اللحظة الأخيرة
انتهى القديس من وصيته الأخيرة لتلميذيه ، فتقدما وعانقاه والدموع تتساقط من أعينهما والحزن مرتسم على وجهيهما ثم جثيا يصليان فى رهبة وخشوع !
هنا بسط القديس رجليه ورقد بالرب مقابلا الموت بابتهاج ، وكانت إسارات الفرح بادية على محياه ، وقد وافق انتقاله اليوم الثانى والعشرين من شهر طوبة سنة 356 م .
فابتدأ التلميذان فى توديع أبيهما قائلين :
وداعا يا أبا الرهبان وكوكب البرية !
وداعا يا من رسمت طريق الجهاد فى الحياة النسكية
وداعا يا من حولت البرية المقفرة إلى فراديس روحية
لقد حوربت فصبرت وجاهدت فانتصرت
تجمع الشياطين حولك فما استطاعوا أن يفلوا من عزمك !
وتجمهر الأبالسة ضدك فشتتهم بقوة ثباتك وإيمانك !
عشقنا العذوبة من أجلك وطاب لنا المقام بقربك ..
كنت لنا هاديا ، ولطلباتنا ملبيا ولجميع روادك طبيبا شافيا ...
وحتى فى آخر لحظاتك لم يتخل علينا بعظاتك وارشاداتك
وها نحن نعدك أن نسلك مسلكك ونسير على منوالك
محافظين على أوامرك حتى نلقاك فى سمائك
وداعا يا أبانا الحبيب ! ..... وداعا .... وداعا ..... !!
+ + +
ختمت حياة الأنبا انطونيوس الأرضية فانطلق توا إلى الراحة الدائمة ، حيث يتمتع بالأمجاد وينال عربون الجهاد ، " إذ طوبى للأموات الذين يموتون فى الرب منذ الآن ، نعم يقول الروح لكى يستريحوا من أتعابهم وأعمالهم تتبعهم " ( رؤ 14 : 13 ) .
وما أعظم ذلك الأنسان الذى يقابل الموت بصدر رحب دون خوف ولا وجل مشاركا رسول الجهاد قائلا : " لى الحياة هى المسيح والموت ربح ، ولى اشتهاء أن انطلق واكون مع المسيح ذاك أفضل جدا " ( فى 1 : 21 ، 22 ) .
أين جسد القديس ؟ !
قام التلميذان مكاريوس واماتاس بتكفين جسد أبيهما ثم وارياه التراب ، محتفظين بوصيته فى ابقاء مكان قبره سرا مكتوما بينهما ! ووزعا تركته كما أمر قبل انتقاله بعد أن احتفظا لنفسيهما بمسحيه معتبرين أنهما أعظم ذخيرة من أبيهما تذكرهما بقداسته وبره وجهاده ونسكياته وتحفزهما على اقتفاء أثره والعمل بما سمعاه من درره .
ومن الثابت أن جسد الأنبا انطونيوس لا زال فى موضعه الذى دفن فيه فى الصحراء الشرقية حيث يقيم ديره الحامل اسمه الآن ، غير أن الكنيسة الغربية زعمت أن جسد القديس قد انتقل إلى الأسكندرية عام 527 م حيث بقى ما يقرب من 138 سنة نقل بعدها إلى مدينة القسطنطينية سنة 668 م ثم إلى فرنسا عام 1070 م حيث بنيت هناك كنيسة بديعة فى ابروشية غرنويل كرسها كاليستوس الثانى بابا روما بنفسه ووضع ذخائر القديس فيها " .
ونحن إذ نعرض لقولهم هذا نرى أنه منقوص من أساسه للأسباب الآتية :
أولا : يتبين لنا من وصية القديس انطونيوس لتلميذيه مكاريوس واماتاس حرصه الشديد على أن يبقى موضع قبره فى طى الكتمان وهاكم نص وصيته لهما كما دونها القديس أثناسيوس الرسولى معاصره وكاتب سيرته قال :
" إن كانت أفكاركما متعلقة بى وتذكراننى كأب فلا تسمحا لأنسان أن يأخذ جسدى وينقله إلى مصر لئلا يحفظونى ويدعونى فى بيوتهم حسب عادتهم .... فاحفروا قبرا وادفنانى فيه واخفيا جثتى تحت الثرى وحافظا على كلامى هذا كل المحافظة ولا تقولا لأحد أين وضعتمانى وسأبقى هنالك حتى قيامة الأموات ! وحينئذ آخذ هذا الجسد بلا فساد ! " ... ( سيرة القديس للأنبا أثناسيوس الرسولى ) – ولقد أثبت المدعين فى كتبهم نفس هذه الأقوال .
