16 - 04 - 2024, 01:50 PM
|
رقم المشاركة : ( 157799 )
|
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
ومن قاموس الكتاب المقدس نجد الآتي:
في العهد الجديد ذكر أربعة بهذا الاسم وكان ذلك أثناء الحكم الروماني على فلسطين.
هيرودس الكبير (في قصة الميلاد) وهيرودس أرخيلاوس وهيرودس أنتيباس( في محاكمات المسيح – يوحنا المعمدان) وهيرودس فيلبس الثاني و هيرودس اغريباس الأول( قتل يعقوب – سجن بطرس – أكله الدود) و هيرودس اغريباس الثاني.
هيرودس الكبير: وهو الابن الثاني لأنتيباتر، الأدومي الأصل. وكانت أمه أدومية أيضًا لذلك لم يكن يهوديًا من ناحية الجنس مع أن الادوميين كانوا قد رضخوا للمذهب اليهودي بالقوة منذ سنة 125 ق.م. وكان قيصر قد عَيَّنَ انتيباتر Antipater the Idumaean حاكمًا على اليهودية سنة 47 ق.م. وقسَّم انتيباتر فلسطين بين أبنائه الخمسة وكان نصيب هيرودس في الجليل. وبعد أربع سنوات قُتِلَ انتيبار. فجاء ماركوس انطونيوس إلى فلسطين وعيَّن الابنين الأكبرين للعاهل المقتول على فلسطين. ثم قَتَلَ أكبرهما نفسه بعد ما أسره الفوتيون الذين هاجموا فلسطين. وهكذا خلا العرش لهيرودس. وفي سنة 37 ق. م. دخل القدس فاتحًا بمعونة الرومان. وقد تزوَّج هيرودس عشر نساء وكان له أبناء كثيرون. واشتد التنافس فيما بينهم على وراثة العرش وكان القصر مسرح عشرات المؤامرات والفتن. واشتركت زوجات الملك وأقاربهن في تلك المؤامرات والفتن. هذا إلى جانب المؤامرات التي حاكها هيرودس ضد أعدائه من يهود البلاط، وضد خصومه من حكام الرومان. فقد كان الملك المذكور قاسي القلب عديم الشفقة يسعى وراء مصلحته ولا يتراجع مهما كانت الخسائر. ولم يكن يهتم للحقيقة ولا ينتبه إلى صراخ المظلومين واشتهر بكثرة الحيل. وقتل عدة زوجات وأبناء وأقارب خوفًا من مؤامراتهم. غير أنه بنى أماكن كثيرة في فلسطين، مدنًا وشوارع وأبنية، لتخليد اسمه وانفق على ذلك أموالًا طائلة وأشهرها مدينة قيصرية التي بناها على شاطئ البحر المتوسط وسماها كذلك تكريمًا لاوغسطس قيصر ثم رمّم مدينة السامرة بعد أن تهدمت وسماها سباسطيا، أي مدينة اوغسطس وحصن القدس وزينها بالملاعب والقصور. وبدأ في ترميم الهيكل في القدس، وفي تزينيه.
ولد يسوع في أواخر أيامه، بعد أن كانت نقمة الشعب عليه، وخوفه من منافسة أعدائه، قد بلغت أشدها. ولذلك أسرع الأمر بقتل جميع الأطفال في بيت لحم، حتى لا ينجو ابن داود، ولا يملك على اليهود ويتربع على عرشه (متى 2). ولكن الوقت لم يمهله كثيرًا. إذ مرض مرضًا خطيرًا، وسافر إلى شرقي الأردن للاستشفاء بحمامتها، ثم عاد إلى أريحا أسوأ مما كان عليه قبلًا. وهناك مات، وهو في السبعين من عمره، بعد ملك أربعًا وثلاثين سنة، وكأنه لم يشأ أن يودع الحياة على عكس ما كان في حياته. فأمر بقتل وجهاء القدس ساعة موته، حتى يعم الحزن المدينة ولا يجد أحد السكان فراغًا ليبتهج بموت ملكه المكروه.
هيرودس أرْخيلاَوُس ابن الملك هيرودس الكبير: هو الكبير بين ولدين ولدتهما ملثاس زوجة هيرودس الكبير السامرية. وقد تعلَّم في رومية هو وأخوه أنتيباس وأخواهما الآخران من أبيهما وهما هيرودس وفيلبس. وبعد موت هيرودس الكبير سنة 4ق.م. أخذ أرخيلاوس الجزء الكبر من مملكته بما في ذلك اليهودية والسامرة. وقد أخمد أرخيلاوس ثورة لليهود اشتعلت في أورشليم في وقت عيد الفصح عقب ارتقائه العرش. وقد قتل حينئذ ثلاثة آلاف رجل. وبالرغم من المعارضة التي لاقاها من قادة اليهود ومن أخيه الصغير أنتيباس فإنه تمكن من أن ينال موافقة رومية على توليه العرش كحاكم لا كملك. وقد خلعه أغسطس قيصر من ملكه بسبب سوء حكمه، في سنة 6 ميلادية، ونفاه إلى فينّ في بلاد الغال. وبعد ذلك تولى الحكم في اليهودية والسامرة ولاة رومانيون من أمثال بيلاطس البنطي وغيره.
هيرودس أنتيباس | هيرودس الأول ابن هيرودس الكبير: هو الابن الثاني لهيرودس الكبير من زوجته الرابعة السامرية ملثاكي Malthace لذلك فإن نصفه أدومي ونصفه سامري. يدعوه يوسيفوس المؤرخ باسمي هيرودوس وأنتيباس. أما العهد الجديد فيدعوه فقط باسم هيرودوس. تثقف في روما، ثم عاد وعين حاكمًا على الجليل بينما نال أخوه وراثة العرش فتنافس وإياه طويلًا. وفي هذه الأثناء حارب بعض أعدائه، وبنى عدة أماكن، أشهرها مدينة طبريا. ولما جلس على العرش اتسعت مطالبه، حتى حملته امرأته على الذهاب إلى روما ليطلب أن يمنح لقب ملك. وهناك غضب عليه الإمبراطور كاليجولا Caligula ونفاه إلى ليون، ثم إلى إسبانيا وأنباء هيرودس أنتيباس ليست قليلة في الكتاب المقدس. فهو الذي تزوج بامرأة أخيه، هيروديا، ونال توبيخ يوحنا المعمدان حتى قطع رأسه وقدمه هدية لسالومة ابنة هيروديا وكان هيرودس واحدًا من القضاة الذين مثل يسوع أمامهم، وأخذ يجادل يسوع ويسأله. وذكر في الكتاب أن هيرودس هذا ظن أن يوحنا قد قام من الأموات وكان زمن ملكه من 4 ق.م. إلى 39 م.
فيلبُّس رئيس الربع | هيرودس فيلبس الثاني: فيلبس رئيس الربع على إيطورية وأحد ابنيّ هيرودس الكبير من زوجته كليوبترا الأورشليمية. وفي السنة الخامسة عشرة من ملك طيباريوس قيصر كان فيلبس رئيس ربع على مقاطعتي إيطورية وتراخونيتس، وكان ذلك عندما بدأ يوحنا المعمدان عمله.. وسع مدينة بانياس عند نبع الأردن ودعاها قيصرية. ثم دُعِيَت فيما بعد قيصرية فيلبس تمييزًا لها من قيصرية الواقعة في البحر. وحسّن مدينة بيت صيدا ورفع شأنها وجعلها في مستوى مدينة بالفعل، ودعاها جولياس تكريمًا لجوليا ابنة أوغسطس وزوجة طيباريوس. وكان فيلبس ذا أخلاق رفيعة، وساس شعبه بالعدل واللين (4 ق.م. – 13 م).
هيرودس أغريباس الأول | أغريباس الكبير: هو ابن ارسطوبولوس، وحفيد هيرودس الكبير وامرأته مريمنة. وقد عاش طويلًا في روما. ثم رجع وعين حاكمًا على بعض فلسطين سنة 39 م.، وأضيفت إلى منطقة نفوذه أراضي واسعة لرضى الإمبراطور كاليجولا Caligula. ومن أخباره في الكتاب أنه ذبح يعقوب أخا يوحنا بالسيف وسجن بطرس. ويروي الكتاب نهايته، فقد أكله الدود بعد أن ادعى الألوهية. وكان موته في سنة 44 م. وكان عمره عند ذاك 54 سنة.
هيرودس أغريباس الثاني | أغريباس الصغير: هو ابن هيرودس أغريباس الأول. وكان صغيرًا عند موت أبيه فرفض الإمبراطور تعينه في مركز أبيه. ووضع اليهودية تحت الوصاية. وبقي أغريباس يقيم في روما ويقوم بمعاملات اليهود هناك ويتوسط بينهم وبين الإمبراطور ويحل مشاكلهم، إلى أن نال أخيرًا لقب ملك، وضمت إليه بعض مناطق لبنان الداخلية واستمر ملكه في الاتساع إلى أن حكم نيرون فأضاف إليه مناطق كثيرة في فلسطين والأردن وأمامه خطب بولس وعرض قضيته. واستمر يملك حتى سقوط القدس فانتقل إلى روما، وهناك عاش مع أخته برنيكي التي كان يعاشرها كزوجة إلى أن مات سنة 100م.
عائـلـة مـريـم
جـاء فـى تقاليد الكنيسة (مثل كتاب “السنكسار” وهو عن سير القديسين والـمستخدم فـى الكنيسة القبطية والـمأخوذ جزء كبيـر منـه من بعض الكتابات مثل كتابي “إنجيل ميلاد مريـم” و “إنجيل يعقوب”والذى يرجع الى حوالي عام 150 ميلادية) قد جاء ببعض الأخبار عن عائلـة مريـم. ولقد جاء ايضاً ذكراً عن والداي مريـم فى كتابات بعض الأبـاء الأوليـن أمثال القديس افرام السرياني (+373)و القديس يوحنا الدمشقي (+746) والقديس غريغوريوس النارغي (+950) وغيرهـم. من تلك الـمراجع نجد ان والد العذراء هو القديس يواقيم ووالدتها هى القديسة حـِنـّة.
والداي مريم
أنّ والدي العذراء مريم هما يواقيم وحنة، وأن أبا حنة هو الكاهن متّان من سبط لاوي ومن آل هارون، وأنَّ والدة حنة هي مريم من سبط يهوذا. يواقيم (سمي أيضا بوناخير وصادوق) وهذا كان من نسل داود من سبط يهوذا الذي يصعد في النسب إلى سليمان بن داود الذي وعده الله أن نسله يملك علي بني إسرائيل إلى الأبد.
وأن يوافيم وحنة كانا يقيمان في قرية بالقرب من الناصرة من أعمال الجليل وكانا ميسورين ويوزعان أرباحهما على الهيكل والفقراء، وما تبقى لهما يسدان به حاجتهما. وكانا عاقرين وبارّين أمام اللـه وسائرين بحسب نواميسه الإلهية، وكان العقر، لدى اليهود يعتبر لعنة من اللـه، وعاراً أمام الناس، ذلك أنَّ كلَّ فتاة يهودية كانت تطمح وتصلي أن يولد منها المسيح ماسيا المنتظر، فكان يواكيم وحنة يواظبان على الصلاة والطلب إلى اللـه ليزيل العار عن دارهما، وهكذا بلغا سن الشيخوخة دون أن تستجاب طلبتهما. ويُحكى أن يواكيم أتى مرّة إلى هيكل الرب ليقدم تقدمة فرفض الكاهن التقدمة لأنَّ مقدمها (عاقر) فعاد يواقيم إلى داره مغتمّاً، كسير القلب، ذليلاً، وأكثر من البكاء أمام اللـه، تشاركه بذلك زوجه حنة، فاستجاب اللـه طلبتهما ورزقهما ابنة سمياها مريم.
القديس يواقيم ويعني الإسم بـ “يهوه يُعد” كان إبن يوثام(Jotham)، ابن لعازار(Lazarus)، إبن أليهود(Eldad) والذى يرجع إلـى سلالة سليمان إبن داود الـملك. أمـا القديسة حنـة ويعنى إسم حَنـّة Anne or Hanna هو “نِعـمة” وهـى إبنـة متـّان(Matthan)، إبن لاوي (Levi)، إبـن ملكـى(Melki) والذى يرجع إلـى سلالـة هارون الكاهـن وكان إسم أمهـا ماريام (Mariam) والتى كانت من سبط يهوذا. وينقل لنـا التقليد أن مـتّان كان لـه ثلاث بنات، الأولـى إسمهـا مريم والتى أصبحت أم سالومـى القابلـة، ثـم الثانيـة كان إسمهـا صوفيـّا أم القديسة أليصابات زوجـة زكريـا الكاهـن وأم القديس يوحنـا الـمعمـدان، أمـا الثالثـة فكانت القديسة حَنـّة. وبهذا تكون القديسة مريـم العذراء هـى إبنـة خالـة لكل من سالومى ويوحنا الـمعمدان. وتحتفل الكنيسة القبطيـة بعيد القديسة حـَنـّة فـى اليوم الحادى عشر من شهر هاتور من كل عام. ووالداي العذراء حسب رواية “كتاب يعقوب” كانا ميسوري الحال وكانا عاقرين وقد تقدما كثيرا فى ايامهما.
ولقد جاء فـى بعض الكتابات القديمة ان والداي العذراء مريم كانـا يقيـمان فى صفّورة وهى قريـة صغيـرة تبعد 3 اميال من بيت لحم ولا تزال حتى اليوم يوجد هناك عين تسمى “عين مريم” وإلـى جانبهـا أنقاض كنيسة تسمى كنيسة القديسة حـِنـّة ويرجح انهـا كانت تقوم حيث كان منزلهـا. وهناك من يقول أن والداي العذراء كانـا يقـيمان فى الناصرة أو بيت لحم أو فـى أورشليم. وأصحاب القول بأن والداي مريم كانا يقـيمان فـى الناصرة بالجليل يرجعون ذلك لبعض الأراء القديمة وبما جاء فى انجيل القديس لوقا عند بشارة العذراء “مدينة فى الجليل تُسمّى ناصرة إلى عذراء”(لوقا26:1-27). أمـا من يقولون أنهـما كانـا فى بيت لحم فيؤيدون قولهـم بذهاب يوسف ومريم عند الإكتتاب لبيت لحم اليهوديـة لأن يوسف خطيب مريـم “كان من بيت داود وعشيرتـه”(لوقا4:2). وهناك من يقولون أن يواقيم وحنّة كانـا يقيمان بأورشليم بالقرب من بركة حسدا عند باب الغنم (يوحنا2:5).
ومهـما كانت تلك الأراء فالـمرجّح ان حنـِّة ويواقيـم كانـا يعيشان بالقرب من أورشليم وهـما كانـا من عشيرة داود من سِبط يهوذا. وتحتفل الكنيسة القبطية بعيد القديس يواقيم فى اليوم السابع عشر من شهر برمودة.
