرب، الذي كان قد استولى عليه الفلسطينيون أيام عالي الكاهن (1صم11:4). كان يمكن أن تكون رحلة عودة التابوت مصحوبة بحراسة عسكرية، لكنها كانت فرصة رائعة لداود الموسيقار صاحب المزامير أن يجعلها احتفالاً دينياً موسيقياً تكون فيه عودة التابوت مصحوبة بالتسابيح والمزامير والألحان. "وجمع داود أيضاً جميع المنتخبين في إسرائيل، ثلاثين ألفاً. وقام داود وذهب هو وجميع الشعب الذي معه من بعلة يهوذا، ليصعدوا من هناك تابوت الله... وداود وكل بيت إسرائيل يلعبون أمام الرب بكل أنواع الآلات من خشب السرو، بالعيدان وبالرباب وبالدفوف وبالجنوك وبالصنوج" (2صم1:6-5).
كان هذا أول حفل موسيقي ديني ضخم يقوده ملك البلاد بنفسه، ولا شك أنه قد بُذل جهد كثير ووقت كبير في الإعداد لهذا الحفل الملكي المهيب. وكان كل الشعب يشارك في العزف والإنشاد والتهليل والفرح "فأصعد داود وجميع بيت إسرائيل تابوت الرب بالهتاف وبصوت البوق" (2صم15:6).
وكان الحفل منظماً جداً به كل أنواع الآلات الموسيقية"وبصوت الأصوار والأبواق والصنوج، يصوتون بالرباب والعيدان" (1أخ 28:15)، وأنواع من المسبحين مقسمين على آلات (1أخ 15: 19-24). واستمر هذا الحفل طوال الطريق "وكان كلما خطا حاملوا تابوت الرب ست خطوات يذبح ثوراً وعجلاً معلوفاً. وكان داود يرقص بكل قوته أمام الرب. وكان داود متنطقاً بأفود من كتان" (2صم6: 13،14).
إنها المرة الأولى في التاريخ المقدس التي يُعلَن فيها عن حضور الله من خلال الموسيقى والتسبيح فقيل عنه: "الجالس بين تسبيحات إسرائيل" (مز3:22).
"وأدخلوا تابوت الله وأثبتوه في وسط الخيمة التي نصبها له داود، وقربوا محرقات وذبائح سلامة أمام الله" (1أخ 1:16).
كان اللاويون قبل عهد داود الملك مسئولين عن حمل الخيمة أثناء تنقلها، ولكن بما أنها استقرت في عهده لم يعد هناك داع لهذا الترحال كما كان أيام موسى النبي، ولم تعد هناك وظيفة لهؤلاء "الحمالين" (1أخ 23: 25،26)، فاستحدث لهم داود وظيفة أخرى في الخيمة سوف تستمر إلي منتهى الأيام. هذه الوظيفة هي "خدمة ذبيحة التسبيح": "لأجل الوقوف كل صباح لحمد الرب وتسبيحه وكذلك في المساء" (1أخ 30:23)."وجعل(داود) أمام تابوت الرب من اللاويين خداماً، ولأجل التذكير والشكر وتسبيح الرب إله إسرائيل: آساف الرأس..بآلات رباب وعيدان. وكان آساف يصوت بالصنوج. وبنايا ويحزيئيل الكاهنان بالأبواق دائماً أمام تابوت عهد الله" (1أخ16: 4-6).
كانت هذه أول مرة في التاريخ تدخل خدمة التسبيح في العبادة المقدسة الرسمية داخل خيمة الاجتماع ويكون لها خدام متخصصون ومكرسون لهذا العمل المقدس(1أخ 16: 7،37) (1أخ6: 31،32)
كان عدد المسبحين ضخماً جداً حتى أنهم صاروا فرقاً.. فمن مجموع عدد رجال سبط لاوي من ابن ثلاثين سنة فما فوق، البالغ عددهم ثمانية وثلاثين ألفاً، كان هناك "أربعة آلاف مسبحون للرب بالآلات التي عملت للتسبيح" (1أخ 5:23). صار لهؤلاء المنتخبين لخدمة التسبيح حظوة ومكانة، وحُسبوا كأنبياء..حتى أنهم كانوا يُلقبون بكلمة "المتنبئ" أو "الرائي": "آساف المتنبئ بين يدي الملك" (1أخ2:25).
وهكذا تأسست في عهد داود النبي والملك خدمة منظمة للتسبيح لها قواعد وأصول ونظم وتقسيمات وفرق متخصصة. وكان الملك بنفسه يتولى الاهتمام بهذه الخدمة المقدسة.
كان الله قد أعد النبي داود وملأه من الروح القدس والحكمة لكي بواسطته يدخل نظام التسبيح في صميم العبادة الإلهية.
بعد أن مات داود، اختار الله للمملكة أكثر أبنائه شاعرية وعاطفية وحكمة خلفاً له وهو سليمان الذي "تكلم بثلاثة آلاف مثل، وكانت نشائده ألفاً وخمساً" (1مل32:4)، ولعل الله كان يقصد أن يؤصل ويعمق نظام التسبيح في كنيسة العهد القديم، لذلك اختار سليمان خلفاً لداود أبيه.