ونحن من ناحيتنا نستبعد قيام هذين التلميذين القديسين بإفشاء سر إئتمنهما عليه أبيهما أمام الله .
ثانيا : فى الوقت الذى ذكره المدعين لظهور جسد القديس فيه كانت الرهبنة فى مصر مزدهرة يانعة وكانت ديارات القديس نفسه زاخرة برهبانه ، وليس من المعقول أن يسمح هؤلاء جميعا لرجل غريب فى السطو والأستيلاء على جسد أبيهم .
ثالثا : كيف ينقل الجسد ويبقى فى الأسكندرية مدة 138 سنة دون أن يشعر الناس بالأمر ؟
رابعا : مع أن القديس الأنبا بولا أول السواح لم يوصى بإخفاء مكان قبره ، إلا أن الأنبا انطونيوس بعد ما دفنه قابل الأنبا أثناسيوس الرسولى البطريرك وأعلمه بالأمر فأرسل الأخير رجالا ليحملوا جسد الأنبا بولا إلى الأسكندرية ، غير أنهم رغم تحديد المكان بقى الرجال أياما كثيرة يبحثون دون جدوى ! وأخيرا ظهر الأنبا بولا للبطريرك فى رؤيا وأعلمه أن الرب لا يشأ ظهور جسده وإن رجاله سيتعبون عبثا ، فارسل الرسولى واستدعاهم ثانية .
فإذا كان هذا قد حدث حول جسد الأنبا بولا ، فما بالك بجسد انطونيوس ؟ !
خامسا : عندما نقل جسد القديس مرقس الرسول كاروز الديار المصرية إلى مدينة البندقية فى القرن التاسع لم تتوانى الكنيسة ولا التاريخ قط عن إثبات ذلك والأعتراف به فى صراحة تامة ، فأين كانت الكنيسة والتاريخ عندما نقل جسد القديس انطونيوس ؟ إذا سلمنا جدلا برواية المدعين ! .
سادسا : أثبت كثير من الكتاب والمؤرخين دحض هذا الأدعاء الغربى نذكر منهم أثناسيوس الرسولى وسيرابيون أسقف دندرة وأبو صالح الأرمنى الذين أوضحوا أن جسد القديس مدفونا فى كنيسته الأثرية داخل الدير .
قال المتنيح القمص منسى يوحنا فى كتابه تاريخ الكنيسة القبطية ما نصه : " وقد دفن جسد القديس الطاهر أمام باب الهيكل القبلى بالكنيسة التى بناها فى حياته بإسم السيدة العذراء وسميت بعد ذلك بإسمه ولم نزل حتى اليوم تضم ذلك الجسد الكريم داخل دير عظيم شيد فى أيام الأنبا انطونيوس بجوار مغارته بجبل العربة " .
لقد اهتدى الكثيرون إلى الأيمان المسيحى من سيرة القديس العظيم وأبرزهم القديس أوغسطينوس الذى تأثر كثيرا على فرط ما سمع عنه وقال : " ها هوذا الأنام الجهلاء يختطفون السماء ونحن المفتخرين بالعلوم نستمر على الأرض مكبلين ! فلم لا نقتدى بهم ؟ ! " .
كان القديس العظيم الأنبا أنطونيوس :
رجل اعتزال عن العالم وغناه ومباهجه ....
وكان رجل احتمال ..
ورجل دخل من الباب الضيق ...
ورجل اتضاع ...
ثم هو رجل النصرة أيضا
مقتطفات من رسائل القديس أنطونيوس
هذه المقالات للقديس أنبا أنطونيوس ، بسيطة غاية البساطة ، وعميقة غاية العمق ، تتناسب مع كل قامة روحية :
- فالبعيد عن الله تحذره ثم تناديه بلطف وتشجيع منقطع النظير .
- والذى ابتدأ الطريق ولا يزال على السطح توعيه وتفتح بصيرته ، لينتقل بغاية السهولة إلى العمق .
- والذين اتخذوا طريقهم بحزم وعزم فهى ترقى بهم فوق الصعاب ، وتنير أمامهم مفاهيم جديدة ، تزيدهم إحساسا بالتقوى والغيرة ، وتلهب قلوبهم للأمساك بدرب القديسين .
إن هذه الرسائل هى دستور السعى فى طريق الخلاص ، وأنها تحمل روح أنطونيوس حقا وفعلا ، إن صدق هذا القول يتضح من القراءة والتأمل الروحى فى هذه الرسائل .
الرسالة الأولى : رسالة أنطونيوس المتوحد ورئيس المتوحدين إلى الأخوة بكل موضع :
" قبل كل شىء أهدى محبتكم السلام بالرب ..