ولادة مـريـم
تذكر لنـا تقاليد الكنيسة أن والدا مريم يواقيم وحنّـة كانـا متقدمـان فـى السن ولـم يرزقـا بولد، وعدم الإنجـاب كان يعتبـر عاراً عند اليهود. وكان القديسان يواقيم وحِنـّة يعيشان فـى خوف الله وممارسة الفضيلة وكانت لهـما صِلة نسب مع القديسة أليصابات أم يوحنـا الـمعمدان وزوجـة زكريـا الكاهـن “وهـا إنّ أليصابات نسيبـتكِ”(لوقا26:2). وأمـا عـمل يواقيم فقد قيل انـه رعايـة الغنـم أو كان يـملك بعض البيوت فـى أورشليم وصفّورة والناصرة، أو يملك قطعة من الأرض تساعدهم على العيش فـى بساطـة. وكـما سبق أن ذكرنـا أن والداي مريم كانـا متقدمـان فـى العُـمر ولـم يكن لهـما نسل. وبحسب روايـة “كتاب يعقوب” ان رئيس الكهنة قد رفض ذبيحة اراد يواقيم ان يقدمها في احد الأعياد في الهيكل في أورشليم لأنه لم يرزق بطفل ولكن تذكر يواقيم قصة ابراهيم أبو الآباء وكيف في شيخوخته وهبه الله اسحق وذهب يواقيم للصحراء وبنى خيمته وصام وصلي لمدة اربعين يوما وجاء أن ملاكاً قد جاء مبشراً يواقيم وهو في الصحراء وايضا ظهر لحنة وبشرها بأن صلاتها قد استجيبت وانها ستلد من سيسمع كل العالم بذلك المولود، ولقد قيل أيضاً أنـه كان الـملاك جبرائييـل وهو الذى بشرهـما بـميلاد إبنـة يدعونهـا مريـم ومنهـا يكون خلاص آدم ونسلـه. وعندما سمعت حنـة بتلك البشارة نذرت أن تكرّس الـمولود لله. ولـم يكن هذا غريبـا وعجيبـاً فلقد صنع الرب من قبـل هذا ويذخر الكتاب الـمقدس بأمثلـة عديدة:
كانت سارة إمرأة إبراهيم عاقراً ولـم تلد “وأما ساراي امرأة ابرام فلم تلد لـه”(تكوين1:16)،
ولكن الرب أعطاهـا اسحق “وافتقد الرب سَارَة كـما قال وفعل الرب لسارَة كما وعد. فحملت سارة وولدت لإبراهيم ابنـاً فى شيخوختـه فى الوقت الذى ذكره الله. فسمّى إبراهيم ابنـه الـمولود له الذى ولدتـه له سارَة إسحق”(تكوين1:21-3).
كانت رِفقة زوجـة اسحق عاقراً وصلّى إسحق للرب وحبِلت رفقـة بيعقوب”ثم دعـا إسحق إلـى الرب لأجل إمرأتـه إذ كانت عاقراً فاستجابه الرب وحملت رِفقة امرأتـه”(تكوين21:25).
وكانت راحيل زوجـة يعقوب عاقراً وصرخت ليعقوب وصلّى من أجلهـا فولدت يوسف”وذكر الله راحيل وسمع دعاءها وفتح رحمها فحملت وولدت إبنـاً وقالت قد كشف الله عنّي العار وسمّتـه يوسف”(تكوين22:30-23).
وكان منوح وزوجتـه عاقران وولدا شمشون الجبـّار (قضاة2:13-3 و 24:13).
وكانت حَنّة زوجـة ألقانـة عاقراً وسكبت نفسهـا أمام الرب ورزقت بصـموئيل نبي الله (1ملوك20:1).
وكانت الـمرأة الشونـمية عاقراً ولقد صنعت جميلاً لأليشع النبي وتم لها ما أرادت وولدت إبناً وقيل انـه يونان النبي(4ملوك14:4).
وأليصابات كانت عاقراً وولدت يوحنـا الـمعمدان “وها إنّ أليصابات نسيبتك قد حبلت هى أيضاً بإبن فى شيخوختهـا وهذا هو الشهر السادس لتلك المدعوة عاقراً”(لوقا26:2 و 57:2-60).
وكما جاء في “انجيل يغقوب” انه بعد سبعة أشهر من تلك البشارة لوالداي مريم ولدت فتاة وسميت “مريم” Miriam” هذا الاسم العبري ظهر مرة واحدة فقط في العهد القديم فهو اسم مريم اخت هارون.
متى وُلدت مريـم العذراء؟
نحن لا نعلم التاريخ بدقة فتحديد اليوم أو التاريخ بالدقـة غير متفق فيـه بين العلـماء، ولكن كل الأشياء تشير انها ولدت ما بين عام 732 و736 من تأسيس مدينة روما والذي يعنى ما بين عام 25 و21 ما قبل الميلاد، ولقد حدد بعض العلـماء السنة 22 قبل الـميلاد. وبعض علماء الكتاب المقدس يعتقدون انها ربما ولدت في يوم عيد Rosh Hashanah في بدء السنة اليهودية. ولكن قد عينت الكنيسة الكاثوليكية يوم 8 أو 9 سبتـمبر للإحتفال بـهذه الذِكرى، التى حددها البابا ليون الثالث عشر عام 1885 نظرا لعدم وجود مصادر تاريخية موثوق بها لمعرفة تاريخ ميلادها. أمـا فـى الكنيسة القبطيـة فلقد تم تحديد أول بشنس (9 مايو) للإحتفال بذكرى ميلاد السيدة مريم العذراء.
أيـن وُلدت مـريـم؟
لا يوجد تأكيد مطلق عن فيما يتعلق بمكان ولادة السيدة العذراء، هناك أربعة تقاليد مختلفة يجب مراعاتها ينقلهـا التقليد عن مكان ميلاد مريم العذراء:
فـمن يعتقد أنهـا وُلدت فـى أورشليم وأن هناك كنيسة قد بُنيت فى القرن الخامس الـميلادي بمعرفة الإمبراطورةُEudoxia فى الـمكان الذى قيل أن بيت حِنّة أم العذراء كان قائـماً فيـه بالقرب من بركـة بيت حسدا.
وهناك من يعتقد انهـا وُلدت فى بيت لحم حيث ذهبت للإكتتاب بناء على بعض الكتابات والتى تشمل أعمال القديس جيروم، والباباوات مثال بولس الثاني (1471)، يوليوس الثاني (1507)، ليو العاشر (1519)، بولس الثالث (1535)، بيوس الرابع (1565)، سيكستوس الخامس (1586)، وإنوسنت الثاني عشر فيما يتعلق ببيت لوريتو المقدس فيقولون إن السيدة العذراء ولدت وتعلمت، واستقبلها الملاك في ذلك البيت المقدس. لكن هؤلاء الباباوات لا يرغبون في البت في مسألة تاريخية. إنهم يعبرون فقط عن رأي عصرهم..
وهناك من يعتقد أنـه في صفّورة حيث يوجد كنيستـين لذكرى ميلاد العذراء، والبلدة على بعد حوالي ثلاثة أميال شمال بيت لحم، وهي من أقدم المدن في اسرائيل وتم تجديدها عام 37 قبل الميلاد واعتبرت عاصمة لمنطقة الجليل وكانت مقر إقامة هيرودس أنتيباس حتى وقت متأخر من حياة يسوع . يمكن الاستدلال على العصور القديمة لهذا الرأي من حقيقة أنه في عهد قسطنطين أقيمت كنيسة في سيفوريس لإحياء ذكرى إقامة يواكيم وحنة في ذلك المكان و يتحدث القديس أبيفانيوس عن هذا المكان المقدس ولكن هذا يظهر فقط أن السيدة العذراء المباركة ربما عاشت في سيفوريس لفترة من الوقت مع والديها، دون إجبارنا على الاعتقاد بأنها ولدت هناك.
في الناصرة حيث كانت تعيش مع خطيبها يوسف. هذا الرأي من أنهـا قد وُلدت فـى الناصرة فيستند على ما جاء بالعهد الجديد حيث بشّرهـاالـملاك جبرائييل بعد ذلك “إلـى مدينة فـى الجليل تسمّى ناصرة إلـى عذراء مخطوبـة لرجل اسمه يوسف من بيت داود واسم العذراء مريم”(لوقا26:1-27).
ولكن والرأي الراجح أنهـا قد ولدت فـى أورشليـم، وهذا حسب ما جاء في “انجيل يغقوب” داخل اسوار اورشليم القديمة بالقرب من “باب الغنم” والمعروف ب “Lions’Gate والقريبة من بركة حسدا. وهذا ما أكدّه كلا من القديس صفرونيوس بطريرك القدس (560-638م)، والقديس يوحنا الدمشقي(750م) وغيرهم وعلى أدلة الاكتشافات الأخيرة في Probatica.
لم يتم الاحتفال بعيد ميلاد السيدة العذراء في روما حتى نهاية القرن السابع؛ لكن عظتين موجودتين بين كتابات القديس أندرو الكريتي (المتوفى 680) تفترضان وجود هذا العيد. ولـم يُعرف بـميلاد مريم إبنـة هذه العائلة الغيـر مشهورة إلاّ عدد قليل من الأقربـاء.
سلسلة نسب مريم
تنتمي العذراء القديسة مريم إلى سبط يهوذا وهي من نسل داود، وتتصل بصلة القرابة مع اليصابات أم يوحنا المعمدان التي تدعى في الإنجيل المقدس نسيبة العذراء (لو 1: 36) ويقال أنها كانت خالتها. كما أنَّ سالومي زوجة زبدي وأم يعقوب ويوحنا هي الأخرى تمّت بصلة القرابة إلى العذراء مريم (مت 27: 56 و 19: 25) وقد وردت في الإنجيل المقدس سلسلة نسب السيد المسيح من ناحية يوسف خطيب العذراء (مت 1: 16 و لو 3: 23 و أع 2: 20 و رو 1: 3) والعذراء ويوسف هما من سبط واحد وهذا ما سجله الوحي عنها: فإننا نعلم أنها جاءت هي ويوسف من سبط يهوذا من نسل داود (قارن لوقا 1: 32، 69؛ رومية 1: 3؛ 2 تيمو 2: 8؛ عبرانيين 7: 14). فالعذارء مريم إذاً هي سليلة الكهنة والملوك والأنبياء، وهي ابنة داود، ولذلك قال لها الملاك لما بشّرها بالحبل الإلهي: «ستحبلين وتلدين ابناً… يكون عظيماً وابن العلي يدعى… ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد…» (لو 1: 31 ـ 32). يعود نسب القديسة العذراء مريم إلى زربابل من عائلة وبيت داود، ونجد أن البشير لوقا يؤكد هذه الحقيقية، أن العذراء مريم ووليدها يَعُودَان لسبط يهوذا، وبالتحديد بيت داود. حين كلمها الملاك قائلاً “فقال لها الملاك لا تخافي يا مريم لأنك قد وجدت نعمة عند الله وها أنت ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع، هذا يكون عظيماً وابن العلي يدعى ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية” (لوقا 1: 30 – 33). وهذا ما هو واضح في قول زكريا الكاهن “مبارك الرب إله إسرائيل لأنه افتقد وصنع فداء لشعبه، وأقام لنا قرن خلاص في بيت داود فتاهُ” (لوقا 1: 68-69). وجاء عن نسب السيدة مريم العذراء فى السنكسار (سير القديسين) يوم 16 أمشير الآتى: تزوج متثات من سبط لاوي من بيت هارون من صوفية وأنجب ثلاث بنات حسب الترتيب الآتى:
– مريم (أم سالومي) إهتمت بالعذراء مريم أثناء ميلاد المسيح
– صوفية (أم أليصابات) والدة يوحنا المعمدان
– حنة (أم مريم العذراء) أم يسوع المسيح. إذن تكون: سالومي وأليصابات ومريم العذراء بنات خالات. وهذا هو النسب الأوقع لأن الملاك قال لمريم هوذا أليصابات نسيبتك، فهى بنت خالتها.
احداث طفولة مريم لا تروي الأناجيل أو أية كتابات مسيحية رسمية عن طفولة مريم العذراء أو حياتها قبل البشارة، لكن هناك عدد من الكتب الأبوكريفية التي لم تعتمد في الكنيسة ككتب رسمية لعدم صحة نسبتها إلى التلاميذ الاثني عشر أو شخصيات مقربة منهم، أو لكتابتها في تاريخ متأخر عن سائر المؤلفات التي تدعى بالقانونية أو حتى بسبب أسلوب كتابتها الشعبي، تتناول حياة مريم المبكرة بشكل مفصل، هناك إنجيل خاص يعرف باسم إنجيل مريم، وآخر يدعى إنجيل يعقوب وطفولة المخلص إلى جانب إنجيل رحلة العائلة المقدسة، وإنجيل حياة مريم وموت يوسف، وهي الأناجيل الأكثر ذكرًا للعذراء وحياتها المبكرة.
ورغم عدم الاعتراف بها كأناجيل قانونية غير أن هذه الأناجيل كانت ذات انتشار بين الجمهور المسيحي في القرن الثاني والقرن الثالث وأثرت بشكل أو بآخر على العقائد المسيحية، فرغم عدم ذكر الأناجيل الرسمية عن طفولة العذراء شيء يحوي تقويم الأعياد والمناسبات الدينية يوم 21 نوفمبر سنويًا عيدًا خاصًا بتقدمة العذراء للهيكل، ويذكر هذا الحدث في إنجيل بشارة يعقوب ويحدد عمر العذراء آنذاك بثلاث سنوات. وقد اعتُمدَ الحدث رسميًا نظرًا لاعتماده من قبل آباء الكنيسة في كتاباتهم ومؤلفاتهم واتفاقهم عليه.
هناك مصدر لآخر لأحداث طفولة مريم وردت في رؤى الطزباوية كاثرين إمريش Catherine Emmerich التى ولدت في 8 سبتمبر 1774 وتوفيت عام 1824 – تحكي عن سلسلة من الأحداث في حياة مريم المبكرة مشابهة لتلك الموجودة في Protoevangelium of James. ، وبينما لا تجد الكنيسة شيئا يتعارض مع الإيمان بها، فإنها لا تؤيدها رسميا.
إن إنجيل لوقا يذكر: عذراءً من الناصرة(لوقا26:1) الواقعة في الجليل دون أن يشير إلى القدس أو هيكل سليمان، ما دفع البعض لاعتبار الحادث رمزًا أو تقليد واكتفوا بأن تغدق صفات الحمد والثناء على مريم خلال تلك الفترة من عمرها: كانت مريم فتاة من فتيات الناصرة، تقوم بالأعمال المنوطة بهنّ، وتتردد إلى المجمع وتسمع التعليم الديني، وتصلي، إن الله قد اختار مريم وزينها بأجمل المحاسن، مؤهلًا إياها لتلد ابنه في الجسد وتحضنه وترعاه وتخدمه كما يليق بالقدوس. فالراجح إذن حسب النظرية الرسمية في المسيحية أن العذراء وإن قدمها ذويها إلى الهيكل حسب رواية الكتب الأبوكريفية والتقليد الكنسي، إلا أنها قد عادت إلى منزل ذويها في الناصرة حيث قضت هناك عدة سنوات قبل خطبتها ليوسف النجار، خصوصًا أن النساء لم يكن المسموح لهنّ بالخدمة أو الإقامة في الهيكل لدى تجاوزهنّ سن الإثني عشر عامًا وهو عمر البلوغ وفق الشريعة اليهودية في حين يذكر إنجيل بشارة يعقوب المنحول أن يوسف من كفل العذراء إثر قرعة قام بها زكريا بعد تجاوز مريم الثانية عشر من عمرها.
طبقاً للناموس اليهودي فإن “كل بِكر كل فاتح رَحم من بني إسرائيل” فهو مُقدس للرب (خروج2:13) ويجب تقديـمه لهيكل الرب. وحسب روايـة انجيل يعقوب الغير قانونـي (Protoevangelium of James) فلقد جاء أن يواقيم وحِنّـة والدا القديسة مريـم قد قررا الوفاء بنذرهـما بتقديم طفلتهـما للرب فقدمـا إبنتهـما مريـم للهيكل عندمـا كان عمرهـا ثلاث سنوات ( وفى بعض الأقوال عندما كان عمرهـا سنتان وسبعة شهور وسبعة أيام). وتقدمـة مريم للهيكل لم يكن أمراً مفروضاً فى الشريعة، فالشريعة ما كانت تلزم إلاّ بتقدمـة الصبي بكر عائلتـه ولكن والدا مريم قدماها للرب وكرساها لخدمة الهيكل منذ ميلادهـا. والرأى العام عند مؤرخي حياة العذراء مريم هو انها مكثت سني صباها حتى سن الرابعة عشرعاما حيث سكنت مع رفيقاتها الـمكرّسات مثلها احدى الأبنية الـمتصلة بهيكل سليمان، وهى مثل دار للفتيات يربين فيه وفيها يعشن فى نظام مشترك مشابه لنظام الرهبنات الحالي.
