[Mary Naeem]

مُعْجِزَةُ الخُبْزِ وَالسَّمَكِ الأُولَى


جَرَتْ وَقَائِعُ المُعْجِزَةِ فِي مِنْطَقَةِ الطَّابْغَةِ، عَلَى الشَّاطِئِ الشِّمَالِيِّ الغَرْبِيِّ مِنْ بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّة، حَيْثُ يَسُوعُ قَدْ مَضَى إِلَى مَكَانٍ قَفْرٍ بَعْدَ سَمَاعِهِ بِمَقْتَلِ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَان، طَلَبًا لِلسَّكِينَةِ وَالهُدُوء، وَذَلِكَ بَعْدَ رُجُوعِ تَلَامِيذِهِ مِنْ أَعْمَالِهِمُ التَّبْشِيرِيَّة. وَمَا إِنْ نَزَلَ إِلَى المَكَانِ حَتَّى رَأَى جَمْعًا كَثِيرًا، فَأَخَذَتْهُ الشَّفَقَةُ عَلَيْهِم، أَيْ تَحَرَّكَتْ أَحْشَاؤُهُ دَلَالَةً عَلَى حُبِّهِ. وَهَذِهِ الشَّفَقَةُ تَعْكِسُ قَلْبَ يَسُوعَ ذَاتَهُ فِي صُورَةٍ فَائِقَةٍ مِنَ الرِّقَّةِ وَالحَنَان، فَشَفَى مَرْضَاهُمْ.


عِنْدَ حُلُولِ وَقْتِ طَعَامِ المَسَاءِ، اقْتَرَحَ تَلَامِيذُهُ أَنْ يَصْرِفَ يَسُوعُ الجُمُوعَ لِيَجِدُوا الطَّعَامَ فِي القُرَى المُجَاوِرَة. لَكِنَّهُ، بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ، كَلَّفَ التَّلَامِيذَ أَنْ يُطْعِمُوهُمْ بِمَا لَدَيْهِم، بِخَمْسَةِ أَرْغِفَةٍ وَسَمَكَتَيْن. جَاءَ جَوَابُ يَسُوعَ لَهُمْ كَتَحَدٍّ مُسْتَحِيلٍ، كَمَا يَظْهَرُ مِنْ رَدِّ فِعْلِ الرُّسُلِ: "لا يَزِيدُ ما عِندَنا عَلى خَمسَةِ أَرْغِفَةٍ وسَمَكَتَيْن، إِلّا إِذا مَضَيْنا نَحنُ فَاشْتَرَيْنا لِجَميعِ هَذا الشَّعبِ طَعامًا" (لوقا 9: 13). قَدْ بَدَا مَا قُدِّمَ لِيَسُوعَ مِنْ خَمْسَةِ أَرْغِفَةٍ وَسَمَكَتَيْنَ غَيْرَ كَافٍ، وَلَكِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ أَصْبَحَ أَكْثَرَ مِنْ كَافٍ، إِذْ يَسْتَطِيعُ السَّيِّدُ المَسِيحُ أَنْ يَسْتَخْدِمَ وَيُضَاعِفَ مَا نُقَدِّمُهُ لَهُ، سَوَاءٌ كَانَ رَغِيفًا، أَوْ سَمَكَةً، أَوْ وَزْنَةً، أَوْ وَقْتًا، أَوْ كَنْزًا؛ فَعِنْدَمَا نُعْطِي لِلْمَسِيحِ، تَتَضَاعَفُ مَوَارِدُنَا.



"ثُمَّ أَمَرَ يَسُوعُ الجُمُوعَ بِالقُعُودِ عَلَى العُشْب، وَأَخَذَ الأَرْغِفَةَ الخَمْسَةَ وَالسَّمَكَتَيْن، وَرَفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ، وَبَارَكَ وَكَسَرَ الأَرْغِفَة، وَنَاوَلَهَا تَلَامِيذَه، وَالتَّلَامِيذُ نَاوَلُوهَا الجُمُوع" (متى 14: 19). يُرَكِّزُ مَتَّى الإِنْجِيلِيُّ الانْتِبَاهَ عَلَى الأَرْغِفَةِ، فَهِيَ وَحْدَهَا تُكْسَرُ وَتُوَزَّعُ وَتُجْمَع. وَفِعْلُ "كَسَرَ" يُشِيرُ إِلَى عَمَلِيَّةٍ وَاحِدَة، وَالفِعْلُ "نَاوَلَ" يَدُلُّ عَلَى الاسْتِمْرَار، ذَلِكَ أَنَّ الطَّعَامَ يَتَكَاثَرُ عِنْدَ تَوْزِيعِهِ. وَنُلَاحِظُ أَنَّ مَتَّى الإِنْجِيلِيَّ نَسِيَ السَّمَكَاتِ فِي النِّهَايَةِ، وَرَكَّزَ انْتِبَاهَنَا عَلَى الخُبْزِ الَّذِي كُسِرَ وَوُزِّعَ وَجُمِع. إِنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ تَكَادُ أَنْ تَكُونَ صُورَةً لِرِوَايَةِ العَشَاءِ السِّرِّيِّ (متى 26: 26).



