"الحق الحق أقول لكم إن من يسمع كلمتي ويؤمن بالذي أرسلني،
فله حياة أبدية،
ولا يأتي إلى دينونة،
بل قد انتقل من الموت إلى الحياة". [24]
تعاليمه، أي إنجيل خلاصه، هي بذار الحياة الأبدية الغالبة للموت أبديًا، متى زُرعت في القلب ترفع المؤمن فوق الموت الأبدي والدينونة في يوم الرب العظيم. لن يدخل مدينة الموت التي تحبس النفوس التي حرمت نفسها من مصدر الحياة. إنما تعبر النفس إلى إمبراطورية الحياة، ينال المؤمن مواطنة جديدة، عوض بلدة الموت يتمتع بالمواطنة السماوية ليحيا فيها أبديًا في مجدٍ سماويٍ وينطق بلغةٍ سماويةٍ.
إن كانت الحياة الأبدية لا ترتبط بالزمن، فإن عربون هذه العطية يُقدم في الحياة الحاضرة، لننمو فيها حتى تتمتع بكمالها في الحياة العتيدة.
* إنه لم يقل: "إن من يسمع كلمتي ويؤمن بي" (بدلًا من يؤمن بالذي أرسلني)... لأنه إن كان بعد صنع ربوات المعجزات لفترة طويلة تشككوا فيه عندما تكلم في فترة لاحقة بهذه الطريقة "إن كان أحد يحفظ كلمتي فلن يرى الموت إلى الأبد" (يو 8: 51)، وقالوا له: "قد مات إبراهيم والأنبياء، وأنت تقول إن كان أحد يحفظ كلمتي فلن يذوق الموت إلى الأبد؟" (يو 8: 52)، فلكي لا يصيروا هنا في غضب شديد، انظروا ماذا يقول؟ "إن من يسمع كلمتي، ويؤمن بالذي أرسلني، فله حياةأبدية" [24]. لهذا القول أثره غير القليل في قبول مقاله، عندما يتعلمون أن من يسمعونه يؤمنون أيضًا بالآب، فإنهم إذ يقبلون هذا بسهولة، يمكنهم أن يقبلوا بقية المقال بسهولة. حديثه بطريقة متواضعة ساهمت وقدمتهم إلى الأمور العلوية. فإنه بعد قوله "له حياة أبدية" أضاف: "ولا يأتي إلى دينونة، بل يكون قد انتقل من الموت إلى الحياة " [24].
* بهذين الأمرين جعل مقاله يُقبل بسهولة. أولًا لأن الآب هو الذي نؤمن به، وبعد ذلك الذي يؤمن يتمتع ببركاتٍ كثيرة. عدم الآتيان إلى دينونة يعني عدم العقوبة، إذ لا يتحدث هنا عن الموت، بل الموت الأبدي، وأيضًا عن الحياة بلا موت.
القديس يوحنا الذهبي الفم
* إذ يحب البشر أن يعيشوا على هذه الأرض وُعدت لهم الحياة، وإذ يخشون الموت جدًا وُعدوا بالحياة الأبدية.
ماذا تحبون؟ أن تعيشوا. ستنالون هذا.
ماذا تخشون؟ أن تموتوا. ستكون لكم حياة أبدية...
لنحب الحياة الأبدية، بهذا نعرف كيف يلزمنا أن نجاهد كثيرًا من أجل الحياة الأبدية
القديس أغسطينوس
* ليس سلطان الابن يزيد، بل معرفتنا عن هذا السلطان هي التي تزيد. وليس ما نتعلمه يضيف إلى كيانه شيئًا، وإنما يضيف إلى نفعنا حتى أننا بمعرفتنا للابن ننال حياة أبدية. هكذا في معرفتنا لابن الله ليست كرامة له، بل فائدتنا هي المعنية.