الهيـكل:
عندما ولدت مريم كان هناك توسعات واصلاحات هامة تتم في هيكل اورشليم بناء على أوامر هيرودس الملك والهيكل تم بناؤه على جبل الموريا حيث كان سيقدم ابراهيم ابنه اسحق ذبيحة لله وذلك كان في عام 966-956 ما قبل الميلاد ولقد بنى الملك سليمان بيتا للرب ووضع فيه تابوت العهد في قدس الأقداس ولكن هذا الهيكل تم تدميره من الملك نبوخذنصر عام 587 قبل الميلاد واعيد بناؤه عدة مرات في عام 520 قبل الميلاد وتم عمل عدة توسعات حتى عام 10قبل الميلاد.
ان هيكل اللـه فى القديم كان يقوم بخدمته لفيف من الرجال من حيث العمل الكهنوتي (رئيس كهنة-كهنة-لاويين)، وكل منهم له عمله وله مكان محدد فى الهيكل. والـمرأة دخلت الى الهيكل وذلك لتؤدى عملين هامين:
أ-خدمـة بحسب إمكانياتهـا كإمرأة
ب- عبادة وتكريس
ولقد ذُكر فى الكتاب الـمقدس عن وجود بعض النساء الـمكرّسات للخدمة فى الهيكل:
هناك متجندات تجنّدن عند باب خيمة الإجتماع (خروج8:38)
بنات يغنين فى بيت الرب بالصنوج والرباب (1ايام5:25-6)
عزرا الكاهن زاد عددهن الى 200 (عزرا60:2)، وفى ايام نحميا أصبحن 245(نحميا7).
جوقـة التراتيل (2مكابيين 18:3)
بعض النسوة الـمكرسات للصلاة والتأمل مثل حنة بنت فنوئيل المذكورة فى انجيل لوقا.
والهيكل الذى دخلته مريم العذراء هو هيكل سليمان وقد أنفقت فى بنائه أموال كثيرة وأقيم على جبل الـمورّيـا وفى مكان تقول التقاليد ان ابراهيم قد أقام فيه ذبيحة. وكان فى شكل نصف دائرة وكان يظهر من بعيد كأنـه جبل من ذهب ورخام، وكان عبارة عن سلسلة من أعمدة وأروقـة متداخلة وفى داخلها محراب قدس الأقداس حيث وضع تابوت العهد. وبنى أول هيكل حوالى 1000 سنة قبل الـميلاد وبقى 500 سنة فقط ثم أحرقـه وهدمـه نبوخذنصر القائد الأشوري. وأيام كورش ملك الفرس أعاد اليهود من السبي وسمح ببناء الـمعبد، فبناه زرُبابل بن شالتئيل وذلك قبل ميلاد السيد الـمسيح ب516 سنة، ولكن لم يكن فى جمال الهيكل الأول. والهيكل كان ينقسم الى باب الأمم وفيه يستطيع كل الناس أن يدخلوه (الصيارفة-الباعة-الوثنيين…)، ثم باب اليهود وتحت هذا الباب كان صندوق الصدقات، وفى هذه الـمنطقة كان يوجد الفريسيون والكتبة والعلماء. ثم يأتـى دار الكهنة حيث مائدة الخبز والشمعدان ذو السبعة أغصان وفى الوسط مذبح البخور ثم قدس الأقداس والذى جعله الـملك سليمان فى القديم مقر تابوت العهد، ولكن فى البناء الثانـى لم يكن موجود هذا التابوت حيث قد اختفى تماما منذ عهد نبوخذنصر ولم يستطع أحد أن يعلم ماذا حلّ بـه، وهذا التابوت كان موضوع فيه لوحي الوصايا التى اعطاها الله لـموسى وعصا هارون التى أورقت تأييداً لكهنوت هارون، وكأس ذهبية تحوي شيئ من الـمنْ ثم نسخة من التوراة. وقد تم تجديد الهيكل أيام هيرودس الأول، ولـما دخلت مريم العذراء كانت أعمال التجديد مستمرة وحتى أيام الـمسيح.
فى الهيكل كان يوجد مكان مخصص للفتيات الـمكرّسات (يوسيفوس الـمؤرخ اليهودى كتب ان هيرودس بنى بنايـة واسعة فيها 80 جناحا لبنات اسرائيل الـمخصصات للخدمـة). وكانت الفتيات تتعلم فى الهيكل الصلاة والـمزامير والأناشيد مع التأمل وتدرس التوراة وتاريخ بنى اسرائيل والشرائع والعادات والنبؤات التى تعلن عن مجيئ الـمسيّا. ثم يأتـى بعد ذلك الأعمال اليدويـة العادية من تطريز لثياب الكهنة وإعداد العطور والغزل والنسج (خروج2. وكانت مريم العذراء تفعل كل ذلك فى صمت ومناجاة مع اللـه فى تواضع وتصنع الخير وتحب الفضيلة وفى طاعـة كاملة، وبالطبع كانت ترى كل يوم الذبائح التى تقدم فى الفجر وعند غروب الشمس. وكان كل اليهود يحضرون هذه التقدمة، وكانت تحضر فى أيام الأعياد مثل أعياد الفصح والـمظال، وفى الـمساء كانت تجتمع الفتيات للصلاة. ويذكر بعض الكتّاب عن معجزات كانت تقوم بهـا مريم العذراء، وأنـه كانت تأتيهـا مأكولات مخصوصة من السماء، أو انهـا كانت تحادث الـملائكة، وكل هذه الروايات لا يمكن قبولهـا أو رفضهـا لأنـه لم يذكرلنا شيئاً مؤكداً. لكن ما يجب أن نعلـمه أن مريم كانت متعبدة للـه التى نذرت لـه كل نفسها وقلبها وجسدها، وإستمر عـمل النعـمة فيهـا طيلة حياتهـا حتى ان ملاكاً من السماء حياهـا فيما بعد قائلاً:”يا ممتلئـة نعـمة”.
ولقد ذكر من القديس جرمانوس بطريرك القسطنطينية (+730) والقديس يوحنا الدمشقي (+763)، والقديس جريجوري النيسي فـى كتابتهـم قصة دخول مريـم العذراء للهيكل. وتحتفل الكنيسة بعيد تقديـم مريـم العذراء للهيكل والذى بدأ منذ القرن الخامس الـميلادي فـى الشرق ثـم إمتد إلـى سائر العالـم الكاثوليكي فـى عهد البابـا سكتيوس الخامس فى عام 1585م. ولقد قيل أن الامبراطور جوستنيان قد بنى كنيسة لتمجيد ذكرى هذا الحدث وتم تدشين تلك الكنيسة فى اورشليم فى 21 نوفمبر من عام 543 ولكن تم تدميرها بعد ذلك. ويقع عادة عيد دخول مريم العذراء الى الهيكل فى يوم 21 نوفمبر فى طقس الكنيسة الكاثوليكية الغربية أما فى طقس الكنيسة القبطية فيحتفل بـه فى يوم 3 كيهك (ويوافق 12ديسمبر).
تذكار تقديم القديسة العذراء مريم إلى الهيكل بأورشليم سن 3سنوات (3 كــيهك)
في مثل هذا اليوم تذكار دخول السيدة البتول والدة الإله القديسة مريم إلى الهيكل، وهي ابنة ثلاث سنين، لأنها كانت نذرا لله، وذلك انه لما كانت أمها حنة بغير نسل، وكانت لذلك مبعدة من النساء في الهيكل، فكانت حزينة جدا هي والشيخ الكريم يواقيم زوجها، فنذرت لله نذرا، وصلت إليه بحرارة وانسحاق قلب قائلة “إذا أعطيتني ثمرة فإني أقدمها نذرا لهيكلك المقدس”، فاستجاب الرب لها ورزقها هذا القديسة الطاهرة فأسمتها مريم، ولما رزقت بها ربتها ثلاث سنوات ثم مضت بها إلى الهيكل مع العذارى، حيث أقامت اثنتي عشرة سنة، كانت تقتات خلالها من يد الملائكة إلى إن جاء الوقت الذي يأتي فيه الرب إلى العالم، ويتجسد من هذهالتي اصطفاها، حينئذ تشاور الكهنة إن يودعوها عند من يحفظها، لأنها نذر للرب، إذ لا يجوز لهم إن يبقوها في الهيكل بعد هذه السن فقرروا إن تخطب رسميا لواحد يحل له إن يرعاها ويهتم بشئونها، فجمعوا من سبط يهوذا اثني عشر رجلا أتقياء ليودعوها عند أحدهم، واخذوا عصيهم وادخلوها إلى الهيكل، فاتت حمامة ووقفت علي عصا يوسف النجار، فعلموا إن هذا الأمر من الرب، لان يوسف كان صديقا بارا، فتسلمها وظلت عنده إلى إن آتى إليها الملاك جبرائيل وبشرها بتجسد الابن منها لخلاص آدم وذريته. وأهـمية هذا الإحتفال هو التأمـل فـى كيف أن القديسة مريـم قد قضت طفولتهـا فـى الهيكل مكرّسة ذاتهـا بكليتهـا للـه وإستعداداً لقبول كلـمة الله الـمتجسدة. فالعذراء مريم لم تأتى للهيكل لتقدم قربانـاً أو بخوراً أو لباناً أو مراً ولكن لتكرس نفسهـا فلقد أدركت تماماً دعوة الله لهـا “قومي يـا خليلتي يا جميلتي وهلّمي”(نشيد الأناشيد13:2)، فلهذا نسيت كل شيئ و عاشت فى حضرة الله كقول المرّنم:”انسي شعبكِ وبيت أبيكِ فيصبو الـملك إلـى حُسنكِ”(مزمور11:44).
أسم مريم
تعودت الأسر فـى العالـم كلـه على تسـمية أبنائهـا حسب العادات الـمتوارثـة فيتم إختيار إسم الأب أو الأم أو الأعـمام أو الأسلاف. غيـر أن إسم “مريـم” لـم تحـمله أسرة العذراء من قبل ومن الـمعتقد أن الله قد أوحـى بهذا الإسم إلـى والداي العذراء، كـما أوحى إلـى زكريـا الكاهن بإسم يوحنـا “فقال له الـملاك لا تخف يا زكريا فإن طِلبتك قد أستيجبت وامرأتك أليصابات ستلد ابنـاً فتسمـيه يوحنا”(لوقا13:1).
إن إسم مريم عبري. وفي اليونانية “ماريا” وفي اللاتينية أيضًا. وفي بعض اللغات “ماريان”.وتوجد عدة تفاسير لمعنى هذا الاسم, نذكر من الناحية اللغوية بعضًا منها:
أ- مريم من كلمة “ميريام” في اللغة المصرية القديمة, وهي مشتقة من كلمتين:
“ميري” وتعني محبوبة، و”يام” كان إستخدامها لدى المصريين للإشارة إلى الاسم الإلهي العبري “يهوه”. وبناء عليه تعني كلمة “ميريام” المحبوبة لدى الله.
ب- يرى البعض أن كلمة “مريم” هي مؤنث الكلمة الآرامية “مار” وتعني “سيد” وعليه فتكون كلمة مريم بمعنى سيدة.
يظهر اسم مريم في الكتاب المقدس في 57 آية.بالإضافة إلى مريم، أمّ يسوع، هناك ثمانية نساء أخريات في الكتاب المقدس يحملن هذا الاسم. يذكر العهد القديم امرأتين تحملان اسم مريم، أما في العهد الجديد فهناك سبع مريمات، وقد سمي بهذا الاسم في الكتاب المقدس الشخصيات التالية:
1-مريم، أو ميريام:أخت موسى وهارون. أظهرت حكمة عندما تقدمت لابنة فرعون واشارت
عليها ان تحضر لموسى مرضعة التي هي أمّه.وهي التي سبحت بعد عبور البحر الأحمر (خروج20:15-21) والتى عوقبت لمقاومتها لموسى (العدد 12) وايضا في (1 أخبار الأيام).وماتت في قادش ودفنت هناك” (العدد 1:20).
2- إمرأة من نسل يهوذا لم يتحدّث الكتاب المقدّس عنها سوى بسفر الأخبار في آية واحدة: وَبَنُو عَزْرَةَ: يَثَرُ وَمَرَدُ وَعَافِرُ وَيَالُونُ. وَحَبِلَتْ بِمَرْيَمَ وَشَمَّايَ وَيِشْبَحَ أَبِي أَشْتَمُوعَ. (1 أخبار الأيام 17:4).
3- مريم إمرأة حلفى (مت 3:10), أو كلوبا (يو 25:19), وهي من جملة اللواتي بلغن الرسل قيامة يسوع (لو 10:24), وإذ كانت ذاهبة إليهم بهذا الخبر لاقاها المسيح فسجدت له (مت 1:28و9). كلوبا أو حلفى هو أخو القدّيس يوسف وعند اليهود ينادى الأقرباء بالأخوة، كأولاد العم أو الأنسباء. لذا مريم زوجة كلوبا دُعيَت أخت مريم العذراء وهي نسيبتها وليست أختها من أبويها. وأولادها يهوذا تداوس ويعقوب.
4- مريم أخت لعازر ومرثا وتلميذة المسيح التي جلست عند قدميه, وشهد لها أنها إختارت النصيب الصالح (لو 41:10و42).
5– مريم أم يوحنا مرقس (أع 12:12). وخالة برنابا (كو 10:4) وكانت إمرأة تقية ساكنة في
أورشليم, وكان التلاميذ مجتمعين في بيتها في الليلة التي نجا فيها بطرس من السجن. قدمت مريم أمّ مرقس العليّة ليأكل فيها المسيح الفصح مع تلاميذه حيث أسّس سر الافخارستيا.
واستقبلت القدّيس بطرس بعد هربه من السجن في أورشليم.
6- مريم المجدلية: ولا طائل تحت الرأي الشائع أنها كانت إمرأة زانية, لأنها كانت ذات ثروة
وصيت حسن. وإنما كانت قد إبتليت بسبعة شياطين أخرجهم منها المسيح فتبعاه (لو 2:8و3) وثبتت إلى المنتهي, فكانت معه وقت الصلب (يو25:19), وكانت من جملة اللواتي أتين إلى القبر ليحنطنه (مر 1:16), وكانت من الأوليات عند القبر مع مريم أم يعقوب (مر 9:16) وشرفها المسيح بحديثه معها بعد قيامته (يو 11:2-18).
7- مريم ام يعقوب ويوحنا واحدة من شهود صلب يسوع والقبر الفارغ(مرقس40:15-47)
شاهدة على الصلب وعلى القبر الفارغ كما يذكر القدّيس مرقس في الإصحاح 15
وَكَانَتْ أَيْضًا نِسَاءٌ يَنْظُرْنَ مِنْ بَعِيدٍ، بَيْنَهُنَّ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ، وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ الصَّغِيرِ وَيُوسِي، وَسَالُومَةُ، اللَّوَاتِي أَيْضًا تَبِعْنَهُ وَخَدَمْنَهُ حِينَ كَانَ فِي الْجَلِيلِ. وَأُخَرُ كَثِيرَاتٌ اللَّوَاتِي صَعِدْنَ مَعَهُ إِلَى أُورُشَلِيمَ.
8- وأخيرًا “مريم” إمرأة مسيحية في رومية ذكرها القدّيس بولس في رسالته إلى رومية
سَلِّمُوا عَلَى مَرْيَمَ الَّتِي تَعِبَتْ لأَجْلِنَا كَثِيرًا (رومية 16 :6).
معنى اسم مريم
اسم مريم هو اسم أعجميّ غير عربيّ، يرجّح أنّ بداية ظهوره كانت عند اليونانيّين ثمّ انتقل إلى العبريّة وبعدها وصل إلى الفرس ليصل إلى العرب بعدها. في اللّغة العربيّة فيقسم إلى قسمين الأوّل يكون مرّ ومعناه مضى فنقول مرّ الشيء بمعنى أنّه مضى، والثاني يم يعني جانب الشيء. وتمّ اشتقاق الكثير من الأسماء من اسمها مثل مريانا وماريّا وماري وميري ومروم وغيرها، وجميعها تدلّ على العفّة والطهارة. اسم مريم في أصلها في اللغة العبرية، ومعناه الخادمة التي تخدم الرب، أو التي تعبد ربها. ومعنى إسم “مريـم” يزيد فـى معانيـه عن الخـمسين: (الحبيبة-القادرة-الـمالكة-السيدة-نجمة البحر-الـجمال- الـمُرّ- النور-البخور الـملكي)، وفـى اللغة العـِبريـة فيعنى البحـر.لاسم مريم في الكتاب المقدس عدة معاني مختلفة فمنها ما يعني الفتاة المحبوبة، وورد بمعني الملكة أو السلطانة، كما يعني نجمة البحر.