"فَأَكَلُوا كُلُّهُمْ حَتَّى شَبِعُوا، وَرَفَعُوا مَا فَضَلَ مِنَ الكِسَر: اِثْنَتَيْ عَشْرَةَ قُفَّةً مُمتَلِئَةً" (لوقا 9: 17). نَحْنُ هُنَا فِي إِطَارٍ يَهُودِيٍّ لِتَكْثِيرِ الأَرْغِفَة. أَوَّلًا، فِي أَفْعَالِ "أَكَلَ" وَ"شَبِعَ"، تَلْمِيحٌ إِلَى المَنِّ الَّذِي أُعْطِيَ لِلشَّعْبِ العِبْرَانِيِّ فِي البَرِّيَّةِ (خروج 16: 4). ثُمَّ، رَقْمُ 12 هُوَ رَقْمُ الرُّسُلِ، وَلِكُلِّ رَسُولٍ 10 أَفْرَاد. فَكَانَ عَدَدُ جَمَاعَةِ المَسِيحِيَّةِ الأُولَى فِي أُورَشَلِيمَ 120 (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 1: 15). وَيُشِيرُ الرَّقْمُ 12 أَيْضًا إِلَى الكَمَال. وَمَا بَقِيَ مِنْ كِسَرٍ هُوَ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ اليَهُودِيِّ الَّذِي مَثَّلَهُ هَؤُلَاءِ الخَمْسَةُ آلَافٍ. فِي حِينِ أَنَّ مُعْجِزَةَ الخُبْزِ وَالسَّمَكِ الثَّانِيَة (متى 15: 37) تَتَكَلَّمُ عَنِ الرَّقْمِ 7، أَيْ فِي إِطَارٍ وَثَنِيّ. فَالرَّقْمُ 70 هُوَ عَدَدُ الأُمَمِ الوَثَنِيَّةِ، لِكُلِّ خَادِمٍ عَشْرُ أُمَم.



وَنَجِدُ أَيْضًا القُفَّة: "وَرَفَعُوا مَا فَضَلَ مِنَ الكِسَر: اِثْنَتَيْ عَشْرَةَ قُفَّةً مُمتَلِئَةً" (لوقا 9: 17). "القُفَّةُ" تُسْتَعْمَلُ لَدَى اليَهُودِ المُتَجَوِّلِينَ لِحَمْلِ الطَّعَامِ فِيهَا حَتَّى يَتَجَنَّبُوا أَكْلَ طَعَامِ الأُمَم. أَمَّا السِّلَالُ، فَهِيَ خَاصَّةٌ بِاليُونَانِيِّينَ الوَثَنِيِّينَ.

"وَكَانُوا نَحْوَ خَمْسَةِ آلَافِ رَجُلٍ" (لوقا 9: 14). العَدَدُ 5000 هُوَ عَلاَمَةُ الجَمَاعَةِ الكَامِلَةِ فِي نِهَايَةِ الأَزْمِنَة. هُوَ 5 ضَرْب 1000. فَعَدَدُ 5 هُوَ عَدَدٌ مُقَدَّسٌ فِي العَالَمِ اليَهُودِيِّ، وَعَدَدُ 1000 هُوَ عَدَدٌ كَبِيرٌ جِدًّا، وَهُوَ مُكَعَّبُ عَشَرَة. وَمَتَّى الإِنْجِيلِيُّ لَا يَحْسِبُ النِّسَاءَ وَالأَوْلَادَ فِي شَعَائِرِ العِبَادَةِ، بَلِ الرِّجَالَ وَحْدَهُمْ، فَجَاءَ فِي نَصِّهِ:
"وَكَانَ الآكِلُونَ خَمْسَةَ آلَافِ رَجُلٍ، مَا عَدَا النِّسَاءَ وَالأَوْلَاد" (متى 14: 21). وَكُلُّ هَذِهِ التَّفَاصِيلِ تَضَعُنَا فِي إِطَارٍ أَوْ بِيئَةٍ يَهُودِيَّة.