القديس أمبروسيوس
* إن الروح رغم اتحادها مع اللّه فهي لا تشعر بملء السعادة بطريقةٍ مطلقة. إنما كلما تمتعت بجماله زاد اشتياقها إليه.
إن كلمات العريس روح وحياة (يو 24:5)، وكل من التصق بالروح يصير روحًا. كل من التصق بالحياة ينتقل من الموت إلى الحياة كما قال الرب.
هكذا فالروح البكر تشتاق دائمًا للدنو من نبع الحياة الروحية. النبع هو فم العريس الذي تخرج منه كلمات الحياة الأبدية. إنه يملأ الفم الذي يقترب منه مثل داود النبي الذي اجتذب روحًا خلال فمه (مز 131:119).
لما كان لزامًا على الشخص الذي يشرب من النبع أن يضع فمه على فم النبع، وحيث أن الرب ذاته هو النبع كما يقول: "إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب" (يو 37:7)؛ لذلك فإن الأرواح العطشانة تشتهي إن تضع فمها على الفم الذي ينبع بالحياة ويقول: "ليقبلني بقبلات فمه" (نش 2:1).
من يهب الجميع الحياة، ويريد إن الجميع يخلصون، يشتهي أن يتمتع كل واحد بنصيب من هذه القبلات، لأنها تطهر من كل دنس.
القديس غريغوريوس النيسي
"الحق الحق أقول لكم إنه تأتي ساعة وهي الآن،
حين يسمع الأموات صوت ابن الله،
والسامعون يحيون". [25]
يميز البعض بين "كلمة" السيد المسيح [24] وصوته [25]، فكلمته هي إنجيل خلاصه حيث يجد المؤمن خلال الصليب الحياة الجديدة عوض الموت، ويتمتع بالحرية عوض العبودية، إذ يقول السيد "كلمتي روح وحياة" أما صوته فهو كائن في كلمته، حيث تستعذب العروس صوت عريسها، فيمتلئ قلبها بنشوة الحب وتتحسس حنانه الإلهي ولن تقبل عنه بديلًا: "خرافي تسمع صوتي" (يو 10: 27).
يشير الكتاب المقدس إلى ثلاثة أنواع من الموت: الموت الطبيعي أو الجسدي، والموت الروحي، والموت الأبدي. الأول يتحقق بانفصال النفس عن الجسد، والثاني بانفصال النفس عن الله، والثالث بانفصال النفس والجسد معًا عن الله في العالم الآخر. مقابل هذا توجد ثلاثة أنواع من الحياة: الحياة الطبيعية التي في هذا العالم، حيث يعمل الجسد مع النفس في وحدة، والحياة الروحية حيث تتمتع النفس بالوحدة مع الله الذي يقودها بروحه القدوس، والحياة الأبدية حيث يشترك الجسد مع النفس في المجد السماوي في حضن الآب.
بمجيء السيد المسيح حلت الساعة لتقوم النفس من موتها، أو انفصالها عن الله مصدر حياتها، فتتمتع بالحياة الجديدة هنا. هذه الحياة الجديدة تهيئ المؤمن لمجيء السيد المسيح الثاني حيث يقوم الأموات لتشترك الأجساد مع النفوس في الحياة الأبدية المجيدة. هذا يتحقق بأمر السيد المسيح، حيث يسمع الأموات صوته.
في مجيئه الأول يتكلم في النفس فيقيمها من الموت، وفي مجيئه الأخير يأمر فيقوم الأموات. ليتنا نسمع دومًا صوته الموجه شخصيًا إلينا: "لعازر هلم خارجًا". ففي كل عبادتنا، بل مع كل نسمة من نسمات حياتنا يلزمنا أن نميل بآذاننا إليه لنسمع صوته العذب المحيي لنفوسنا.
* تتحقق القيامة الآن، ويعبر الناس من الموت إلى الحياة، من الموت بعدم الإيمان إلى الحياة بالإيمان، من الموت بالبطلان إلى الحياة بالحق، من الموت بالشر إلى الحياة بالبرّ. لذلك توجد قيامة للأموات.