عيـد إسـم مريـم الـمقدس (12سـبتـمبـر)– تعودت الأسر فـى العالـم كلـه على تسـمية أبنائهـا
حسب العادات الـمتوارثـة فيتم إختيار إسم الأب أو الأم أو الأعـمام أو الأسلاف. غيـر أن إسم “مريـم” لـم تحـمله أسرة العذراء من قبل ومن الـمعتقد أن الله قد أوحـى بهذا الإسم إلـى والديّ العذراء، كـما أوحى إلـى زكريـا الكاهن بإسم يوحنـا “فقال له الـملاك لا تخف يا زكريا فإن طِلبتك قد أستيجبت وامرأتك أليصابات ستلد ابنـاً فتسمـيه يوحنا”(لو13:1). العيد الطقسي لعيد اسم القديسة مريم العذراء المقدس” تأسس في أسبانيا ووافق عليه البابا في عام 1513، وتم تعميمه في أنحاء العالم بمعرفة البابا اينوسنت الحادي عشر عام1683، بعد هزيمة الأتراك على أبواب فيينا بالنمسا، ومدينة بولونيا الإيطالية، حيث حاولت الإمبراطورية العثمانية غزوهما، وعقب الهزيمة المنكرة تم إطلاق هذا العيد. والاحتفال بهذا العيد من اجل تكريم ام يسوع واسمها المقدس والأسم الذي يتشفع به المؤمنين لوالدة الله وايضا الأسم الذي يستجيب لإحتياجات البشر.
مريم ما قبل البشارة
ماذا كانت حياة مريم ام يسوع قبل ظهور الملاك جبرائيل لها؟
لا نعرف كثيرا عن تلك الفترة بصورة مؤكدة، فحياة مريم الأولى تشتت في سريّة على الرغم من ان هناك العديد من التقاليد التي تناقلت عبر الأجيال وظهرت مثل ميلادها لأبوين ميسوران يعانون مشكلة العقم وكبرت كطفلة بمعرفة كهنة الهيكل ثم ترتيب خطبتها لرجل اسمه يوسف. ان الكتاب المقدس لم يذكر لنا كثيرا عن وجود مريم قبل البشارة فأنجيل القديس لوقا ذكر لنا فقط الآتي: وَفِي الشَّهْرِ السَّادِسِ أُرْسِلَ جِبْرَائِيلُ الْمَلاَكُ مِنَ اللهِ إِلَى مَدِينَةٍ مِنَ الْجَلِيلِ اسْمُهَا نَاصِرَةُ، إِلَى عَذْرَاءَ مَخْطُوبَةٍ لِرَجُل مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ اسْمُهُ يُوسُفُ. وَاسْمُ الْعَذْرَاءِ مَرْيَمُ.” (لوقا26:1-27).
ان هذا النص لم يذكر لنا كثيرا عن حياة مريم الأولى ولكنه اعطانا ثلاث حقائق مهمة علينا إكتشافها:
انها كانت تعيش في مدينة في الجليل اسمها ناصرة
انها عذراء مخطوبة
اسم خطيب مريم هو يوسف من بيت داود.
تلك التفاصيل قد تبدو غير مهمة عن خلفية تمكنا ان نتوقع الحصول على الكثير من المعلومات، لكن بالنظر الى تلك الحقائق عن مريم كإمرأة يهودية تعيش في القرن الأول الميلادي تكون تلك الحقائق الصغيرة مهمة لتكشف بعض الحقائق الهامة عن حياة مريم، خاصة لكي نتفهم المهمة التي اسندها الله لمريم وأيضا لنعرف على الأقل ومضات من حياة مريم قبل البشارة.
الناصرة – المكان المجهول
الحقيقة الأولى التي نتعلمها انها كانت تسكن مدينة في الجليل اسمها الناصرة (لوقا26:1). هذه المعلومة الجغرافية البسيطة مهمة، فمن وجهة النظر البشرية فناصرة الجليل مكان غير محبوب لكي يخرج منه المسيّا المنتظر. اليهود في الجليل كانوا دائما في موضع غير محبوب في نظر اقرناؤهم في اورشليم واليهودية فنجد “فَقَالَ لَهُ نَثَنَائِيلُ: «أَمِنَ النَّاصِرَةِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ صَالِحٌ؟(يوحنا46:1) و “أَجَابُوا وَقَالوُا لَهُ: «أَلَعَلَّكَ أَنْتَ أَيْضًا مِنَ الْجَلِيلِ؟ فَتِّشْ وَانْظُرْ! إِنَّهُ لَمْ يَقُمْ نَبِيٌّ مِنَ الْجَلِيلِ»(يوحنا52:7)، وذلك لأنه من المحتمل كان يقطنها أجانب “أَرْضُ زَبُولُونَ، وَأَرْضُ نَفْتَالِيمَ، طَرِيقُ الْبَحْرِ، عَبْرُ الأُرْدُنِّ، جَلِيلُ الأُمَمِ.الشَّعْبُ الْجَالِسُ فِي ظُلْمَةٍ أَبْصَرَ نُورًا عَظِيمًا، وَالْجَالِسُونَ فِي كُورَةِ الْمَوْتِ وَظِلاَلِهِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ»(متى15:4-16)، وأيضا لكونها بعيدة عن أورشليم وهيكلها المقدس. الناصرة كان فيها أيام مريم حوالي 200 او 500 نسمة ولم تكن في أي طريق تجاري او قريبة من مركز تجارة وكما سبق ان ذكرنا انها لم تحمل أي تاريخ في التقليد اليهوديوحتى العهد القديم لم يُذكر فيه أي شيئ عنها ولم تأتي أي نبؤة عنها. ان الحقيقة ان يسوع قد جاء من الناصرة ستصبح علامة ضده فيما بعد عندما يبدأ رسالته العلنية فهي ذات سمعة سيئة. لذلك في القرن الأول الميلادي وفي العالم اليهودي كانت ناصرة جليل الأمم ليست من ضمن ال 10 اشهر أماكن يمكن للمسيّا ان يأتي منها. ان كون الله يختار امرأة من تلك المدينة البسيطة والفقيرة والمجهولة لتصبح ام للمسيّا هو مثار للدهشة والتعجب وهو علامة خاصة ومخالفة لأي توقع وخاصة ان نسيبتها اليصابات قد حدث لزوجها زكريا حديثا حدثا هاما في أورشليم. لقد سجل انجيل لوقا ان الملاك جبرائيل قد زار زكريا الكاهن وهو يقوم بخدمته في المكان المقدس -هيكل اورشليم- وهو الذي يحمل مكانة دينية معروفة ويخدم كأحد الكهنة اللاويين. كان زكريا الكاهن في اثناء خدمته رافعا البخور فظهر له الملاك جبرائيل لينقل له الرسالة عن زوجته العاقر بأن اليصابات ستحبل وتلد ابنا في شيخوختها. ومن الناحية الأخرى وفي بشارة مريم فهي امرأة صغيرة غير معروفة لا تحمل اية وظيفة مرموقة ولا تحمل أي صفة وظيفية ومن الظاهر انها كانت تقوم بأعمالها المنزلية العادية في قرية غير معروفة عندما ظهر الملاك وكلّمها. أكثر من ذلك كانت البشارة لزكريا لها صدى لدى الشعب على الفور الذي عرف ان ملاكا قد ظهر له: “وَكَانَ كُلُّ جُمْهُورِ الشَّعْبِ يُصَلُّونَ خَارِجًا وَقْتَ الْبَخُورِ”(لوقا 10:1) و” وَكَانَ الشَّعْبُ مُنْتَظِرِينَ زَكَرِيَّا وَمُتَعّجِّبِينَ مِنْ إِبْطَائِهِ فِي الْهَيْكَلِ.فَلَمَّا خَرَجَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ، فَفَهِمُوا أَنَّهُ قَدْ رَأَى رُؤْيَا فِي الْهَيْكَلِ. فَكَانَ يُومِئُ إِلَيْهِمْ وَبَقِيَ صَامِتًا”(لوقا21:1-22). ان الملاك تحدث مع مريم وفي النهاية لم يوجد أي احد حولها وبهذا ذهبت رؤيتها بلا شهود او أي شخص حتى لاحظ ذلك حتى في كل إسرائيل على الرغم ان تلك الحادثة هي اهم بشارة ملائكية كان ينتظرها الاسرائيليون في كل تاريخهم. لقد أشار القديس البابا يوحنا بولس الثاني الي تلك المقارنة بين البشارتان مشيرا للطريقة الغير طبيعية لتدخل الله في حياة مريم:” في حالة العذراء كان فعل الله يظهر بالتأكيد مفاجئا، فمريم ليس لديها أي طلب بشري لمجيئ المسيّا فهي ليست رئيس كهنة او ممثلاً عن الدين اليهودي او حتى رجلاً ولكن امرأة صغيرة بدون أي تأثير في مجتمع زمانها، هذا بالإضافة انها من سكان قرية الناصرة التي لم تُذكر في العهد القديم”.
ولقد أضاف القديس البابا يوحنا بولس الثاني موضحا تواضع مريم فقال:” ان القديس لوقا ركز من ان كل شيئ في مريم قد تحرك من نعمة عظمى وان كل ما قد وهب لها لم يكن بسبب أي طلبة او استحقاق ولكن نتيجة اختيار إلهي عظيم وحر. ان مريم تقف في التقليد الكتابي لإختيار الله لأناس متوقع منهم على الأقل ان يقوموا بدور حيوي في خطة الله لخلاص البشرية. كما اختار الله موسى متلعثم في الكلام وغير ذوو ثقة في نفسه وفي قدرته لقيادة شعب من العبودية في مصر، وأيضا كما اختار الله من بين أبناء يسّى صبي صغير اسمه داود والذي كان راعي غنم بسيط وسعيد في حياته وجعله ملكا ثانيا على إسرائيل، أيضا اختار الله في القرن الأول الميلادي من ضمن الشعب اليهودي ليست امرأة من الطبقة الأرستقراطية وليست ابنة لرئيس كهنة في اورشليم او ابنة لزوجة كاتب او لاوي او فريسي مشهور ولكن اختار عذراء غير معروفة اسمها مريم من قرية متواضعة اسمها الناصرة ويسألها لتصبح ام لملك إسرائيل المسيّا المنتظر.”
عذراء مخطوبة
الحقيقة الثانية والتي نتعلمها عن مريم انها كانت “عذراء” و”مخطوبة” وتلك الحقيقة تعطينا ثلاث أشياء هامة عن القديسة مريم:
+ أولا بما انها امرأة يهودية فلقد ارتبطت وهي في عمر حوالي 13 سنة. من المحتمل ان مريم كانت صغيرة جدا عندما استقبلت تلك الرسالة العظيمة من الملاك جبرائيل عن دعوتها لتخدم كأم المسيّا.
+ ثانيا وكإمرأة مخطوبة فهي قانونيا متزوجة للقديس يوسف ولكن مازالت تعيش مع عائلتها. ان الخطبة اليهودية ليست كمثل الخطوبة في عصرنا الحديث ففي اليهودية كان الزواج اليهودي يتم فى ثلاث خطوات:
الخطوة الاولى: وهى الخطبة وكانت تتم بمجرد موافقة الاسرتين على الارتباط.
الخطوة الثانية: وهى الخطبة الرسمية والتى تتم عند اذاعة الامر علنا فيصبح العروسان مرتبطين برباط لا ينفصم الا بالموت او الطلاق، ولا يسمح فيه باي علاقات جنسية الا بعد اتمام الزواج “ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الرَّبَّ هُوَ الشَّاهِدُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ امْرَأَةِ شَبَابِكَ الَّتِي أَنْتَ غَدَرْتَ بِهَا، وَهِيَ قَرِينَتُكَ وَامْرَأَةُ عَهْدِكَ”(ملاخي14:2). في هذه المرحلة يمكن للزوجة ان تعيش في منزل اسرتها لبعض الوقت تصل أقصاها عام
الخطوة الثالثة: وهى الزواج، وهذه الخطوة هي “أخذ” الزوجة الي منزل الرجل وهنا عندما يمارس الرجل سلطاته ويكون مسؤلا عن امرأته.
وعليه تكون مريم المخطوبة للقديس يوسف كانت مازالت فى الخطوة الثانية ولم تتم الخطوة الثالثة عندما ظهر الملاك جبرائيل لها. ان مريم كانت زوجة للقديس يوسف في تلك الأوقات ولكنها لم تكن بعد تسكن معه.
+ ثالثا وطبقا للزواج اليهودي والتقليد المتبع في الجليل فالعلاقة الجنسية عادة لا تتم حتى يأخذ الرجل زوجته الي بيته. وهكذا فتكون مريم امرأة صغيرة مخطوبة ولهذا فيمكن ان تدعى بحق “عذراء” (لوقا27:1).
بيت داود
اكثر الحقائق الملفتة عن مريم كما جاء في آيات انجيل القديس لوقا انها كانت “مخطوبة لِرَجُل مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ اسْمُهُ يُوسُفُ”(لوقا27:1). تلك الحقيقة هامة لمريم فهى تقول لنا ان مريم لم تكن جزء من عائلة عادية فهي الآن تخص “عائلة ملكية”( ان القديس لوقا لم يوضح بصورة واضحة سلسلة نسب مريم، فحيث ان زكريا الكاهن وزوجته اليصابات من أقرباء مريم فهم من سبط لاوي وقد يستنج ان مريم من ذلك السبط. ان زواج مريم لشخص من بيت داود يمكن ان يشير ان في سلسلة نسبها يعود أيضا الي بيت داود – انظر ما ذكر في رسالة القديس بولس لأهل رومية: “ عَنِ ابْنِهِ. الَّذِي صَارَ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ مِنْ جِهَةِ الْجَسَدِ”(رومية3:1). في الحقيقة ان التعبير “بيت داود” قد استخدم في العهد القديم إشارة الى سلسلة نسب يرجع للملك داود، أشهر عائلة في تاريخ إسرائيل. ورثة الملك داود حكموا مملكة يهوذا لعدة قرون. لقد وعد الله داود ان عائلته سيكون لها مملكة لا تنتهي. ويبدو ان مملكة داود تعرضت لصدمة قوية درامية في عام 586 قبل الميلاد عندما غزا البابليون اورشليم وحطموا الهيكل وحملوا شعبها أسرى للعبودية. في تلك الأوقات عديد من أبناء داود قد قتلوا ولم يوجد احد من احفاده جلس على العرش لمدة 600 سنة حيث تعاقب الغزاة على احتلال الأرض وحكموا اليهود. في تلك الأيام بدا ان مملكة داود قد اندثرت وانتظر الشعب لإبن من نسل داود لإعادة المملكة كما تنبأ عنها الأنبياء.
هذا الوضع في أيام مريم ويوسف عندما كان الرومان اخر المحتلون يسيطرون على الأرض. في القرن الأول الميلادي العالم اليهودي وهو محتل من الأمبراطورية الرومانية لذا يكون أي جزء من بيت داود لا يعطي أي ميزة او شرف وسلطة كما كانت في أيام ملوك اليهودية والذين كانوا يحكمون اورشليم. ان “زوج مريم” قد يكون “من بيت داود” ولكن لم يكن يملك كأمير في احد قصور أورشليم ولكن بدلا من ذلك كان يعمل كنجار متواضع يحيا في هدوء يدير حانوته في قرية مغمورة وهي الناصرة.
