إشعياء – الإصحاح الحادى عشر
المسيا والعصر المسيانى
لم يكن ممكنا لإشعياء النبى أن ينحصر فى الأحداث المعاصرة له ولا الخاصة بالمستقبل القريب بالنسبة له وإنما اتجه نحو الخلاص الأبدى ، ليرى عمل الله العجيب لا بسقوط أشور ولا بعودة القلة الأمينة إلى يهوذا ، وإنما بسقوط عدو الخير إبليس واجتماع المؤمنين من اليهود والأمم كأعضاء فى جسد واحد يتمتعون بالملكوت المسيانى العجيب .
( 1 ) ظهور ابن يسى :
فى الإصحاح التاسع تحدث عن المخلص بكونه المولود العجيب : " لأنه يولد لنا ولد .. ويدعى اسمه عجيبا مشيرا إلها قديرا أبا أبديا " إش 9 : 6 ،
أما هنا فيؤكد ناسوته بكونه الملك ابن يسى : " ويخرج قضيب من جذع يسى وينبت غصن من أصوله " إش 11 : 1 .
لم يقل ابن داود مع أنه شرعا هو أبن داود ، لكنه أراد تقديمه بصورة متواضعة جدا ، كقضيب وغصن من يسى الذى عاش ومات قليل الشأن . والعجيب أن نسل داود الملك ضعف جدا حتى جاء يوسف والقديسة مريم فقراء للغاية .
بينما يتحدث الوحى فى الإصحاح السابق عن أشور – يمثل عدو الكنيسة – كأغصان مرتفعة وقوية ( إش 10 : 33 ) يظهر المسيا كقضيب أو غصن متواضع . أراد أن يسحق الكبرياء محطم البشرية بإتضاعه . وكما تقول عنه الكنيسة فى جمعة الصلبوت : " أظهر بالضعف ( الصليب ) ما هو أعظم من القوة "
+ هذا هو المسيح ، فقد حبل به بقوة الله بواسطة عذراء من نسل يعقوب ، أب يهوذا ، وأب اليهود ، من نسل يسى ..
( 2 ) المخلص وروح الرب :
" ويحل عليه روح الرب ، روح الحكمة والفهم ، روح المشورة والقوة ، روح المعرفة ومخافة الرب " إش 11 : 2
إذ جاء السيد المسيح ممثلا للبشرية حل عليه الروح القدس الذى ليس بغريب عنه ، لأنه روحه . حلول الروح القدس على المسيح يختلف عن حلوله علينا ؛ بالنسبة له حلول أقنومى ، واحد معه فى ذات الجوهر مع الآب ، حلول بلا حدود .
كلمة الله هو الحكمة عينها والفهم والقوة .. فحلول الروح القدس ليس حلولا زمنيا بل هو اتحاد أزلى بين الأقانيم الثلاثة . بالتجسد الإلهى قبل ربنا يسوع ظهور الروح القدس حالا عليه لكى يهبنا نحن فيه ، كأعضاء جسده ، عطية الروح القدس واهب الحكمة والفهم والمشورة والقوة والمعرفة ومخافة الرب .
ربما يسأل البعض : لماذا حل الروح القدس على السيد المسيح عند عماده ؟
نقول : الروح القدس هو الذى شكل ناسوت السيد المسيح منذ لحظة البشارة بالتجسد الإلهى . ولما كان لاهوت السيد لم يفارق ناسوته ، لم يكن الناسوت قط فى معزل عن الروح القدس . ولا فى حاجة إلى تجديد الروح له ، لأنه لم يسقط قط فى خطية ولا كان للإنسان القديم موضع فيه ، إنما طلب السيد أن يعتمد " لكى يكمل كل بر " ، أى يقدم لنا برا جديدا نحمله فينا خلال جسده المقدس . حلول الروح عليه فى الحقيقة كان لأجل الإنسانية التى تتقدس فيه ، فتقبل روحه القدوس .
( 3 ) أعمال المخلص :
" ولذته تكون فى مخافة الرب ، فلا يقضى بحسب نظر عينيه ولا يحكم بحسب سمع أذنيه ، بل يقضى بالعدل للمساكين ، ويحكم بالإنصاف لبائسى الأرض ، ويضرب الأرض بقضيب فمه ، ويميت المنافق بنفخة شفتيه " إش 11 : 3 ، 4 .