* الذين يؤمنون ويطيعون يحيون. قبل أن يؤمنوا ويطيعوا كانوا راقدين أمواتا. كانوا يسيرون وهم أموات. ماذا ينتفعون بسيرهم وهم أموات؟ ومع ذلك إن مات أحدهم الموت الجسدي، فيجرون يهيئون القبر ويكفنوه ويحملوه ويدفنوه؛ الموتى يدفنون الميت. وقد قيل عنهم: "دع الموتى يدفنون موتاهم" (مت 8: 22).
مثل هؤلاء الموتى أقيموا بكلمة الله ليعيشوا في الإيمان. الذين كانوا موتى في عدم إيمان أقيموا بالكلمة. عن هذه الساعة يقول الرب: "ستأتي الساعة وقد جاءت الآن". بكلمته يقيم هؤلاء الذين كانوا موتى في عدم الإيمان. عنهم يقول الرسول: "قم أيها النائم، وارتفع عن الموتى، فالمسيح يعطيه النور" (أف 5: 14). هذه هي قيامة القلوب. هذه هي قيامة الإنسان الداخلي، هذه هي قيامة النفس.
لكن ليست هذه هي القيامة الوحيدة، إذ تبقى قيامة الجسد أيضًا. من قام ثانية في النفس سيقوم أيضًا في الجسد لتطويبه في الجسد. وأما من لم يقم أولًا في النفس فسيقوم في الجسد للعنته... إذ نتطلع إلى الرب أنه ختم علينا بهذه القيامة للنفوس التي يجب علينا جميعًا أن نسرع إليها، وأن نجاهد لنعيش فيها، وأن نثابر حتى النهاية. بقي له أن يختم علينا بقيامة الأجساد أيضًا التي ستكون في نهاية العالم. الآن فلتسمع كيف ختم بهذه أيضًا.
عندما قال: "الحق الحق أقول لكم أنه تأتي ساعة وهي الآن حين يسمع الأموات"، أي غير المؤمنين، "صوت ابن الله"، أي الإنجيل، "والسامعون"، أي المطيعون "يحيون"[25]، أي يتبررون، ولا يعودوا بعد غير مؤمنين. عندما أقول أنه قال هذا بقدر ما يرانا أننا محتاجون إلى التعلم عن قيامة الجسد أيضًا، ولا نُترك هكذا لذلك أكمل قوله: "لأنه كما أن الآب له حياة في ذاته كذلك أعطى الابن أيضًا أن تكون له حياة في ذاته". هذه تشير إلى قيامة النفوس، إلى إحياء النفوس. عندئذ أضاف: "وأعطاه سلطانًا أن يدين أيضًا لأنه ابن الإنسان"[27].
* من أي مصدر يحيون؟ من الحياة. من أية حياة؟ من المسيح... يقول: "أنا هو الطريق والحق والحياة" (يو 14: 6).
أتريد أن تسير؟ أنا هو الطريق.
أتود ألا تُخدع؟ "أنا هو الحق".
أتريد ألا تموت؟ "أنا هو الحياة".
هذا ما يقوله مخلصك لك... البشر الذين ماتوا يقومون؛ إنهم يعبرون إلى الحياة، إذ يسمعون صوت ابن اللَّه يحيون. فيه يحيون، إذ يثابرون في الإيمان به. لأن الابن له الحياة؛ حيث له الحياة حتى أن الذين يؤمنون به يحيون.
القديس أغسطينوس
* أعرفت هنا سيادة المسيح وسلطانه المطلق غير المنطوق به؟ فكما سيكون في القيامة هكذا يقول "الآن". لذلك عندما نسمع صوته يأمرنا أن نقوم، إذ يقول الرسول: "عندما يأمر الله يقوم الأموات" (راجع 1 تس 4: 16).
القديس يوحنا الذهبي الفم