القديس يوسف
مرة أخرى نجد انجيل لوقا يذكر لنا سلسلة نسب يسوع وفيها أيضا ذكر ليوسف: ” ولـمـا إبتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة وهو على ما كان يُظن إبن يوسف بن عالي بن متات” (لوقا23:3).
لقد كبر القديس يوسف في غموض حتى نسبه غير واضح، فالعهد الجديد اعطانا سلسلتان من النسب ليسوع ويبدو من اول وهلة انهما متعارضتان عن تحديد من هو والد يوسف. القديس متى ينص على ان والد القديس يوسف يسمى “يعقوب”:” وَيَعْقُوبُ وَلَدَ يُوسُفَ رَجُلَ مَرْيَمَ الَّتِي وُلِدَ مِنْهَا يَسُوعُ الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ.“(متى16:1)، بينما القديس لوقا يضع في قائمته اسم “هالي”: وَلَمَّا ابْتَدَأَ يَسُوعُ كَانَ لَهُ نَحْوُ ثَلاَثِينَ سَنَةً، وَهُوَ عَلَى مَا كَانَ يُظَنُّ ابْنَ يُوسُفَ، بْنِ هَالِي”(لوقا23:3). لا هذا او ذاك من سلسلة الأنساب تعطي قائمة كاملة للأجيال بدون أي ثغرات وهكذا فانه من المحتمل ان احدهما او (كليهما) قد تخطوا ببساطة الأجيال التي تسبق يوسف مباشرة.
لكن لدينا مصدر آخر من احد المؤرخين اسمه Sextus Julius Africanus[12] الذى عاش في الأراضي المقدسة في القرن الثاني الميلادي ويقال انه كان على اتصال باسرة يسوع والقرى التي كان يقطنها اسلاف الملك داود. افريكانو كانت كتابته مسجلة مع اوسابيوس Eusebius والذى كتب ان أم يوسف كانت ارملة لم تنجب من زوجها “هالي” الذي مات وطبقا للشريعة اليهودية فأخو “هالي” والذي اسمه “يعقوب” كان عليه ان يتزوحها ويقيم نسل لأخيه “هالي”: “ «إِذَا سَكَنَ إِخْوَةٌ مَعًا وَمَاتَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَلَيْسَ لَهُ ابْنٌ، فَلاَ تَصِرِ امْرَأَةُ الْمَيْتِ إِلَى خَارِجٍ لِرَجُل أَجْنَبِيٍّ. أَخُو زَوْجِهَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا وَيَتَّخِذُهَا لِنَفْسِهِ زَوْجَةً، وَيَقُومُ لَهَا بِوَاجِبِ أَخِي الزَّوْجِ. وَالْبِكْرُ الَّذِي تَلِدُهُ يَقُومُ بِاسْمِ أَخِيهِ الْمَيْتِ، لِئَلاَّ يُمْحَى اسْمُهُ مِنْ إِسْرَائِيلَ. «وَإِنْ لَمْ يَرْضَ الرَّجُلُ أَنْ يَأْخُذَ امْرَأَةَ أَخِيهِ، تَصْعَدُ امْرَأَةُ أَخِيهِ إِلَى الْبَابِ إِلَى الشُّيُوخِ وَتَقُولُ: قَدْ أَبَى أَخُو زَوْجِي أَنْ يُقِيمَ لأَخِيهِ اسْمًا فِي إِسْرَائِيلَ. لَمْ يَشَأْ أَنْ يَقُومَ لِي بِوَاجِبِ أَخِي الزَّوْجِ. فَيَدْعُوهُ شُيُوخُ مَدِينَتِهِ وَيَتَكَلَّمُونَ مَعَهُ. فَإِنْ أَصَرَّ وَقَالَ: لاَ أَرْضَى أَنْ أَتَّخِذَهَا. تَتَقَدَّمُ امْرَأَةُ أَخِيهِ إِلَيْهِ أَمَامَ أَعْيُنِ الشُّيُوخِ، وَتَخْلَعُ نَعْلَهُ مِنْ رِجْلِهِ، وَتَبْصُقُ فِي وَجْهِهِ، وَتُصَرحُ وَتَقُولُ: هكَذَا يُفْعَلُ بِالرَّجُلِ الَّذِي لاَ يَبْنِي بَيْتَ أَخِيهِ. فَيُدْعَى اسْمُهُ فِي إِسْرَائِيلَ «بَيْتَ مَخْلُوعِ النَّعْلِ».“(تثنية5:25-10)، وهذا ما جاء ذكره مرة أخرى في حوار الفريسيين مع يسوع:” «يَا مُعَلِّمُ، كَتَبَ لَنَا مُوسَى: إِنْ مَاتَ لأَحَدٍ أَخٌ، وَتَرَكَ امْرَأَةً وَلَمْ يُخَلِّفْ أَوْلاَدًا، أَنْ يَأْخُذَ أَخُوهُ امْرَأَتَهُ، وَيُقِيمَ نَسْلًا لأَخِيهِ.“(مرقس19:12). في مثل تلك الترتيبات المعروفة ب الزواج المرتفع كلا الرجلان الأخان يكونا معروفان بأنهما والدا الطفل.
فبالطبيعة يوسف هو إبن يعقوب وبالقانون الـموسوي هو ابن عالـي. وكان قصد متى أو لوقا فى ذكرهما لسلسلة الأنساب هذه هو إثبات ان يسوع هو إبن داود ومن سبط يهوذا تـمـيماً للنبؤات الـموعود بها منذ القِدم. وايضا فى لوقا نجده يُصعد يسوع من ابيه “الظنّي” يوسف الى داود الى ابراهيم الى آدم الى الله لكي يبين الرباط القائم بين يسوع والبشريـة جمعاء. فيوسف النجار إبن ليعقوب حسب الطبيعة (مت16:1) وإبن لهالي حسب الشريعة (لو23:3). وهذا يوضح الإختلاف بين النسب الوارد فى انجيل متى، والنسب الوارد فى انجيل لوقا. ويوسف كما جاء فى سلسلة النَسَب حسب القديس متى نجده قد أتى بعد 39 مرة من عبارة “فلان وَلَدَ فلان” فنقرأ:”يعقوب وَلَدَ يوسف رجل مريم التى منها وُلد يسوع الذى يُدعى المسيح”، فيكون يوسف هو من الناحية الطبيعية آخر حلقة فى السلسلة الداودية المباشرة وهو الذى يوم ابرم زواجه بمريم أدخل يسوع الى ذريّة داود، فالإنتماء النسلي يمر بالرجل وبهذا تكون النبوءات قد تمّت ويوسف قد ساهم فى التدبير الفدائي. لقد اراد الله ان يكون لإبنه نسب بشري وهذا النسب هو نسب يوسف بالذات.
فالقديس يوسف البتول هو اذن من سبط يهوذا الشهير ومن بيت داود الملك والنبي وفي سلسلة جدوده نجد 10 من قضاة إسرائيل و13 من الأباء البطاركة و 22 من العظماء.
قد يتعجب البعض كيف يكون يسوع معتبرا من خط سلسلة نسب داود بينما يوسف ما هو إلا اب إعتباري له. ان الحبل العذري للمسيح لا يمكن ان يقلل مطلقا ابوة يوسف ليسوع حيث ان قانونية ابوته قد تمت بإرتباطه بمريم ام يسوع.
الشيئ الآخر الذى جلب أيضا بعض المجادلات كان تاريخ ميلاد القديس يوسف وهذه المشكلة ارتفعت ليس من الانجيل ولكن بدلا من ذلك من الكتابات اللاحقة التعبدية والأعمال المسيحية الخيالية التى صدرت فيما بعد والتي كثير منها لم تعترف به السلطة الكنسية. ان العهد الجديد بيّن ان يوسف البالغ كان رجل القوة والحيوية، فلقد قام برحلة تقترب من الف من الاميال من اليهودية الي مصر مفترضا على الأقدام او بواسطة دابة هاربا من جحافل جنود هيرودس. ثلاث عقود بعد ذلك -مات يوسف ومازال كان معروفا من انه “النجار” تلك المهنة التي كانت تحتاج الي قوة جسمانية ولياقة:” أَلَيْسَ هذَا ابْنَ النَّجَّارِ؟”(متى55:13) و ” أَلَيْسَ هذَا هُوَ النَّجَّارَ ابْنَ مَرْيَمَ، “(مرقس3:6). اذا العهد الجديد اظهر بوضوح شهود في اتفاق من ان يوسف كان نجارا وتزوج وهو رجل شاب ليتحمل مسؤولية مريم وابنها.
هكذا سنمضي قدما من الافتراض انه قد ولد ونما اثناء حكم هيرودس. الانجيل قد استخدم الكلمة اليونانية “tekton لوصف يوسف وهذا التعبير اكثر شيوعا ينطبق على العمال اليدويين الذين يعملون بالخشب والحجر او المعدن. التقليد التاريخي القديم يخبرنا ان يوسف وابنه يسوع كانا نجارين.
كما تعلم يسوع مهنة النجارة من يوسف لذا فمن المحتمل ان يوسف قد تعلمها من ابوه، وهذه عادة الطريقة للتدريب المهني والحرفي. المنزل او الاسرة من الحرفيين يكون عادة مؤسسة تجارية. يحفظ لنا كتاب التلمود والذي هو عبارة عن مجموعة شرائع الناموس اليهودي تقليد قديم يقر فيه:” ان الرجل الذي يحترف مهنة او صنعة عليه تعليم ابنه تلك الحرفة واي شخص لا يعلم ابنه المهنة فهو بهذا يعلمه السرقة”
ان يوسف قد كبر وهو يشاهد أعضاء من اسرته وهم يعملون بايديهم وفي تلك القرية الصغيرة من المحتمل ان رجال الحرفة الواحدة لهم منطقة عمل عامة معا مغلقة بواسطة جدران او مغطاة بمظلة. انه يبدو على الأرجح ان هؤلاء الحرفيين قد بنوا منطقة للعمل تحميهم من تقلبات الطقس.
من الطبيعي لم يكن هناك أدوات كهربائية وبناء عليه فكان على النجار ان يستخدم ذراع قوية وعيون حريصة ومهارة مع مختلف التطبيقات مثال المحاور والازاميل و المناشير وأدوات للحفر وشواكيش وانابيب وغيرها.
مهنة النجارة والقديس يوسف
النجارة من أقدم الحرف البشرية، لأنها صناعة تحويل الخشب إلى مواد لازمة وصالحة للإفادة منها، ولان الخشب معروف منذ أقدم العهود. ويظن أنها أقدم حِرفة على الإطلاق. وأول ذكر لها في التكوين في قصة بناء فلك نوح. كذلك استخدم اليهود نجارين ماهرين عند صنع أدوات خيمة الشهادة واستخدم كل من داود وسليمان نجارين من صور في بناء القصر والهيكل، وذلك لان صور كانت مركز صناعة بناء السفن، التي هي صناعة خشبية. وقد عرف أهالي لبنان الفينيقي بالمهارة في النجارة لتوافر أخشاب الأرز والسرو عندهم، ولحاجتهم للسفن التي كانت محور نشاطهم التجاري. وكان يوسف، خطيب القديسة مريم، نجار كما اوضحنا. ومن أدوات النجارة القديمة الفأس والمنشار والمسامير والمطارق.
من اجل الناس في قرية القديس يوسف فهو ومن المحتمل اقرباؤه كانوا يقوموا بتصنيع الأثاث وبعض الأدوات الأساسية للفلاحة وغيرها من التي تستخدم في المنازل. الحوانيت الصغيرة للنجارة يمكنها ان تقوم بعمل السواقي للري واسوار ومخازن للعلف. عادة مثل تلك القطع الصغيرة تأخذ فقط جزء صغير من وقت النجّار. في المتاجر الكبيرة ربما يتم تكليف الشباب من الاسرة في القيام بالاعمال التي تحتاج لمجهود كبير. مع نمو اعمال هيرودس وانشاءاته لمدن عديدة اصبح الطلب كثير للعمالة اليدوية وخاصة اعمال النجارة والبناء وكانت مجموعات العمل تذهب بعيدا عن قراهم للعمل والعودة.
الطلب الشديد على الحرفيين كان متزايد اثناء طفولة يوسف وشبابه والنجارين من اليهودية كانت لديهم الفرص للسفر بعيدا للعمل في البناء ولكن أيضا كانت هناك اعمال كافية بالقرب من أماكن سكناهم. هيرودس الملك كان يقدر مهارات الرجال الذين كانوا يقومون بالعمل في الانشاءات والمباني فهم كانوا أساسيين لأعمال دعايته-ارثه ومكانته الدولية. وكان هيرودس معروفا بسخائه نحو الحرفيين وهناك ادلة ان الحرفي يمكنه ان يصبح غنيا في ذلك الزمن. واحد من معاصرين يوسف كان رجلا اسمه “سمعان باني الهيكل” والذي تم اكتشاف قبره الفخم مؤخرا.
في كل واحد من مشروعات اعمال بناء هيرودس كان النجارين مشغولون بأعمالهم قبل ان يلحق بهم الحرفيين الآخرين مثل البنائين وعمال الحفر. كان النجارين هم الذين يبنون العربات والسقالات والرافعات والسلالم والتي تسمح لباقي العمالة في العمل كل في تخصصه ثم يستمر النجارين في العمل في تثبيت القواطع والممرات وغيرها.
الحرفيين في عهد هيرودس الملك كان في استطاعتهم عادة التحدث بلغتان واحيانا بطلاقة فلغتهم الاصلية وهي الأرامية وكذلك اللغة اليونانية والتي أصبحت هي اللغة السائدة في التجارة والمعاملات الحكومية في منطقة البحر المتوسط. في فترات سفر هؤلاء الحرفيين من مكان لآخر كانوا يتعرضون لثقافات مختلفة وحضارات تختلف كثيرا عما عاشوه او نشأوا عليها.
دعونا الان ان نتخيل ان يوسف ووالده كانا ذا مهارة في مهنتهم ويبدو ان يوسف كان معروفا حتى بعد موته ب “النجّار” ولذا فيفهم من هذا انهم كان لديهم فرص كثيرة للعمل وقيامهم بالتعامل مع العديد من العملاء سواء في قريتهم الناصرة او في المناطق التي قاموا بالعمل فيها.
ان السمعة الجيدة تكون ضرورية في العمل الحرفي فالمهارة والتفوق والأمانة تجلب الانتباه وذلك الانتباه يجلب عملاء وضمان دخل للعائلة. على اية حال فالتفوق يجلب أيضا حسد ممن هم اقل مهارة. ان نظام حكم هيرودس كان يعتمد على البنائين والحرفيين ولكن أيضا على الجواسيس والمرشدين. مع ان هيرودس يقدر هؤلاء الحرفيين لكن الامر لا يخلو من الوشايات ضدهم فكان عمل هؤلاء يتأثر كثيرا في جو تلك الوشايات والمؤامرات وكان البعض يخفي مهارته هربا من ذلك الجو الخطر.
انه كان من الخطورة ان تعرف انك من سلالة الملك داود ولذا فكلا من يوسف وابوه كان معرضون للخطر. وشاية قد تصل لأسماع هيرودس حتى وهما ذا مهارة يدوية قد تودي بهم للهلاك. كان داود مع كل هذا راعيا للغنم عندما صموئيل النبي فرزه ودهنه ولكن في عصر هيرودس كان العمل يمثل تحديا بالغ الخطورة لسلالة داود.
المجامع اليهودية والقديس يوسف ان عالم القديس يوسف كان ليس مشابها عالمنا في معظم الاحوال ولكن الاكثر التفاتا ربما في وحدة الحياة. الدين لم يكن مجزأ والنشاط الديني لم ينزل الي مكان خاص او يوم معين من الاسبوع ولكن بدلا من هذا كان على نطاق واسع يلمس كل جانب من جوانب الحياة في المنزل وفي العمل.
من المؤكد انه كان هناك مجمع في الناصرة والخدمة كانت تقدم هناك في يوم السبت والليتورجيا تتضمن الصلوات وقراءات من الناموس والأنبياء وبعدها تفسير للكتب المقدسة من معلّم.