أ – يقدم لنا السيد المسيح صورة حية عن التعامل مع الآخرين ، وهى ألا تقوم على المظاهر الخارجية المجردة ، وألا تكون حواسنا هى الحكم خاصة الشم والنظر والسمع .
يقول " لذتهHis breath تكون فى مخافة الرب " إش 11 : 3 .
العبيد والأجراء يخافون سادتهم لئلا يقتلوهم أو يحرموهم الأجر أو المكافأة ، أما الأبناء فيخافون لئلا تجرح مشاعر آبائهم . هذا الخوف السامى الذى يهبه روح الرب لنا حتى نهاب الله ليس خشية العقوبة ولا الحرمان من المكافأة وإنما لأننا أبناء لا نريد أن نجرح مشاعر محبته .
ب – " لا يقضى بحسب نظر عينيه " إنما حسب الأعماق الداخلية بكونه فاحص القلوب والعارف بالأفكار والنيات . لقد وقف السيد المسيح حازما ضد القيادات الدينية التى تحكم بالمحاباة ، أى يأخذون بمظهر الناس وليس بعدل القضاء .
جـ - رفض الوشايات البشرية " لا يحكم بحسب سمع أذنيه " إش 11 : 3 .
د – اهتمامه بالمساكين والبائسين والمظلومين ( إش 11 : 4 ) .
هـ - " ويضرب الأرض بقضيب فمه " إش 11 : 4 . جاء رب المجد يضرب بكلمته ( قضيب فمه ) أو بسيف فمه ( رؤ 2 : 16 ؛ 19 : 6 ) ، سيف الكلمة ذى الحدين ( عب 4 : 3 ) كل من التصق بمحبة الأرضيات فصار أرضا . غايته أن يحطم فينا محبة الزمنيات ليرفع كل طاقاتنا نحو السمويات .
و – " ويكون البر منطقة متنيه والأمانة منطقة حقويه " إش 11 : 5
جاء ربنا يسوع المسيح إلى العالم ملكا روحيا لا يشارك العالم خاصة الأغنياء مظهرهم فى اللباس والمظاهر البراقة ، يتمنطق بالبر والأمانة علامة غناه وجماله بكونه القدوس واهب الحياة القدسية ، جاء كخادم يتمنطق لكى يغسل الأقدام البشرية حتى يظهر كل من يقبل إليه .
( 4 ) سمات العصر المسيانى :
بعد أن تحدث عن عمل السيد المسيح استطرد ليتحدث عن العصر المسيانى ، مقدما لنا صورة حية عنه أبرزها اتسام البشرية المؤمنة بالأتحاد معا فى جسد واحد ، يحملون طبيعة الحب والسلام ...
يصور هذا العصر قائلا :
" فيسكن الذئب مع الخروف " إش 11 : 6 ... لا يوجد تضاد أعظم من هذا ، يسكن سافك الدم مع الحمل الوديع العاجز عن الدفاع عن نفسه . يحملان طبيعة جديدة دستورها الحب والوفاق . صار الكل قطيعا واحدا يحمل الخليقة الجديدة التى فى المسيح يسوع .
" ويربض النمر مع الجدى " إش 11 : 6
" والعجل والشبل والمسمن معا ؛ وصبى صغير يسوقها " إش 11 : 7
قطيع عجيب غير متجانس ، تحت قيادة عجيبة . هذا الصبى الصغير يشير إلى القيادات الروحية الكنسية التى تستطيع بروح البساطة أن تخلق بروح الرب من المؤمنين القادمين من أمم وشعوب مختلفة والذين يحملون مواهب متعددة قطيعا وديعا يخضع بروح الإنجيل كما لصبى صغير .
" والبقرة والدبة ترعيان ، تربض أولادهما معا ، والأسد كالبقر يأكل تبنا " إش 11 : 7
البقرة تشير إلى اليهود لأنها من الحيوانات الطاهرة ، والدبة تشير إلى الأمم والشعوب الوثنية إذ هى مفترسة ( عنيفة ) وكأنه من سمات العصر المسيانى أن يجنمع أعضاء من أصل يهودى مع أصل أممى فى رعية واحدة تحت قيادة راعى واحد .
والأسد إذ فقد طبعه الوحشى وتغيرت طبيعته فصار كالحيوان المستأنس لا يطلب لحما بل تبنا .
