إشعياء – الإصحاح الثامن
مهير شـــــلال حاش بــــز
فى الإصحاح السابق تحدث الله مع آحاز الملك خلال إشعياء النبى الذى أعلن عن تدخل الله لإنقاذ أورشليم من آرام وإسرائيل ، وقد انجب النبى إبنه الأول شآرياشوب [ = البقية سترجع ] ليؤكد أن المسبيين من يهوذا يرجعون سريعا . الآن يتحدث الله مع الشعب فى ذات الأمر وتحت نفس الظروف ، وينجب النبى الإبن الثانى المدعو مهير شلال حاش بز ( = اسرع إلى السلب ، بادر إلى النهب ] ليؤكد أن اشور قادم سريعا ليسلب آرام وينهب إسرائيل منقذا أورشليم ، وفى نفس الوقت ينذر شعب يهوذا لإتكاله على أشور لا على الرب .
( 1 ) غلبة أشور على آرام وإسرائيل :
بأمر الهي أخذ إشعياء النبى لوحا كبيرا كتب عليه بحروف واضحة " مهير شلال حاش بز " وتعنى " أسرع إلى السلب ، بادر إلى النهب " . وضع إشعياء النبى اللوح فى مكان ظاهر فى الهيكل لكى يقرأه الكل ، وقد شهد كاهنان عليه هما : أوريا وزكريا ، أوريا كان رئيس كهنة فى أيام آحاز ومشيره الروحى والمشترك معه فى العبادة الوثنية . فقد أقام مذبحا على شبه الآراميين رآه حزقيا فى دمشق ، ليقدم الملك عليه ذبائح ( 2 مل 16 : 10 – 16 ) .
وقع الكاهنان على اللوح كشاهدين أن ما كتبه كان قبل حدوث الأمر .
يعلن إشعياء النبى أنه عندما يبلغ ابنه مهير شلال حاش بز حوالى سنة واحدة من عمره تتحقق النبوة ضد آرام وإسرائيل ، إذ يقول : " قبل أن يعرف الصبى أن يدعو يا أبى ويا أمى تحمل ثروة دمشق وغنيمة السامرة قدام ملك أشور " إش 8 : 4 . وقد تم ذلك بواسطة تغلث فلاسر ملك أشور ( 2 مل 15 : 29 ؛ 16 : 9 ؛ 1 أى 5 : 26 ) .
( 2 ) إنذار بنى يهـــــوذا :
إن كان الله يدافع عن خلاص أورشليم ، لكنه لا يدافع عن خطاياهم ولا يتستر عليها بل يطلب التوبة عنها والرجوع إليه .
يقول :
" لأن هذا الشعب رذل مياة شيلوه الجارية بسكوت وسر برصين وابن رمليا " إش 8 : 6
ماذا يعنى رذل الشعب مياة هذا النهر ؟ هذا يشير إلى استخفافهم بما وهبهم الله " مملكة يهوذا " متطلعين إلى ما هو لدى الغير " الأذرع البشرية " . لقد فقدوا إيمانهم بالله واهب النصرة وخشوا رصين وإبن رمليا الغريبين والمقاومين ليهوذا ملتجئين إلى من ينقذهم منهما .
هم رفضوا مجرى الماء الهادىء الذى يشير إلى الروح القدس طالبين المياة الغامرة القوية ، لذلك يؤدبهم الرب بأن :
" يصعد عليهم مياة النهر القوية والكثيرة ، ملك أشور وكل مجده " إش 8 : 7 .
لقد أنقذ تغلث فلاسر الأشورى يهوذا ، لكن سنحاريب الأشورى هجم بقوة على يهوذا وبلغ إلى العنق وحاصر الرأس أورشليم ، وكادت أن تسقط لولا تدخل الله : " يفيض ويعبر يبلغ العنق ويكون بسط جناحيه ( فرعى نهر الفرات ) ملء عرض بلادك يا عمانوئيل " إش 8 : 8 .