طقوس مهمة تاخذ مكانها في المجمع ففي اليوم الثامن لميلاد الطفل الذكر يتم ختانه هناك وعندما يقدر الصبي على القراءة يُسمح له ان يقرأ لأول مرة من كتاب التوراة وبينما هو يقرأ ملعقة من العسل توضع على فمه حتى ان ذكرى تلك القراءة للناموس دائما تبقى حلوة. في عمر الاثنا عشر او الثالثة عشر الولد يفترض قيامه بكل واجباته الدينية التى جاءت في شريعة موسى من صوم وصلاة وحج ونشاط داخل المجمع.
يخدم المجمع ايضا كمكان للتجمع وفندق للمسافرين اليهود. الذي يحكم هذا المجمع ويديره كانوا الشيوخ والكهنة وعادة قائد واحد يقوم بأعباء ادارة المجمع في اعماله اليومية. في عالمنا الحديث اليوم يختلف المجمع كثيرا اعتمادا على الانتماء الطائفي- ارثوذكس او محافظين او غيرهم. في العالم القديم كانت المجامع ايضا تختلف من قرية الى قرية اعتمادا على الحركة الدينية المنتشرة في تلك القرية سواء من الفريسيين او الصدوقيين او الغيورين.
كانت العبادة قبل السبي تؤدي في هيكل أورشليم فقط وبعد السبي أصبحت العبادة في أورشليم مستحيلة وغير ممكنة في ذلك الوقت فنشأت فكرة المجامع في بابل ولقد أقيمت لا لتكون مكانًا للذبائح وإنما للتعليم الكتابي والصلاة فالذبائح كانت تقدم فقط في اورشليم فلا يوجد مكان آخر على الأرض يمكن ان تقدم عليه ذبيحة مقبولة الى اله اسرائيل. وكان المجمع في قرية عدد أصحاب بيوتها 120 فصاعدًا مؤلفًا من ثلاثة وعشرين شخصًا، وفي القرى الصغيرة من سبعة قضاة ولاويين أو ثلاثة أعضاء فقط. كان الرجال الذكور ملزمين بالحج ثلاث مرات في السنة الي اورشليم في الأعياد الكبرى عندما كان هناك الهيكل. لكن الصلوات الشخصية كانت تقدم في البيت أيضا بجانب المجمع وكانت قواعد التوراة هي التي تتحكم في نظام الاسرة والعمل واوقات التسلية وحتى في العلاقات الجنسية ما بين المتزوجين.
ان حكم هيرودس الكبير -الغريب بدرجة كافية-تزامن مع فترة الاحتفالات الدينية في البلاد.
كان هناك معلمين يهود عظماء هما Hilled and Shammai احياء ونشطاء في اورشليم، ومع علمهما وتقواهما كانا مثالا لليهود في كل الأجيال وحتى ما بعدهما. مع إعادة بناء هيكل اورشليم جاء تجديد عظيم في الحياة الليتورجية – و تكثيف لخبرة الحج والذهاب لهيكل اورشليم كما تتطلب الشريعة.
الفريسيون اظهروا ثباتا في أيام حكم Hasmoneans وكانوا بلا خوف في معارضة للإساءات الدينية من الملوك واستمروا بشكل متقطع ان يكونوا مزعجين لهيرودس الملك. اما الغيورين وجدوا افضلية عند هيرودس فالمعلم الذى كان يعلمه وهو صغير كان من ضمن حركة الرهبان من تلك الطائفة وكان هيرودس يقربه اليه كمستشار له اثناء حكمه. ظل الغيورين متطرفين ورفضوا مشروعية كل رؤساء الكهنة منذ بداية hasmoneans ورفضوا ان يعترفوا باي تغييرات طقسية قاموا بها هؤلاء الكهنة ومع هذا احتفظوا بنتائجهم واعيادهم ومواعيدها وطقوسها حسب طريقتهم. وجعلوا الحج الى اورشليم ولكنهم لم يشتركوا في الذبائح التى كانت تقدم في هيكل اورشليم. عدد من طائفة الغيورين كانوا يعيشون في تجمعات في الصحراء بجوار البحر الميت، وكانت تلك التجمعات تتبع نظام نسكي متشدد وكان يشمل كلا من البتوليين والمتزوجين.
عدد كبير من الباحثين يعتقدون ان اسرة يسوع كانت على اتصال بهؤلاء الغيورين. القديس يوحنا المعمدان قد قضى بعض الوقت في الصحراء وشارك تطلع فئة الغيورين في البتولية وانتظار المسيّا. يوسف ومريم اقتربا ايضا في ارتباطهما بطريقة تبدو متفقة مع فكرة البتولية عند الغيورين. ان اجابة مريم للملاك في البشارة تبدو مقبولة فقط اذا ما كانت قد قررت ان تحفظ بتوليتها طيلة حياتها ولذا فهي قالت:” كيف يكون هذا وانا لا اعرف رجلا”. بمراجعة ادلة بعض علماء الأثار جاء بان اسرة يوسف لها ارتباط قوي ووثيق مع حركة الغيورين وايضا وصل لنفس النتيجة John Bergsma في كتابة عن يسوع ومخطوطات البحر الميت.
انه من المؤكد ان يوسف قد كبر مع الوعي الشديد بقرب قدوم المسيّا مع احتمالية ان المسيّا سوف يأتي من عائلة يوسف خاصة، وايضا قد نما مع خيارات مهنية عليه ان يفاضل بينهم ويختار لنفسه.
في سن المراهقة المبكرة كان من المتوقع ليوسف ان يعيش ايمان الكبار ومن المحتمل ايضا انه كان له حصة في دخل العمل الذى كان يدعم الاسرة. حتى مع العمل للشباب الذى كان لستة ايام بمشقة كل اسبوع مع راحة يوم واحد وهو يوم السبت والذى كان مراقب بصرامة شديدة، فهذا اليوم كان محفوظ بكامله للصلاة واوقات فراغ تأملية ولا شيئ يسمح لأي عمل او شبه عمل.
كان الزواج مرتب بواسطة الوالدين مع نصيحة من اقارب بالغين مع الحصول على موافقة المختارين للزواج لكي يرتبطوا. لقد أكد Samuel Sandmel في كتابه بدايات اليهودية والمسيحية ان هناك فرق مابين فكرة الزواج في القديم والحديث فبين اليهود في القرن الاول الميلادي ينظر للزواج على انه ارتباط رسمي مرتب ما بين العريس والعروس وعائلاتهم. الحاخامات اليهود في القديم كانوا ينصحون للرجال بالزواج عن عمر 18 سنة والبنات ان يتزوجن بعد فترة قصيرة من بلوغهن.
عادة يتم اختيار الشريك من الاقارب او من القرية وهذا يؤكد التشابه الاساسي للنظم والتقاليد والعادات والقيم والمفهوم الديني في قرية صغيرة مثل الناصرة كل الناس الشباب يعرفون بعضهم البعض جيدا و عندما يبلغون اكبر سنا يتزوجون وعدد السكان في ذلك الوقت كان قليل لا يقارن بأيامنا الآن. احيانا يقوم الأهل بترتيبات الزواج عندما يكون اطفالهم صغارا وبعد عدة سنوات يبدأوا في اجراءات الزواج والذى يبدأ بحفل الخطوبة. العائلات المتداخلة في ذلك الارتباط سوف يكتبون شروط رسمية وتحديد الهدايا والممتلكات التى تتضمن في عقد الارتباط. بعد الخطوبة هذا الارتباط يمكن حله بالطلاق. الزواج يكون نهائي وعادة يكتمل فقط بعد احتفال يسمى kiddushin او المقدسات.
انه من المحتمل ان يوسف ومريم قد عرفا منذ شبابهما انهما مخصصان لبعضهما البعض، وايضا من المحتمل انهما كانا متأثران ببتولية جماعة الغيورين وانهما قد قررا البقاء في تلك البتولية حتى اذا ما ارتبطا بالزواج.
وهكذا فلا يوجد على السطح يظهر أي شيئ غير عادي عن حياة مريم فهي امرأة صغيرة ومخطوبة لرجل من بيت داود وتحيا مع عائلتها في قرية صغيرة غير معروفة هي الناصرة في منطقة الجليل. بهذا اعطانا انجيل لوقا معلومة إضافية عن مريم يمكن ان يكشف كيف ان هناك شيئا ما يحدث تحت السطح والذي يظهر على السطح على انه شيئ بسيط لحياة عادية، ان الله يعمل شيئا غير عادي ليعد مريم الي رسالة مهمة للغاية في تاريخ البشرية.
البشارة
ذُكرت حادثـة البشارة فى إنجيل القديس لوقـا بوضوح
(لوقا26:1-38) ويذكر الـمؤرخون ان القديس لوقا قد أخذ هذه الحوادث عن طفولة الـمسيح وميلاده من فم السيدة العذراء نفسها “امـا مريم فكانت تحفظ كل هذه الأمور متفكرة بهـا فى قلبهـا”(لوقا19:2)، لهذا فقد ذكر فى بدء انجيله انـه حصل على “الأمور الـمتيقنة عندنا كما سلّمها إلينـا الذين كانوا معاينين وخدّامـاً للكلمـة”(لوقا2:1) ولهذا كتب انجيله.
“وَفِي الشَّهْرِ السَّادِسِ أُرْسِلَ جِبْرَائِيلُ الْمَلاَكُ مِنَ اللهِ إِلَى مَدِينَةٍ مِنَ الْجَلِيلِ اسْمُهَا نَاصِرَةُ، إِلَى عَذْرَاءَ مَخْطُوبَةٍ لِرَجُل مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ اسْمُهُ يُوسُفُ. وَاسْمُ الْعَذْرَاءِ مَرْيَمُ. فَدَخَلَ إِلَيْهَا الْمَلاَكُ وَقَالَ: «سَلاَمٌ لَكِ يا ممتلئة نعمة اَلرَّبُّ مَعَكِ. مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ». فَلَمَّا رَأَتْهُ اضْطَرَبَتْ مِنْ كَلاَمِهِ، وَفَكَّرَتْ: «مَا عَسَى أَنْ تَكُونَ هذِهِ التَّحِيَّةُ!» فَقَالَ لَهَا الْمَلاَكُ: «لاَ تَخَافِي يَا مَرْيَمُ، لأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللهِ.وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْنًا وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. هذَا يَكُونُ عَظِيمًا، وَابْنَ الْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ الرَّبُّ الإِلهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ، وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ».فَقَالَتْ مَرْيَمُ لِلْمَلاَكِ: «كَيْفَ يَكُونُ هذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلًا؟» فَأَجَابَ الْمَلاَكُ وَقَالَ لَها: «اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذلِكَ أَيْضًا الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ. وَهُوَذَا أَلِيصَابَاتُ نَسِيبَتُكِ هِيَ أَيْضًا حُبْلَى بِابْنٍ فِي شَيْخُوخَتِهَا، وَهذَا هُوَ الشَّهْرُ السَّادِسُ لِتِلْكَ الْمَدْعُوَّةِ عَاقِرًا، لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَى اللهِ». فَقَالَتْ مَرْيَمُ: «هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ». فَمَضَى مِنْ عِنْدِهَا الْمَلاَكُ.“(لوقا26:1-38).
وفى البشارة وأحداثهـا نجد العديد من الدروس التى يلزم الوقوف أمامـها للتأمـل.
+ “فـى الشهر السادس“(لوقا 26:1) – أي بعد ستة أشهر من بشارة الـملاك جبرائيل لزكريـا الكاهن بميلاد يوحنا الـمعمدان.
+ “أُرسل جبرائيل الـملاك“(لوقا26:1)- جبرائيل أو غبريال إسم عبري معناه رجل الله، أو قوة الله، أو أظهر اللـه ذاتـه جباراً. وهو ملاك ذى رتبـة رفيعـة وأُرسل فى القديم لدانيال النبي (دانيال21:9-27) وأعطاه نبؤة السبعين اسبوعا لـمجيئ الـمسيّا. وأُرسل الى أورشليم ليحمل البشارة لزكريا الكاهن فى شأن ولادة يوحنا (لوقا11:1-22). وها هو الآن يحمل البشرى الى الناصرة ليبشر مريم بأنهـا ستكون أمـاً للـمسيّا. فهو ملاك البشارات الـمفرحـة.
+ “إلى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف واسم العذراء مريم“(لوقا27:1) – هنـا تحديد لإسم العذراء وعلاقـتهـا بيوسف، وانـه من بيت داود تحقيقـا لنبؤات العهد القديم أن الـمسيّا هو من بيت داود ومولوداً من عذراء.
+ “السلام لكِ أيتهـا الـممتلئة نعـمة، الرب معكِ، مباركة أنتِ فى النساء” (لوقا28:1)
ان الكلمات التي بدأ بها الملاك جبرائيل حديثه مع مريم لهي مثيرة للإعجاب: “افرحي أيتها الـممتلئة نعمة، الرب معك” (لوقا28:1). لا يوجد اي شخص في تاريخ الكتاب المقدس قد وُجهت له مثل تلك التحية من قبل.ولكن ماذا لوكنت إمرأة صغيرة يهودية تعيش في القرن الأول الميلادي وتواجه بتلك الكلمات المقدسة لأول مرة؟. ان الملاك جبرائيل قال ثلاث اشياء عجيبة لمريم في بدء رسالته لها: لقد دعاها ان “تفرح” وموجها لها لقب ” ممتلئة نعمة” وتأكيد ” ان الرب معها“.
السلام لكِ- لم تكن هذه بالتحية العادية كقول “يوم سعيد” ولا حملت معنى “سلام” او “شالوم”بالعبريـة، لكن الكلمة اليونانية للسلام هنا “شيريـه” chaire وتعنى كمال معنى الفرح. ان كلمة شيري او شيريه ربما تكون تحية لمن يتكلمون باليونانية هي تحية عادية ولكن لم يستخدم لوقا الأنجيلي مثل تلك التحية في أي مقطع اخر من انجيله او في سفر اعمال الرسل والذي كتبه هو أيضا ولكن بالنسبة لفتاة يهودية كانت تحمل معنى آخرلقد إستخدم بعض أنبياء العهد القديم ذات التحية موجهة الى “إبنـة صهيون” يسألونهـا أن تفرح جداً بل تصرخ علانية: “ترنمي يا إبنـة صهيون، اهتفي…افرحي (شيري) وابتهجي من كل قلبك يا إبنة اورشليم” (صفنيا14:3و17)
“إبتهجي (شيريـه) جدا من كل القلب والنفس يا إبنة صهيون هوذا ملكك يأتيك…ويسكن فى وسطكِ” (زكريا9:9). فى القديم جاءت التحية “إفرحي يا إبنة صهيون” وعبريـا تعنى “راني نيوخانـاه”، وفى البشارة جاءت التحية للعذراء “إفرحي يا ممتلئة نعـمة” وعبريـا تعنى “راني شانيناه”، انـه تشابه عجيب. انهـا دعوة للفرح بالـمسيّا الآتـى، مريم صارت تجسداً لإبنـة صهيون التى تنتظر الـمخلص فلتفرح وتبتهج.
مريـم هـى إبنـة صهيون فتمثل شعب الله الـمختار كلـه، فهى إذن مختارة بحسب تدبيـر اللـه السري العجيب لتكون أم الـمسيح كقول الـمرّنم”لإنك أنت نسجتني فى بطن أمي ولم تختف عنك عظامي حينما صنعت فى الخفاء”(مزمور13:139-14).
