في عام 1921، كانت الحياة صعبة على شابة إينوبياك بسيطة تُدعى آدا بلاكجاك. وُلدت في ألاسكا، وعانت منذ طفولتها من فقر مدقع، لم تنل أي تعليم يذكر، وتزوجت صغيرة ثم هجرها زوجها وتركها مع ابنها الوحيد "بِنّي" المريض بالسل. لم تكن تملك مالًا لعلاجه أو حتى قوت يومها، لكنها كانت تملك شيئًا واحدًا لا ينكسر: حبها لابنها وإصرارها على إنقاذه مهما كان الثمن.
حين سمعَت عن بعثة استكشافية متجهة إلى جزيرة نائية في المحيط المتجمد الشمالي تُدعى جزيرة رانجل، عرضوا عليها وظيفة بسيطة: أن تكون طباخة وخيّاطة للرحلة. لم تكن تبحث عن مغامرة ولا مجد، بل فقط الراتب الذي وُعدت به لتتمكن من علاج صغيرها. ومع ذلك، كانت تلك الخطوة بداية لرحلة قا*سية ستغيّر حياتها إلى الأبد.
انطلقت البعثة في سبتمبر 1921 بقيادة أربعة شباب أميركيين، وبرفقتهم آدا وقطة صغيرة اسمها فيك. بدا المشروع واعدًا في البداية، إذ خططوا لرفع العلم البريطاني على الجزيرة وإثبات إمكانية الاست*يطان فيها. لكن ما إن حطت أقدامهم على شواطئ رانجل الجليدية، حتى تكشّفت الحقيقة: الجزيرة قاسية، المؤن شحيحة، والبرد كالموت يحيط بهم من كل صوب.
مع مرور الشهور، بدأ الجوع يتسلل إلى أجسادهم، والمر*ض يُنهك قواهم. حاول الرجال بشجاعة الصمود، لكنهم لم يكونوا مستعدين لمثل هذا الجحيم الأبيض. في النهاية، قرر ثلاثة منهم مغادرة الجزيرة في رحلة يائسة عبر الجليد طلبًا للمساعدة… لكنهم لم يعودوا قط. بقي رجل واحد مع آدا، لكنه أصيب بالمرض، وسرعان ما خبا صوته بين العواصف، تاركًا آدا وحدها تمامًا في أقصى بقاع الأرض، بلا مؤن ولا خبرة حقيقية.
لحظة الصدمة كانت قاسية: امرأة شابة، ضعيفة البنية، وحيدة مع قطة، في جزيرة جليدية معزولة.
كان من السهل أن تستسلم وتنتظر موتًا بطيئًا. لكن شيئًا في داخلها اشتعل، دافع غريزي أقوى من الخوف والجوع: أن تبقى حيّة، لأنها لا تزال أماً… ولأن ابنها ينتظرها.
بدأت آدا تتعلم كل شيء من الصفر:
نصبت الفخاخ لتصيد الأرانب والطيور.
واجهت الدببة القطبية وحدها، تحمل بندقية أثقل من جسدها.
سلخت الجلود بيديها العاريتين، وحيكت منها ملابس تقيها العواصف.
بنت مأوى بسيطًا ضد الرياح القطبية.
وحتى عندما مرضت، أجبرت نفسها على النهوض كل يوم كي لا تنهار.
كانت تكتب يومياتها، ليس لتروي قصة بطولة، بل لتبقي على عقلها متماسكًا وسط الوحدة. كل صفحة من تلك اليوميات كانت شهادة على معركة صامتة بين امرأة ضعيفة وظروف أقوى من أي جيش. القطة "فيك" صارت رفيقتها الوحيدة، كانت تحدثها كأنها إنسان، علّها تنسى الصمت الرهيب الذي يطبق على الجزيرة.
عامان كاملان مرّا. عامان من الجوع، والعواصف، والخوف، والعزلة المم*يتة. عامان كانت فيهما آدا بلاكجاك تُصا*رع الطبيعة كل يوم، وتنتصر بصبرها وإرادتها.
وفي عام 1923، حين وصلت سفينة الإنقاذ أخيرًا، لم يجدوا امرأة محط*مة كما كانوا يتوقعون، بل وجدوا آدا جديدة: هادئة، صلبة، تنظر إليهم بعيون تحمل قصة لا يمكن تخيّلها. لم تعتبر نفسها بطلة، ولم تسع للشهرة، لكنها عادت إلى وطنها ومعها درس خالد: أن قوة الإنسان الحقيقية لا تُقاس بالعضلات ولا بالأسل*حة، بل بما يحمله قلبه من حب.
لقد نجت آدا من أقسى بقعة على وجه الأرض بدافع وحيد: حب أم لابنها. ومنذ ذلك الحين، صار اسمها محفورًا في التاريخ كرمزٍ للصمود والصلابة والإيمان بالحياة، امرأة واجهت المستحيل وانتصرَت عليه بصمت، وعادت لتحتضن ابنها من جديد.