" ويلعب الرضيع على سرب الصل ، ويمد الفطيم يده على جحر الأفعوان " إش 11 : 8 .
فى اختصار عمل السيد المسيح هو تغيير الطبيعة البشرية الشرسة خلال خدامه المتسمين بروح الوداعة ، فتحمل الكنيسة كلها – خداما ومخدومين – روح الحب والوحدة . بهذا لا يصيب الكنيسة – جبل قدس الرب – فساد " لأن الأرض تمتلىء من معرفة الرب ، كما تغطى المياة البحر " إش 11 : 9 .
( 5 ) سلام بين الشعوب :
أ – جاء السيد المسيح ليقيم ملكوته من كل الأمم والشعوب ، واهبا سلاما للمؤمنين الحقيقيين " ويكون فى ذلك اليوم أن أصل يسى القائم راية للشعوب إياه تطلب الأمم ويكون محله مجدا " إش 11 : 10 .
يقول " إياه تطلب الأمم " إنه مشتهى الشعوب ، بحث عنه اليونانيون ( يو 12 : 20 ، 21 ) ؛ وأرسل قائد المئة كرينليوس الأممى إلى بطرس لكى يسمع عن السيد المسيح ( أع 10 )
" ويكون محله مجدا " جاء فى الترجمة اليسوعية " يكون مثواه مجدا " ، لعله يقصد أن صليبه الذى كان عارا صار بقيامته مجدا ، إذ صار قبره الفارغ مقدسا للمؤمنين فيه يدركون حقيقة مسيحهم واهب الحياة والقيامة .
ب – ضم السيد المسيح إلى كنيسته البقية التى قبلت الخلاص ، وقد جاءت من أماكن متفرقة ( أع 2 ، يع 1 : 1 ، 1 بط 1 : 1 ) . لذلك يقول النبى : " ويكون فى ذلك اليوم أن السيد يعيد يده ثانية ليقتنى بقية شعبه التى بقيت من أشور ومن مصر ومن فتروس ( مصر العليا ) ومن كوش ومن عيلام ( مملكة فى شرق نهر دجلة وشمال شرقى الخليج الفارسى ) ومن شنعار ( سهل بابل ) ومن حماة ومن جزائر البحر " إش 11 : 11 .
تحققت هذه النبوة فى عيد العنصرة وأيضا خلال خدمة الرسل وعبر الأجيال ، وستتحقق مرة أخرى بصورة أوسع فى الأيام الأخيرة حينما يقبل اليهود الإيمان بالسيد المسيح كقول الرسول بولس ( رو 11 : 11 – 27 ) .
فى ذلك اليوم ينضم قابلو الإيمان القادمون من اليهود إلى الكنيسة التى سبق أن ضمت الأمم ويكون الكل أعضاء فى جسد واحد : " ويرفع راية للأمم ويجمع منفيى إسرائيل ويضم مشتتى يهوذا من أربعة أطراف الأرض " إش 11 : 12 .
ح – يقدم الأتحاد الذى تم بين اسرائيل ( إفرايم ) ويهوذا عند عودتهم من السبى بع أن استحكمت النزاعات بل والعداوة بينهما قرونا طويلة صورة للأتحاد بين الأمم واليهود ( إش 11 : 13 ) .
فى القديم كان الفلسطينيون وبنو المشرق وأدوم وعمون وموآب ومصر مقاومين للشعب لذا وهب الله شعبه إمكانية النصرة عليه ( إش 11 : 14 – 16 ) ، أما فى العهد الجديد فتكون الغلبة لا بانتصارات حربية وإنما بقبول هذه الأمم للإيمان الحى فتصير أدوات للبناء لا للمقاومة والهدم . الله الذى سبق فحول البحر لخلاص شعبه إذ أجازهم فيه بعد أن فتح لهم فيه طريقا للعبور هكذا يجفف كل مقاومة فى قلوب الأمم لينفتح طريق الملكوت المسيانى .
بمعنى آخر الذى أصعد شعبه من مصر مجتازا بهم وسط مياة البحر الأحمر ، هو الذى يعبر بهم من أشور بعد السبى ( إش 11 : 16 ) ، وهو الذى يعبر بالأمم إلى ملكوته بالرغم من كل العقبات والصعوبات التى تقف أمامهم .
+ + +