هكذا يسمح الله بالتأديب فتحل التجارب كالسيل الجارف لكى تبلغ إلى أعناقنا ، لكنه يحفظ الرأس ( إيماننا بالسيد المسيح رأسنا ) فوق سيول التجارب حتى لا يفنى إيماننا فنهلك ( لو 22 : 32 ) ، لأننا أرض عمانوئيل ، ملك الرب ، مهما حاول العدو أن يبسط جناحيه فى داخلنا .
( 3 ) بلاد عمانوئيل :
بينما يتحدث النبى عن الأمور الجارية فى عهده إذا بالرب يرفع أنظاره وأنظار المؤمنين نحو عمل المسيح الخلاصى. الله فى حبه يترفق بشعب يهوذا فيخلصهم من تحالف آرام وإسرائيل ضدهم ، وفى نفس الوقت إذ يخطىء الشعب بإلتجائه إلى أشور يصير أشور نفسه مقاوما لهم . هذا ما سمح به الله ، لكنه لم يسمح بإبادة يهوذا تماما ، لأن منه يخرج السيد المسيح ، الأسد الخارج من سبط يهوذا . يسمح بالغزو الأشورى يفيض حتى عنق يهوذا لكنه لا يصيب الرأس . إذ يتجسد كلمة الله من سبط يهوذا – من القديسة مريم – ويحل بيننا عمانوئيل الذى يقيم من قلوبنا أرضا أو مملكة له .. هذا ما دفع النبى إلى الإنتقال المفاجىء من مشكلة يهوذا فى عصر النبى أو بعده بقليل إلى الحديث عن القوى المتحالفة ضد عمانوئيل ، قائلا :
" هيجوا أيها الشعوب وانكسروا واصنعوا يا جميع أقاصى الأرض ، احتزموا وانكسروا . تشاوروا مشورة فتبطل .تكلموا كلمة فلا تقوم لأن الله معنا "إش 8 : 9 ، 10 .
لم يقف الأمر عند أشور الذى انهار حيث مات 185000 رجلا منهم فى المعركة وإنما يعلن النبى عن سقوط كل قوى العالم المقاومة للحق : أشور يليها بابل ثم فارس ومادى والدولة الرومانية ( إش 54 : 17 ، مى 4 : 13 ) .
وبالأكثر قصد قوات الظلمة الروحية المقاومة لمملكة المسيح . يعلن النبى أن هياج الأعداء وتحالفهم ومشوراتهم الشريرة ضد الكنيسة ، موجهة ضد عمانوئيل الحال فى وسطها ، لهذا تنهار قوات الظلمة وتتمتع الكنيسة الحقيقية بالغلبة .
هذا الصوت النبوى يصرخ ضد كل مقاومى المسيح ، معلنا ما قاله الرب نفسه لشاول :
" لماذا تضطهدنى ؟! .. صعب عليك أن ترفس مناخس " أع 9 : 4 ، 5 .
ليفعل العدو كل ما فى وسعه مقاوما المؤمنين ، فإنه إنما يحطم نفسه .
( 4 ) تشكيك وتعثر فى عمانوئيل :
يبدو أن البعض لم يصدق كلمات النبى وحسبوا ذلك فتنة سياسية أو خيانة وطنية ومقاومة للملك والسلطات .. كى لا يلجأ يهوذا إلى أشور فيهلك على أيدى الآراميين وإسرائيل . لقد أمسك الرب كما بيد إشعياء ليشدده ( إش 8 : 11 ) . يرى البعض أن إشعياء نفسه – كإنسان – مال أحيانا إلى رأى الملك ومشيريه والشعب ، لكن الله مصر أن يوضح له الطريق وإن كان مخالفا لرأى الجماعة ، لذا يقول : " لا تخافوا خوفه ولا ترهبوا ، قدسوا رب الجنود فهو خوفكم وهو رهبتكم " إش 8 : 12 ، 13 .
كل نفس أمينة فى خدمة الرب تقاوم ، لكن الرب نفسه يسندها لا لكى تعمل فحسب وإنما لكى تسند الآخرين وتشجعهم على العمل بروح الله القدوس ، متطلعين لا إلى المقاومة بل إلى مساندة رب الجنود لهم . ما أروع كلمات الرب تلك ..