في سفر يوئيل النبي جاءت الكلمة مصحوبة بالفرح والإبتهاج:” لاَ تَخَافِي أَيَّتُهَا الأَرْضُ. ابْتَهِجِي وَافْرَحِي لأَنَّ الرَّبَّ يُعَظِّمُ عَمَلَهُ. لاَ تَخَافِي يَا بَهَائِمَ الصَّحْرَاءِ، فَإِنَّ مَرَاعِيَ الْبَرِّيَّةِ تَنْبُتُ، لأَنَّ الأَشْجَارَ تَحْمِلُ ثَمَرَهَا، التِّينَةُ وَالْكَرْمَةُ تُعْطِيَانِ قُوَّتَهُمَا. وَيَا بَنِي صِهْيَوْنَ، ابْتَهِجُوا وَافْرَحُوا بِالرَّبِّ إِلهِكُمْ، لأَنَّهُ يُعْطِيكُمُ الْمَطَرَ الْمُبَكِّرَ عَلَى حَقِّهِ، وَيُنْزِلُ عَلَيْكُمْ مَطَرًا مُبَكِّرًا وَمُتَأَخِّرًا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ(يوئيل21:2-23). هكذا نجد في نبؤة صفنيا ونبؤة زكريا النبي انه يوما ما الرب سيأتي لشعبه ويخلصهم من اعدائهم وسيأتي كملك ويعيد مملكته في اورشليم وفي ذلك اليوم شعب الله المؤمن متمثلا في شخصية “ابنة صهيون” مدعوة للفرح والإبتهاج وهذا ما اعلنه الملاك لها :” وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْنًا وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. هذَا يَكُونُ عَظِيمًا، وَابْنَ الْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ الرَّبُّ الإِلهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ، وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ».(لوقا31:1-33).
لعدة قرون انتظر اليهود إتمام تلك النبؤات وصرخوا في اجيالهم. أجـيــال..وأجـيال..وأجـيال مـرتْ..وسـبق الأجـداد أن قــالـوهـا، ولكنـهـم قـالـوهـا بصدق..قـالوهـا بشوق.. قـالوهـا بعطش..قـالوهـا بإيـمـان. “لـتـنـشق السموات وتـُنـزل الصِديــق“، فـلـتـصتلح السموات مع الأرض.. فلـتـفـتح السـماء أبوابهـا..فـلـتعـمل شيئـا عظـيما. فلـتـرتـج الأرض، وتـهـتـز الجبال وتـتـفـتت الصخور..لـتـُنـزل الـصــِدّيـــق”ليتك تشُق السـموات وتنـزل“(أشعيا1:64).
والآن قد أتى ذلك اليوم في النهاية وظهر الملاك جبرائيل لمريم ليعلن لها البشرى ان الرب الملك يأتي لشعبه ليخلصهم (لوقا31:1-33) وليؤكد لها: “ وَقَالَ لَها: «اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذلِكَ أَيْضًا الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ”(لوقا35:1). ولقد بدأ الملاك جبرائيل رسالته لمريم حاملا لها دعوة للفرح والإبتهاج والذي قيلت من قبل في نبؤتي صفنيا وزكريا لإبنة صهيون. الكلمات الأولى لمريم -شيري chaire تعني ان تفرح الآن إشارة ان عهد المسيّا قد بزغ فالرب الملك سيأتي لخلاص إسرائيل ومريم كانت اول من استقبل لتلك الأخبار المفرحة فيجب ان تفرح وتتهلل كإبنة صهيون كي تفرح بعمل الله الخلاصي الذي سيحققه مجيئ المسيّا.
والنقطة الثانية في تحية الملاك جبرائيل هي طريقة توجيه التحية لها فلم يدعوها بإسمها الشخصي فلم يقل “السلام لك يا مريم، الممتلئة نعمة” بل هو قال لها ببساطة “السلام-افرحي- يا ممتلئة نعمة”. هنا قبلت مريم من الـملاك لقبـاً جديداً، فلم يناديها يا “مريم” بل أعطاها لقبا جديدا وهو “الـممتلئة نعـمة”. لقد اجمع العديد من مفسري الكتاب المقدس انه قد اعطي لمريم هنا اسم جديد من السماء وفي الأنجيل فذلك شيئ كبير وهام للغاية وهو ليس هذا اسم مستعار فعندما يحصل شخص ما على اسم جديد في الكتاب المقدس فهذا يعني ان الله يكشف عن شيئ ما في ذلك الشخص وعن المهمة المدعو لها. فإسم ابرام مثلا قد تغير الي إبراهيم والذي يعنى “اب للجميع” لأنه مدعو ان يصبح اعظم الأباء البطاركة في إسرائيل (تكوين 17)، ومثال يسوع الذي غيّر اسم سمعان رسوله الي بطرس والذي يعنى “الصخرة” لأنه يصبح الصخرة التي سيبنى عليها يسوع كنيسته (متى16).
دُعيت مريم ب “الممتلئة نعمة” وهو لقبها الجديد والذي يشير الي شيئ عن الرسالة او المهمة والتي أُوكلت لها. لقد أشار القديس يوحنا بولس الثاني قائلا: “ان ممتلئة نعمة هو اسم مريم الذي تحمله في عيون الله”. وأضاف قائلا: في اللغة السامية استعمال الاسم يعبر حقيقة عن الأشخاص والأشياء والتي يرجع اليها وكنتيجة لهذا اللقب “ممتلئة نعمة” يشير الي بعد عميق لشخصية فتاة صغيرة من الناصرة نالت نعمة واختيار إلهي لا يمكن تعريفه او وصفه.
هذا الأسم الجديد الذي أُعطي لمريم خصها بمهمة خاصة في خطة الله للخلاص. ان حلول اللـه فى هيكل بشري يسبقه تقديس لهذا الهيكل كى يؤهل لهذا الحلول، وهنا كان الإمتلاء والتقديس لـمريم منذ البدء.
“الـممتلئـة نعـمة”، وباليونانيـة (خاريتون kecharitomene) وهى تعنى الإمتلاء من النعمة حتى الفيض وهذا الإمتلاء من النعمة هو عمل الرب فهو يملأ بنعمته كل محبيـه، وهذا الإمتلاء هو بدء التلامس بشخص الـمسيح. هذا اللقب أثبت الوضع الحالي “ايتها الـممتلئة نعمة” وليس التى ستمتلئ نعمة. فالكلمة تعنى عملا قد بدأ في الماضي ومستمر في الحدوث في الحاضر.
“ممتلئة نعمة” تعنى ان مريم مثال لعلاقة جديدة بين اللـه والإنسان، فلقد حاول الإنسان منذ القديم أن يتقرب الى اللـه، فقّدم لـه ذبائح وتقدمات إسترضاء وإستعطاف وإتقاء، غير ان اللـه لم يرتض بهذه الذبائح لأنهـا بقيت حاجزا بين اللـه والإنسان، وأعطى اللـه للإنسان عن طريق الوحي الطريق الوحيد لإرضاء اللـه وهو قلب الإنسان فيقدمـه ذبيحة للرب. فى القديم بعض الوسطاء قد جسدوا حضور اللـه للشعب بتابوت فيه عصا ولوحا العهد والذى كان رمزاً للعهد مع اللـه وكلامـه، وبعد بناء الهيكل وهو الـمثال الحي لوجود اللـه بين شعبه، وها الآن إختار اللـه من بين الذين أخلوا قلوبهم لإستقبالـه فحلّ فى أحشاء مريم الطاهرة ليدخل العالـم ويعيش بين الناس. هذه العلاقـة الجديدة بين اللـه والإنسان وهذا الـمثال وضح تماما فى مريم بنوع فريد وقد أرادهـا اللـه فى قلب كل إنسان وهو الإمتلاء من النعـمة والـمتاحـة لكل فرد منـا.
ثالثا، دعونا ننظر الى تأكيد الملاك لمريم قائلا: “الرب معكِ“(لوقا28:1). من خلال الأنجيل تلك الكلمات للتحية قد استخدمت ووجهت لرجال ونساء الذين قد دعاهم الله لمهمة خاصة لها تأثير على كل شعب إسرائيل. كانت مهامهم تتطلب سخاء كثير وتضحيات وثقة عظيمة ولهذا أُعطي لهم مثل ذلك التأكيد جتى لا يواجهوا مثل تلك الضيقة وحدهم فالله سوف يكون معهم يرشدهم ويحميهم ويقويهم. واحد من أعظم القادة في تاريخ إسرائيل تمت تحيته بمثل تلك “الرب معك”. فمثلا عندما ظهر الله ليعقوب مؤكدا له العهد ومباركا له قائلا: “ وَهَا أَنَا مَعَكَ، وَأَحْفَظُكَ حَيْثُمَا تَذْهَبُ، وَأَرُدُّكَ إِلَى هذِهِ الأَرْضِ، لأَنِّي لاَ أَتْرُكُكَ حَتَّى أَفْعَلَ مَا كَلَّمْتُكَ بِهِ»(تكوين15:28). ومثل ذلك عندما دعا الله موسى من العليقة المشتعلة ليقود الشعب من ارض مصر فقال:” «إِنِّي أَكُونُ مَعَكَ، وَهذِهِ تَكُونُ لَكَ الْعَلاَمَةُ أَنِّي أَرْسَلْتُكَ: حِينَمَا تُخْرِجُ الشَّعْبَ مِنْ مِصْرَ، تَعْبُدُونَ اللهَ عَلَى هذَا الْجَبَلِ»(خروج12:3). وأيضا قبل ان يقود يشوع بن نون الشعب في معركة في ارض الميعاد قال الله:” لاَ يَقِفُ إِنْسَانٌ فِي وَجْهِكَ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكَ. كَمَا كُنْتُ مَعَ مُوسَى أَكُونُ مَعَكَ. لاَ أُهْمِلُكَ وَلاَ أَتْرُكُكَ”(يشوع5:1). وعندما دعا ملاك الرب جدعون ليدافع عن الشعب من غزو الأعداء حياه قائلا:” «الرَّبُّ مَعَكَ يَا جَبَّارَ الْبَأْسِ»(قضاة12:6). وعندما وضع الله داود على رأس مملكته الدائمة فقد ذكّره الله بأمانته له قائلا:” وَكُنْتُ مَعَكَ حَيْثُمَا تَوَجَّهْتَ، وَقَرَضْتُ جَمِيعَ أَعْدَائِكَ مِنْ أَمَامِكَ، وَعَمِلْتُ لَكَ اسْمًا عَظِيمًا كَاسْمِ الْعُظَمَاءِ الَّذِينَ فِي الأَرْضِ”(2صموئيل9:7). وعندما دعا الله ارميا ليكون نبياً للأمم قال له:” لاَ تَخَفْ مِنْ وُجُوهِهِمْ، لأَنِّي أَنَا مَعَكَ لأُنْقِذَكَ، يَقُولُ الرَّبُّ»(ارميا8:1).
من موسى الي ارميا السِمة واضحة “الرب معك” إشارة ان شخص ما قد دُعي الي مهمة عظيمة ستكون صعبة وضرورية ومستقبل إسرائيل سيكون على الأكثر معتمدا على كيف ان ذلك الشخص سيقوم بدوره. ان الشخص التي وجهت له هذه الكلمات والمرسلة من الله لدعوة مهمة وثقة الله في ذلك الشخص التي أوكلت له هذه المهمة بالغة الأهمية و تاريخ إسرائيل والعالم معتمدا على تلك اللحظة وعلى استجابة ذلك الشخص الذي اختاره الله. ولكن هذا الشخص تم التأكيد له انه ليس وحده فالله سيكون معه في مهمته مساعدا له في أي عمل لا يستطيع وحده القيام به فيد الرب تسند وتعضد وتقوي.
ماذا تعني تلك الكلمات بالنسبة لمريم تحية من ملاك الله قائلا لها :”الرب معكِ” مشيرا ان شيئا كبيرا سيتم طلبه منها، ففي الحقيقة انها مدعوة ان تقف في تقليد إسرائيل وتاريخه كأحد الأبطال مثل موسى ويشوع وداود وارميا – أناس عانوا وضحّوا وأعطوا أنفسهم كلية للرب. ها هي الآن مدعوة الي مهمة شاقة والتي ستتضمن الكثير من التحديات والصعوبات ومستقبل شعب الله سيكون معتمدا كيف ستجيب.
انه ليس من المستغرب ان الأنجيل قال لنا ان مريم قد اضْطَرَبَتْ مِنْ كَلاَمِهِ، ولاحظ هنا ان انجيل لوقا يقول لنا ان مريم لم تكن مضطربة من ظهور الملاك بل من “كلامه”:” فَلَمَّا رَأَتْهُ اضْطَرَبَتْ مِنْ كَلاَمِهِ، وَفَكَّرَتْ: «مَا عَسَى أَنْ تَكُونَ هذِهِ التَّحِيَّةُ!»(لوقا29:1). هذا مختلف تماما من قلق زكريا الكاهن في المنظر او الحادثة السابقة لهذ الظهور كما جاء في انجيل لوقا فكانت رد فعل زكريا هو الخوف من ظهور الملاك له في الهيكل:” فَلَمَّا رَآهُ زَكَرِيَّا اضْطَرَبَ وَوَقَعَ عَلَيْهِ خَوْفٌ(لوقا12:1). مريم على العكس اضطربت من كلمات الملاك وفكّرت مدى تأثير ذلك الكلام على حياتها فلقد ايقنت ان شيئا ما هاما سيطلب منها مثل موسى وجدعون وآخرين الذين دعاهم الله فبنفس الطريقة جاءت الدعوة ولذا من المحتمل ان تساءلت ما عسى ان تكون تلك المهمة وهل في قدرتها إتمامها.
ردا على ما قد يشغل بال مريم اجابها الملاك جبرائيل قائلا:” «لاَ تَخَافِي يَا مَرْيَمُ، لأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللهِ(لوقا30:1). لقد كشف الأنجيل المقدس عن مثل ذلك الخوف ومن انه شعور بشري طبيعي ورد فعل متوقع من دعوة الله لنا.
كمثل مريم التي تحكمت في مشاعرها وفكّرت ما عسى ان تكون تلك التحية وما الذي يريده الرب ان يظهره لها، وكما قال لنا القديس لوقا:” وفكّرت ما عسى ان تكون هذه التحيـة“(لوقا29:1).
وقبل ان تعطي مريم موافقتها النهائية أكدّ لها الملاك جبرائيل قائلا لها:” «لاَ تَخَافِي يَا مَرْيَمُ، لأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللهِ”(لوقا30:1). شيئان يمكن التوقف عندهما في هذا النص، أولا عندما ظهر الملاك جبرائيل في البداية لمريم وجه لها لقب رسمي “ممتلئة نعمة”(لوقا28:1)، والآن في محاولة لإعادة التأكيد لها فتكلم الملاك جبرائيل بطريقة شخصية يدعوها بإسمها الذي أعطي لها من قبل والديها، فلم يقل ببساطة “لا تخافي” كما سبق ان قيلت للعديد من الأباء والأنبياء بل متكلما معها بصورة شخصية قائلا: ” لا تخافي يا مريم”. ثانيا لقد شجعها الملاك جبرائيل ان لا تخاف عما سيكون وما سيسأله منها لأن الله نفسه قد وهبها ميزة فريدة من النعمة (28:1) وسوف يستمر في تقويتها في مهمتها شارحا لها ذلك بأن قال لها:“لأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَاللهِ”(لوقا30:1).
ولكن ماذا يعني ذلك لمريم بأن تجد انها “وجدت نعمة عند الله”؟. في الكتب المقدسة “وجدت نعمة” مع شخص ما يمكن ان تصف شخص ذو مكانة مرموقة ومملوء رأفة ومفضّل عند شخص اقل واضعا نفسه في دور مهم للقيادة، فمثلا عندما خدم يوسف الصديق كعبد في بيت فوطيفار في مصر يقول لنا سفر التكوين عنه “فَوَجَدَ يُوسُفُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْهِ، وَخَدَمَهُ، فَوَكَّلَهُ عَلَى بَيْتِهِ وَدَفَعَ إِلَى يَدِهِ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ”(تكوين4:39-6).
