
غني جاهل
يطلب أحدهم أن يناصره في حصوله على نصيبه من الميراث:
"فقال له رجل من الجمع: يا معلم مُر أخي أن يقاسمني الميراث" (لو13:12), كان من المعتاد أن يطرح الناس المسائل الشرعية المعقدة على كبار معلمي الشريعة، خبراء تفسيرها. بهذه الصفة يلجأ هذا الرجل إلى يسوع الذي يرفض بلباقة تلبية طلبه: "يا رجل، مَن أقامني عليكم قاضياً أو قساماً؟" (لو14:12)، يبدو من رد يسوع هذا أنه لا يريد أن يتدخل في المسألة، ولكنه في الواقع يحلها بطريقته الخاصة. لا ينزلق إلى قشور الموضوع ولكنه يدخل فوراً إلى عمق المسألة وجذورها.
يتنازع أخوان حول الميراث. يريد أحدهما أن يظل الميراث برمته بدون تقسيم، وهذا ما يجب كشفه: "تبصروا واحذروا كل طمع، لأن حياة المرء، وإن اغتنى، لا تأتيه من أمواله" (لو15:12). يوضّح المثل بطريقة واضحة ومباشرة تعليم يسوع. يعمل إنسان طوال عمره لكي يقيم ثروة. وعندما يعتقد أنه وصل إلى الحد الكافي وحصل على "أرزاق وافرة يكفي مؤونة سنين كثيرة" (19:12أ) يقرّر أن يستريح وأن يستمتع بهذه الخيرات "أقول لنفسي:
استريحي وكلي واشربي وتنعمي..." (19:12ب). ولكن هيهات، إذ يجلجل صوت: "يا غبي، في هذه الليلة تسترد نفسك منك" (20:12أ).
إن المسألة لا تخص لا الخيرات والثروات ولا التمتع بها، إنما تخص اعتبار أن جوهر الحياة ومعناها يقومان ف اكتناز الخيرات أي اعتبارها المركز والأمان. يرفض يسوع ويشجب بشدة فائض الخيرات الذي يصاحبه الجشع والطمع والصلف والخيلاء والمجد الباطل. إنه يتكلم عن حياة بلا صفات. يهدد الخطر ليس فقط حياة العالم الآتي بل أيضاً الحياة الآن: الحياة هي ملء الحياة وليس مجرد الوجود.
يصف المثل الرجل بأنه غني (لو16:12) وغبي (لو 20:12). لماذا يصفه المثل بالجهل؟ الكلمة اليونانية التي تشير إلى هذا هي أفرون أي بلا رأس كما نقول في عباراتنا الدارجة: الأحمق، اللاهي، اللامبالي. يختلف مفهوم الحكمة في الإنجيل عنه لدى العامة. يرى الجميع أن الحرص على جمع الخيرات لتامين المستقبل حكمة. أمّا يسوع فيرى في ذلك حماقة وجهلاً، لأن ذلك يعني أن يبني المرء حياته على خيرات زائلة.
إن عبارة "فلمن يكون ما أعددته؟" (لو20:12ب) هي سؤال ينضح بآن واحد بالحكمة والسخرية اللاذعة. يعبّر هذا السؤال الساخر عن غباء مَن يتكل على جمع الخيرات والثروات. لقد عبّر كتاب الجامعة عن هذا الأمر: "إنسان رزقه الله غنىً وأموالاً ومجداً فلم يكن لنفسه عوز من كل ما يشتهي. ولكن الله لم يدعه يأكل من ذلك، إنما يأكله غريب. هذا باطل وداء خبيث" (جا2:6) ويقول نفس الكتاب في مقطع آخر: "ثم التفت فرأيت باطلاً آخر تحت الشمس: واحد ليس له ثانٍ، لا ابن ولا أخ ولا نهاية لكل تعبه ولا تشبع عيناه من الغنى: لمن أتعب و أحرم نفسي الهناء؟هذا أيضاً باطل وأمر سيء" (جا7:4-8).