كانت من أهم وأوائل أعمال الملك الجديد سليمان أنه بنى هيكلاً مقدساً للرب (1مل1:6)، وكان حفل تدشين الهيكل حفلاً ضخماً رائعاً أهم ما يميزه الموسيقى والألحان المقدسة: "واللاويون المغنون أجمعون: آساف وهيمان ويدوثون وبنوهم وإخوتهم، لابسين كتاناً، بالصنوج والرباب والعيدان(كانوا) واقفين شرقي المذبح، ومعهم من الكهنة مئة وعشرون ينفخون في الأبواق. وكان لما صوَّت المبوقون والمغنون كواحد، صوتاً واحداً، لتسبيح الرب وحمده، ورفعوا صوتاً بالأبواق والصنوج وآلات الغناء والتسبيح للرب: "لأنه صالح لأن إلي الأبد رحمته." أن البيت، بيت الرب، امتلأ سحاباً. ولم يستطع الكهنة أن يقفوا للخدمة بسبب السحاب، لأن مجد الرب ملأ بيت الله" (2أخ5: 12-14).
وسبح سليمان وصلّى بمزمور جميل من تأليفه ذُكر في (2أخ6)في أثناء تدشين الهيكل المقدس.
بعد التدشين نظم سليمان العبادة المقدسة في الهيكل..فكانت الذبائح تقام "حسب وصية موسى" (2أخ13:8)، أما التسبيح فكان حسب طقس داود الملك "وأوقف حسب قضاء (تنظيم)داود أبيه فرق الكهنة على خدمتهم واللاويين على حراساتهم، للتسبيح والخدمة أمام الكهنة، عمل كل يوم بيومه... لأنه هكذا هي وصية داود رجل الله. ولم يحيدوا عن وصية الملك على الكهنة واللاويين في كل أمر" (2أخ8: 14-15).
لم يكن التسبيح في أيام داود وسليمان الملكين عشوائياً، بل كان له نظام وترتيب وباهتمام الملكين بنفسيهما. وكان هذا التنظيم يتميز بالآتي:
كلمة "أوقف" (1أخ17:15)التي قيلت عن اختيار مجموعة من الناس للتسبيح تُعني أنهم تعينوا في هذه الوظيفة وتم تكريسهم لها، ثم تجهيزهم وإعدادهم للقيام بهذه المهمة. وكلمة "أفرز" (1أخ1:25) تعني أنهم اُختيروا وتخصصوا لهذا العمل وهذه الخدمة.
كان هناك تدريب للمغنيين والعازفين، وكان المدربون على مستوى عال من الروحانية والمهارة الفنية الموسيقية. وقد استخدم الكتاب المقدس عبارة "تحت يد (فلان)"للتعبير عن هذا التدريب "تحت يد آساف المتنبئ بين يدي الملك...تحت يد أبيهم يدوثون المتنبئ بالعود...كل هؤلاء تحت يد أبيهم...لخدمة بيت الله، تحت يد الملك وآساف ويدوثون وهيمان. وكان عددهم مع إخوتهم المتعلمين الغناء للرب، كل الخبيرين مئتين وثمانية وثمانين...المعلم مع التلميذ" (1أخ25: 2-8)
"وكننيا رئيس اللاويين على الحمل مرشداً في الحمل لأنه كان خبيراً" (1أخ22:15)، "وكننيا رئيس الحمل مع المغنيين" (1أخ27:15). لقد اُختير "كننيا"رئيساً للفناء لأنه كان خبيراً، ومعلماً للفرق الموسيقية.
كان هناك ثلاثة رجال أساسيين "هيمان بن يوئيل.. وآساف بن برخيا..وإيثان بن قوشيا" (1أخ17:15)، وكان معهم آخرون "ومعهم إخوتهم الثواني (درجة ثانية) زكريا و..." (1أخ18:15)، وكانت هذه الدرجات تتحدد حسب مهاراتهم في الغناء والعزف.
لقد اختارهم داود الملك من اللاويين وحددهم بالاسم، وكانت مواهبهم الفنية هي التي أفسحت لهم الطريق (1أخ16: 37-42)...
"وهؤلاء هم الذين أقامهم داود على يد الغناء في بيت الرب بعدما استقر التابوت. وكانوا يخدمون أمام مسكن خيمة الاجتماع بالغناء إلي أن بنى سليمان بيت الرب في أورشليم، فقاموا على خدمتهم حسب ترتيبهم" (1أخ6: 31-32).
لقد تكررت كلمة "خبير" (1أخ22:15)، وكلمة"ماهر".. "ومن اللاويين كل ماهر بآلات الغناء" (2أخ12:34)، وكلمة "ماهر"تعني هؤلاء المتدربين الذين كانوا خبراء ولهم المقدرة على الفهم والإدراك وممارسة خدمة الرب بكفاءة. لم يكن هناك موضع للجهل أو لنقص المهارة للخدمة فيما يخص الله. داود نفسه عزف حسناً وبمهارة أمام شاول الملك (1صم23:16).