ان التعبير “وجدت نعمة عند الله” يذكرنا بالعديد من الشخصيات في العهد القديم الذين بصفة خاصة قد أختيروا من الله لرسالة هامة او دور مهم يجلب البركة للآخرين مثل ما حدث ليوسف والذي وُضع في مكانة بواسطو فوطيفار وقام بدور قيادي:” وَكَانَ مِنْ حِينِ وَكَّلَهُ عَلَى بَيْتِهِ، وَعَلَى كُلِّ مَا كَانَ لَهُ، أَنَّ الرَّبَّ بَارَكَ بَيْتَ الْمِصْرِيِّ بِسَبَبِ يُوسُفَ. وَكَانَتْ بَرَكَةُ الرَّبِّ عَلَى كُلِّ مَا كَانَ لَهُ فِي الْبَيْتِ وَفِي الْحَقْلِ، فَتَرَكَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ فِي يَدِ يُوسُفَ. وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ يَعْرِفُ شَيْئًا إِلاَّ الْخُبْزَ الَّذِي يَأْكُلُ.” ومثال نوح اول شخص في الأنجيل يمكن وصفه بنفس الطريقة ففي وسط عالم مضطرب عُرق بأنه “وجد نعمة عند الله ونتيجة لذلك فلقد تمت حمايته من الفيضان وأختير ليكون على رأس العائلة البشرية المجددة:” وَأَمَّا نُوحٌ فَوَجَدَ نِعْمَةً فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ.”(تكوين8:6). كذلك ابراهيم كان وسيلة في يد الله قد استخدم ليجلب البركة للعالم أجمع وصوّر من انه وجد نعمة عند الرب:” وَظَهَرَ لَهُ الرَّبُّ عِنْدَ بَلُّوطَاتِ مَمْرَا وَهُوَ جَالِسٌ فِي بَابِ الْخَيْمَةِ وَقْتَ حَرِّ النَّهَارِ، فَرَفَعَ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ وَإِذَا ثَلاَثَةُ رِجَال وَاقِفُونَ لَدَيْهِ. فَلَمَّا نَظَرَ رَكَضَ لاسْتِقْبَالِهِمْ مِنْ بَابِ الْخَيْمَةِ وَسَجَدَ إِلَى الأَرْضِ، وَقَالَ: «يَا سَيِّدُ، إِنْ كُنْتُ قَدْ وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ فَلاَ تَتَجَاوَزْ عَبْدَكَ. لِيُؤْخَذْ قَلِيلُ مَاءٍ وَاغْسِلُوا أَرْجُلَكُمْ وَاتَّكِئُوا تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَآخُذَ كِسْرَةَ خُبْزٍ، فَتُسْنِدُونَ قُلُوبَكُمْ ثُمَّ تَجْتَازُونَ، لأَنَّكُمْ قَدْ مَرَرْتُمْ عَلَى عَبْدِكُمْ». فَقَالُوا: «هكَذَا تَفْعَلُ كَمَا تَكَلَّمْتَ»(تكوين1:18-5).ِ
وأيضا موسى قد “وجد نعمة” عند الله وأصبح وسيط العهد الذي يساعد لمصالحة الشعب الخاطي مع الرب على جبل سيناء: وَقَالَ مُوسَى لِلرَّبِّ: «انْظُرْ. أَنْتَ قَائِلٌ لِي: أَصْعِدْ هذَا الشَّعْبَ، وَأَنْتَ لَمْ تُعَرِّفْنِي مَنْ تُرْسِلُ مَعِي. وَأَنْتَ قَدْ قُلْتَ: عَرَفْتُكَ بِاسْمِكَ، وَوَجَدْتَ أَيْضًا نِعْمَةً فِي عَيْنَيَّ. فَالآنَ إِنْ كُنْتُ قَدْ وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ فَعَلِّمْنِي طَرِيقَكَ حَتَّى أَعْرِفَكَ لِكَيْ أَجِدَ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ. وَانْظُرْ أَنَّ هذِهِ الأُمَّةَ شَعْبُكَ». فَقَالَ: «وَجْهِي يَسِيرُ فَأُرِيحُكَ». فَقَالَ لَهُ: «إِنْ لَمْ يَسِرْ وَجْهُكَ فَلاَ تُصْعِدْنَا مِنْ ههُنَا، فَإِنَّهُ بِمَاذَا يُعْلَمُ أَنِّي وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ أَنَا وَشَعْبُكَ؟ أَلَيْسَ بِمَسِيرِكَ مَعَنَا؟ فَنَمْتَازَ أَنَا وَشَعْبُكَ عَنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ». فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «هذَا الأَمْرُ أَيْضًا الَّذِي تَكَلَّمْتَ عَنْهُ أَفْعَلُهُ، لأَنَّكَ وَجَدْتَ نِعْمَةً فِي عَيْنَيَّ، وَعَرَفْتُكَ بِاسْمِكَ»(خروج12:33-17).
في كل من تلك الحالات فإن الشخص الذى وُجد انه مفضّل عند الله واختير خصيصا من قِبل الرب لمهمة خاصة في خطة الله الخلاصية، لهذا فعندما قال الملاك لمريم انها قد “وجدت نعمة عند الله” قهو بهذا يطمئنها من انها قد أختيرت من قِبل الرب. كما كانت مريم مضطربة متفكرة في نفسها ما عسى ان يكون كل هذا وما الذي سيسألها الملاك ان تقوم به ومن انها قد اختيرت لتحمل وتنفذ عمل خلاصي عظيم لشعب الله مثال نوح وإبراهيم وموسى وجدعون وغيرهم، فها هي أيضا “قد وجدت نعمة عند الله”. ان الملاك لم يكشف لها بعد عن دورها ومهمتها الخاصة وفي هذه النقطة فكل ما تعرفه مريم حتى الآن انها يجب ان تفرح لأن الله سيأتي لينقذ شعبه من اعدائه وانها ستقوم بدور خاص في خطة الله الخلاصية، فالرب سيكون معها وانها وُجدت مفضلة من قِبل الله، ولكن ما هي مهمتها؟ هذا ما سيُكشف عنه في الآيات الثلاث التالية من رسالة السماء.
علينا ان نضع في إعتبارنا كيف ان الملاك جبرائيل بدأ خطوة خطوة في كشف تلك الدعوة الغير عادية والتي يطلبها الله من مريم. في البداية قال الملاك لمريم:” وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْنًا”(لوقا31:1)، وهذا وحده مثيراً للغاية. إذا ما علمت أي امرأة انها سيكون لها طفلا فهي مناسبة لا يمكن نسيانها ولكن القديسة مريم قريبة من ان تجد انها لن تصبح كأي أم عادية فلقد استمر الملاك ليكشف انها ستكون أعظم أم وأهم أم في تاريخ العالم لأنها ستحبل بإبن سيعيد تاريخ إسرائيل وتاريخ الجنس البشري كله الي مكانته، فإبنها سيملك على عرش داود الملك هذا الذي تنبأ عنه الأنبياء وبأنه سيعيد الشعوب الي مملكة إسرائيل ويجمع الأمم ويعيدها الي عهدهم مع الله. دعونا نقترب وننظر فيما قاله بالفعل الملاك لمريم عن ابنها:” هذَا يَكُونُ عَظِيمًا، وَابْنَ الْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ الرَّبُّ الإِلهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ، وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ»(لوقا32:1-33).
ان مثل تلك الكلمات ستكون مألوفة جدا لكثيرين من اليهود في القرن الأول الميلادي لأنها صدى لنص في العهد القديم هام جداً عن مملكة داود كما جاء في سفر صموئيل الثاني الإصحاح السابع عندما وعد الله داود بمملكة ابدية “وَكُنْتُ مَعَكَ حَيْثُمَا تَوَجَّهْتَ، وَقَرَضْتُ جَمِيعَ أَعْدَائِكَ مِنْ أَمَامِكَ، وَعَمِلْتُ لَكَ اسْمًا عَظِيمًا كَاسْمِ الْعُظَمَاءِ الَّذِينَ فِي الأَرْضِ.” (2صموئيا9:7) و”مَتَى كَمُلَتْ أَيَّامُكَ وَاضْطَجَعْتَ مَعَ آبَائِكَ، أُقِيمُ بَعْدَكَ نَسْلَكَ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ أَحْشَائِكَ وَأُثَبِّتُ مَمْلَكَتَهُ. هُوَ يَبْنِي بَيْتًا لاسْمِي، وَأَنَا أُثَبِّتُ كُرْسِيَّ مَمْلَكَتِهِ إِلَى الأَبَدِ. أَنَا أَكُونُ لَهُ أَبًا وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ابْنًا. إِنْ تَعَوَّجَ أُؤَدِّبْهُ بِقَضِيبِ النَّاسِ وَبِضَرَبَاتِ بَنِي آدَمَ.”(2صموئيل12:7-14).
تأمل في التشابه العجيب ما بين نص سفر صموئيل النبي (2صموئيل 7) وما قاله الملاك جبرائيل عن إبن مريم كما جاء في انجيل لوقا (32:1).كما قيل لداود ان اسمه سيكون “عظيما” (2صموئيل9:7) هكذا قال الملاك لمريم ان طفلها سيكون “عظيما”(لوقا31:1). وكما ان التسلسل النسبي لداود وُصف بعلاقة فريدة بين أب وإبن مع الله (2صموئيل14:7) هكذا يسوع سيدعى ابن العليّ (لوقا32:1)، وكوعد الله من انه سيؤسس ويثبت عرش مملكة داود للأبد (2صموئيل13:6)، هكذا سيعطي الرب عرش داود ابيه ليسوع (لوقا32:1)، وكما قال الله لداود ان مملكته ستثبت الى الأبد (2صموئيل 16:7) وهكذا قال جبرائيل في بشارته لمريم ان ابنها سيملك على بيت يعقوب للأبد ولن يكون لملكه نهاية (لوقا33:1).
هكذا فإن وصف الملاك جبرائيل لطفل مريم يصرخ بوعد الله الذي صنعه مع مملكة داود وإعادة التذكرة بموضوعات داودية عن العظمة والبنوة والعرش والبيت ومملكة آبدية فهنا يشير جبرائيل ان مريم ستحمل ابن ملكي لداود والذي سوف يتمم وعود الله لداود عن مملكة لا تزول. يقول اليهود ان ذلك الطفل قد طال إنتظاره وهو الممسوح ولذا فيطلقون عليه “المسيّا المنتظر”.
كلما بدأ ينكشف عن تلك الرسالة المسيانية ستصبح مريم أكثر شوقا لأن تعرف أكثر وأكثر ولذا فلقد تساءلت كيف وهي عذراء يمكنها ان يكون لها طفل وهي لا تعرف رجلا”«كَيْفَ يَكُونُ هذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلًا؟»(لوقا34:1)، وللإجابة أعطاها الملاك جبرائيل الصورة الكاملة كيف سيتم ذلك الأمر الغير عادي فقال لها:«اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذلِكَ أَيْضًا الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ”(لوقا35:1).
تلك الكلمات كشفت الأصل الإلهي لذلك الطفل، وعلمت مريم انها لن تحبل من خلال علاقة جنسية طبيعية ولكن بالروح القدس. انه لم يكن على الإطلاق حبل مثل ذلك من قبل ويفوق كل تصور وقال لها الملاك جبرائيل ان طفلها سيُدعى “إبن الله” -ليس تماما بالإشارة الي وظيفته كمسيّا أومجازيا لسلالة الملك داود كإبن لله كما جاء “أَنَا أَكُونُ لَهُ أَبًا وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ابْنًا”(2 صموئيل 14:7). ان طفل مريم هنا سيدعى إبن الله فيما يتعلق بالحبل به من الروح القدس.
ان كل هذا ليس من السهل استيعابه من محادثة قصيرة مع الملاك والإشارة الوحيدة التي عرفناها عن تلك اللحظات المحورية وخبرة مريم قبل التجسد هو تلك الكلمات واجابتها:” «هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ»(لوقا38:1).
إن إجابة القديسة مريم لرسالة الملاك جبرائيل فريدة في كل التاريخ الأنجيلي، ففي مشاهد البشارة بالميلاد ومشاهد للدعوة كما جاءت في العهد القديم كان الله او رسوله السماوي يتكلم في نهاية البشرى او الدعوة قبل ان يغادر المكان. إبراهيم وسارة وزكريا ووالداي شمشون مثلا لم يعطوا مقولة عظيمة بموافقتهم بعد استقبالهم للبشارة عن أبنائهم، وكذلك أيضا موسى او جدعون عندما دعاهم الله للمهمة التي اختارها لهما. وقفت القديسة مريم لتعطي اخر كلمة في الحوار الذي دار مع الملاك وكلمات الموافقة والرضا يكشف كثيرا عن رغبة مريم ان تخدم الله.
هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ»(لوقا38:1). هنا أولا وصفت مريم نفسها على انها شخص ما قد سلّم نفسه بالكامل وسلّم أيضا حريته فسلّمت بكل تواضع حريتها. ان الكلمة اليونانية هنا والتي استخدمتها مريم ترجمت “آمة” (handmaid) او doule والتي في الحقيقة تعني خادم او عبد – شخص ما هو بالكامل ملك شخص آخر يمكنه ان يفعل به ما يشاء. هذا التعبير استخدم في العهد الجديد ليصف من هم قبلوا سلطة الله في حياتهم ليخدموا مشيئته “ وَعَلَى عَبِيدِي أَيْضًا وَإِمَائِي”(اعمال18:2) و” وَامْنَحْ عَبِيدَكَ أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِكَلاَمِكَ”(اعمال29:4) و ” «هؤُلاَءِ النَّاسُ هُمْ عَبِيدُ اللهِ الْعَلِيِّ”(اعمال17:16). كذلك القديس بولس تكلم عن نفسه بأنه عبد للمسيح: “بُولُسُ، عَبْدٌ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ“(رومية 1:1) و(فيليبي1:1) و(غلاطية 10:1) وأيضا عبد لله:” بُولُسُ، عَبْدُ اللهِ، وَرَسُولُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ”(تيطس1:1).
هذا هو التعبير الذي استخدمته القديسة مريم لتصف نفسها من انها عبدة doule – خادمة للرب واهبة نفسها بكليتها لتميم رغبات الله. لقد سمعت من الملاك كل ما يخططه الله لها واستجابت بوضع حياتها كلها في يد الله. انها لم تفكر ان تلك المهمة لنفسها هي ولكن وجدت نفسها مختارة وموكل اليها شيئا عظيما لمجد الله الأعظم. كخادمة للرب اختارت ان لا تستخدم حياتها لأغراضها الشخصية ولكن حسب مشيئة الله. لقد وجدت مريم نفسها الآن أسيرة الي خطة الله الذي يريد خلاص البشرية ولقد سئلت ان تعطي نفسها ومستقبلها كله ” للروح القدس.. وقوة العليّ”. كان يمكنها ان تبقى هي المتحكمة وصاحبة الأمر ولكن بدلا من ذلك وضعت نفسها ملكا للرب وطرقه كتعبير حقيقي وعملي عن إيمانها «هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ». ان قبولهالتلك الدعوة جعلها حسب رواية انجيل لوقا اول شخص يخاطر بكل شيئ من أجل يسوع المسيح وتكون اول المؤمنين به. ان هذا هو المفتاح داخل فكر وقلب مريم “الإيمان العملي” والذي سيُمدح فيما بعد من الروح القدس على لسان القديسة اليصابات”فَطُوبَى لِلَّتِي آمَنَتْ أَنْ يَتِمَّ مَا قِيلَ لَهَا مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ»(لوقا45:1).
ان مريم قد استسلمت وسلّمت ذلك التحكم ووضعت حياتها في يد الله بكاملها. انها ترغب ان تفعل مهما يريد الله منها ان تفعله وأن تذهب في أي مكان حيث يقودها هو. لقد رأت ان الحرية البشرية ليست شيئا يمكن ان تأخذ منه كيفما تريد او شيئا يمكن استخدامه فقط لأغراضها ورغباتها هي الشخصية ولكن كعطيّة تردها الي الله وتستخدم لخطته هو. بهذا اختارت بحرية ان تسلّم التحكم في حياتها وتحيا كعبدة – Doule- للرب واثقة كل الثقة في خطته من أجلها. في تعبير آخر لقد اختارت بحرية ان تحد حريتها وتحيا كاملة لخدمة مشيئة الله. انها تحيا حياتها كعطية من الله والى الله بكليتها.
|
|
|
|