ليس إشعياء وحده يقاوم ولا أيضا الأمناء من المؤمنين ، إنما يصير " عمانوئيل " نفسه مقاوما وحجر صدمة لكثيرين :
" ويكون مقدسا وحجر صدمة وصخرة عثرة لبتى إسرائيل وفخا وشركا لسكان أورشليم ، فيعثر بها كثيرون فينكسرون ويعلقون فيلقطون " إش 8 : 14 ، 15 .
إنه " مقدس " أو " حجرمقدس " بالنسبة للمؤمنين الذين يلجأون إليه ويتمسكون به لحمايتهم وخلاصهم ، هو " حجر الأساس " و " حجر الزاوية " يربط المؤمنين من اليهود مع المؤمنين من الأمم كحائطين يلتقيان معا فيه . وفى نفس الوقت هو حجر عثرة وصدمة لغير المؤمنين .
( 5 ) البقية المقدسة لله :
ما حدث مع السيد المسيح – أن رفضه أهل بيته من اليهود ولكن قبلته قلة مثل التلاميذ والرسل والمريمات وبيت لعازر – تم مع إشعياء بصورة باهتة بكونه رمزا للمسيح ، إذ صار له هو أيضا تلاميذ أمناء .
" صر الشهادة اختم الشريعة بتلاميذى " إش 8 : 16 . قبلت القلة المقدسة كلمات إشعياء النبى بكونها نبوات صادقة وكلمة إلهية ، حاسبين كلماته إعلانا عن فكر الله وإرادته المقدسة . هؤلاء دعاهم النبى تلاميذه وأيضا " الأولاد الذين أعطانيهم الرب " إش 8 : 18 .
هؤلاء يلزمهم أن يختموا أو يصروا على ما سمعوه ، لأن هذه النبوات يجب أن تبقى محفوظة حتى أزمنة العهد الجديد ، حيث تعلن للأطفال البسطاء ( مت 11 : 25 ) . ختمها أيضا يعنى الإلتزام بعدم الإضافة إليها أو الحذف منها .
ما ذكره إشعياء يبدو فى عصره أنه أمر مستحيل يجب مقاومته لهذا كان يلزمه هو وتلاميذه أن يتسلحوا بالصبر للرب ( إش 8 : 17 ) . عاشوا فى جو مقبض : الرب ساتر وجهه عن شعبه ( إش 8 : 17 ) . الأمر الذى أحزن قلب إشعياء وتلاميذه ؛ وفى نفس الوقت يتطلع إليهم الشعب كغرباء عنهم وشواذ مملوئين حماقة . فبقوله : " هأنذا والأولاد الذين أعطانيهم الرب آيات وعجائب فى إسرائيل من عند رب الجنود " إش 8 : 18 . يعنى أن إشعياء وتلاميذه أشبه بآيات وعجائب بالنسبة للشعب ، إذ يختلفون عن الكل فى إيمانهم وسلوكهم وأفكارهم نحو الرب .
( 6 ) الإلتجاء إلى العرافين :
شعر الشعب كأن الله قد حجب وجهه عنهم لهذا بدأوا يطالبون المسئولين – ربما من بينهم بعض تلاميذ إشعياء – أن يلجأوا إلى أصحاب التوابع والعرافين لطلب المشورة والتعرف على الأمور المستقبلة . يدعوهم النبى " المشقشقين والهامسين " إش 8 : 19 . لأنهم يتكلمون بصوت خافت كما من عالم آخر ليتقنوا تمثيل دورهم .
ماذا يعنى الإلتجاء إلى العرافة ؟
فقدان الإنسان كل ملجأ أو عون له ، ذلك كما حدث مع شاول الملك . شعر أنه فى عزلة عن الله ، وعن أنبيائه ، حتى الشعب تراجع عنه فلجأ إلى الموتى يسألهم خلال صاحبة العرافة .
فى اختصار سقط بنو يهوذا فى خطيتين خطيرتين هما : الإلتجاء إلى التحالف البشرى عوض الإتكال على الله ، والرجوع إلى العرافة والموتى عوض التمتع بكلمة الله الحية الواهبة استنارة وقوة .
هذه الصورة المؤلمة تعلن عن حقيقة هامة :
الحاجـة إلى مخلص الهي !