إذًا يمكننا القول إن الخالق هو الذي صمم، بل وأشرف بنفسه، على تكوين أول أسرة في التاريخ البشري.

ولاحظ معي، من فضلك، التدرّج الصاعد في وصف أفعال عمليات الخلق: ففي خلق النباتات والحيوانات يقول الكتاب: «قال الله» (تك1: 11، 20، 24). لكن في خلق الإنسان يقول: «نعمل الإنسان» (تك1: 26)، أما في خلق المرأة وتكوين الأسرة يقول الكتاب: «بنى الله» و«أحضرها الله» (تك2: 22)!! لذا، لا أعتقد أنني أبالغ إذا قلت إن الغرض أيضًا يسمو ويرتفع مع تصاعد نغمة الأفعال حتى تصل للقمّة في الأسرة، عندما ليس فقط «قال»، أو حتى «عمل»، لكنه ”بنى وأحضر“؛ لتكون الأسرة قطعته الفنية المُثلى التي يعكس فيها مجد ذاته وصفاته!
كيف؟
أولاً: لأن الأسرة، بتركيبها العجيب هذا، تعكس شيئًا من جمال الوحدانيه الجامعة.
ثانيًا: لأن الأسرة، بهذا التصميم البديع، تصبح المجال المناسب لجريان تيارات المحبة الدافقة.
عندما أخذ آدم امرأته واتحد بها، علّق الروح القدس مباشرة على هذا الارتباط بالقول: «لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته، ويكونان جسدًا واحدًا»! ولأهمية هذه الوحدة، يؤكِّد عليها العهد الجديد ست مرات آخرى (مت 19: 5، 6؛ مر10: 7، 8؛ 1كو6: 16؛ أف5: 31). أي أن الروح القدس يشير سبع مرات في الوحي إلى هذا النوع الفريد من الوحدة! بل إن الرب يسوع أضاف قولاً يؤكد به رفضه القاطع لفصم عُرى هذه الوحدة إذ قال: «وما جمعه الله لا يفرقه إنسان» (مت 19: 6).
وإنني أعتقد أن تكرار الروح القدس حديثه عن هذه الوحدة سبع مرات، ثم إشارة الرب يسوع إلى أن الله شخصيًا هو صانع هذه الوحدة؛ «ما جمعه الله»، ورفضه القاطع لتفرقتها؛ «لا يفرقه إنسان»؛ إنما يعطي قيمة كبيرة لهذه الوحدة، وأبعاد تتعدى - من وجهة نظري - حدود آثارها الحرفية المباركة على الأسرة نفسها. إذ أراها ظلاً لوحدانيات روحية أخرى في غاية الأهمية. نعم إنها وحدة جسدية، لكنها صورة رائعة مادية ملموسة لنوعيات أخرى من الوحدة الروحية غير المنظورة!
وأولاً أقول إنها وحدانية جامعة! فهما اثنين، لكنهما ليس بعد اثنين، بل جسد واحد! فالله يراهما واحدًا! ويأمرنا أن نتعامل معهما على أنهما واحد! ويحذرنا من التفريق بينهما! كل هذا على الرغم من وجود كثرة داخل هذه الوحدانية!
وبصفة عامة نجد أن فكرة الوحدانية المطلقة، أو الفرد الواحد المطلق، ليس لها وجود في التعليم المسيحي. إذ أنها تتعارض تماما مع طبيعة الله التي هي محبة. وهذا بديهي لأنك عندما تقول: ”محبة“؛ فأنت تلقائيًا تفترض وجود آخر، لأنه يصبح من سُخف الكلام أن تتكلم عن محبة في عدم وجود ”محبوب“. وأيضًا عندما تقول: ”محبة“، فأنت تتكلم عن خروج من الذات نحو الآخر المحبوب بالعطاء. وأي عطاء أسمى من عطاء الذات للمحبوب لدرجة التوحد معه وصيرورتهما واحد؟! وهذا ما يفسر لك الغياب المطلق للحب عند الذين ينادون بالوحدانية المطلقة.