تُعلِّمُنا مُعجِزَةُ تَكْثِيرِ الأَرْغِفَةِ وَالسَّمَكِ أَنَّ المَسِيحَ، رَبَّ الحَيَاةِ، لَا يُقَابِلُ احْتِيَاجَ الإِنْسَانِ بِالرَّفْضِ، وَلَا بِالإِزَاحَةِ، بَلْ بِالانْفِتَاحِ وَالعَطَاءِ. فَإِذَا مَا قَدَّمْنَا لَهُ مَا عِنْدَنَا، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا وَمُتَوَاضِعًا، فَهُوَ يَأْخُذُهُ، وَيُبَارِكُهُ، وَيُضَاعِفُهُ، وَيُرْجِعُهُ إِلَيْنَا وَإِلَى جَمَاعَتِنَا فَيْضًا وَفَضْلًا.



إنَّ مَفَاتِيحَ هَذِهِ المُعْجِزَةِ هِيَ فِي القَلْبِ المُشْفِقِ، وَالإِيمَانِ العَامِلِ، وَالطَّاعَةِ المُوَكَّلَةِ. فَمِنْ شَفَقَةِ يَسُوعَ عَلَى الجُمُوعِ نَتَعَلَّمُ أَنْ نَنْظُرَ إِلَى مَنْ حَوْلَنَا بِنَظْرَةِ رَحْمَةٍ لَا حِسَابَ فِيهَا، وَمِنْ إِيمَانِهِ بِعَطَايَا اللهِ نَتَعَلَّمُ أَنْ نُؤْمِنَ أَنَّ القَلِيلَ يَكْفِي إِذَا سُلِّمَ لِلهِ بِثِقَةٍ. وَمِنْ طَاعَةِ التَّلَامِيذِ، نَتَعَلَّمُ أَنَّ المَسِيحَ يُجْرِي عَجَائِبَهُ بِأَيْدِينَا، نَحْنُ أَدَوَاتُهُ وَقَنَوَاتُ نِعْمَتِهِ.



رَعَوِيًّا، تَضَعُنَا هَذِهِ المُعْجِزَةُ أَمَامَ مَسْؤُولِيَّةٍ كَنَسِيَّةٍ: أَنْ نَكُونَ كَنِيسَةً تُشْبِعُ الجِيَاعَ، لَا فَقَطْ بِالخُبْزِ الزَّائِلِ، بَلْ بِكَلِمَةِ الحَيَاةِ وَبِحُضُورِ المَسِيحِ فِي الإِفْخَارِسْتِيَّا. نَحْنُ، كَرُعَاةٍ وَكَنِيسَةٍ وَجَمَاعَةٍ، مَدْعُوُّونَ لِكَيْ نَسِيرَ فِي دَرْبِ العَطَاءِ، وَنُصْغِيَ إِلَى آلاَمِ الجُمُوعِ، وَنُقَدِّمَ مَا فِي أَيْدِينَا لِيُبَارِكَهُ الرَّبُّ، فَيُصْبِحَ فِيضَ حَيَاةٍ وَنِعْمَةٍ وَشِبَعٍ. وَكَذَلِكَ، تُذَكِّرُنَا القُفَفُ المُمتَلِئَةُ بِأَنَّ كُلَّ عَطِيَّةٍ تُقَدَّمُ بِحُبٍّ لَا تَضِيعُ، بَلْ تُرْفَعُ وَتُجْمَعُ، وَتُصْبِحُ ذَخِيرَةً لِلرِّحْلَةِ، وَرَصِيدًا لِلرَّجَاءِ فِي زَمَنِ الجُوعِ الرُّوحِيِّ. فَلْنُسَلِّمْ لِلمَسِيحِ أَرْغِفَتَنَا القَلِيلَةَ، وَوَقْتَنَا القَصِيرَ، وَمَوَاهِبَنَا المُتَوَاضِعَةَ، وَهُوَ يَصْنَعُ مِنْهَا مَائِدَةَ شُكْرٍ وَخَيْرٍ وَخَلَاصٍ لِلكَثِيرِينَ