على ما أرى ، أن النفوس التى تأتى إلى محبة الله سواء كانوا رجــالاأو نساءا ، هم ثلاث رتب
الدعوة الأولى : هناك الذين أتت إليهم الدعوة بناموس المحبة الذى فى طبيعتهم ، الذى غرسه فيهم الصلاح الأصلى ، عند خلقتهم الأولى ، وحين بلغتهم كلمة الله لم يشكوا مطلقا ، بل قبلوها باستعداد الطاعة ، كما كان أبونا ابراهيم رئيس الآباء : لأن الرب لما رأى أنه ليس بتوسط تعليم الناس تعلم أن يحب اللــــه ، بل من الناموس المغروس فى طبيعته منذ بدء خلقته ، ظهر له الله وقال : " أخرج من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التى أريك " ( تك 12 : 20 ) ، فخرج بدون تشكك واذ كان مستعدا لقبول الدعوة ، وصار مثالا لهذه الدعوة التى ما زالت ثابتة للذين يتبعون خطواته ، فهم إذ يجاهدون ساعين وراء مخافة الله بالصبر والهدوء يدركون المسيرة الصادقة التى للحياة لأن نفوسهم تكون مستعدة أن تتبع حب الله ، وهذا هو النوع الأول من الدعوة .
الدعوة الثانية : هى هذه ؛ هم الذين المكتوب يشهد لهم عن العذابات والآلام المعدة للأشرار ، والمواعيد المعدة لمن يسلك كما يحق فى خوف الله ، وبهذه الشهادات المكتوبة فى الناموس تتيقظ نياتهم ويطلبون الدخول فى هذه الدعوة ، كما يشهد داود حين يقول " ناموس الرب بلا عيب يرد النفوس ، شهادات الرب صادقة تعطى حكمة للبسطاء " ( مز 19 : 7 ) . وفى مكان آخر " إعلان أقوالك ينير ويفهم البسطاء " ( مز 119 : 130 ) ، ومثل هذا كثير لا نستطيع أن نذكره كله الآن .
الدعوة الثالثة : هناك نفوس كانت قلوبهم قاسية فى البداية وداوموا على فعل الخطية ؛ والله الصالح فى رحمته يطلق على مثل هذه النفوس المحن والشدائد للتأديب ، حتى يتذللوا ويعودوا إلى صوابهم ، ويرجعوا ويقتربوا ويدخلوا إلى المعرفة ، ويتوبوا بكل قلوبهم ، ويدركوا أيضا السيرة الصادقة التى للحياة ، مثل أولئك الذين تكلمنا عنهم من قبل .
هذه هى الدعوات الثلاثة التى بواسطتها تأتى النفوس إلى التوبة ، حتى تنال نعمة ودعوة أبن اللــــه .
والآن ، بالنسبة للذين دخلوا بكل قلوبهم ، واقتنوا فى نفوسهم بغضة لكل شهوات الجسد ، ثابتين بعزم مقابل كل الحروب التى تثور عليهم حتى يغلبوا ، أرى أنه قبل كل شىء يدعوهم الروح ويجعل الجهاد خفيفا عليهم ، ويحلى لهم أعمال التوبة ، ويعلمهم كيف ينبغى أن يتوبوا بالجسد وبالنفس ، حتى يبلغ بهم إلى التحول الكامل نحو الله خالقهم ، ويسلمهم أعمالا بها يغصبون نفسهم ويقمعون جسدهم حتى يتقدسا كلاهما ويدخلا معا إلى ميراثهم .
وأولا يتطهر الجسد بالصوم الكثير ، والسهر والصلوات ، والخدم التى بها يقمع الأنسان جسده ، ويقطع من نفسه كل شهوات اللحم . وروح التوبة تكون مرشدة له فى هذه الأمور ، وتختبره بواسطتها ، لئلا يجعله العدو يرجع إلى ورائه .
فى نهاية الرسالة الأولى :
يقول القديس أنطونيوس :
" .......... فإن أسلمت النفس ذاتها لله من كل قلبها ، فإن الله يتحنن عليها ويمنحها روح التوبة الذى يشهد لها على كل خطية ، لكى لا تدنوا منها مرة أخرى . ويظهر لها أولئك الذين يقومون ضدها ويطلبون أن يعوقوها عن أن تفصل نفسها منهم ، ويقاومونها بشدة لكى لا تثبت فى التوبة ، فإن احتملت وداومت على طاعة الروح الذى يشير عليها بالتوبة ، فإن الخالق يفاجئها ويتحنن على أتعاب توبتها ، ناظرا إلى أتعاب الجسد فى الصلوات الدائمة والصوم الكثير والتضرعات والهذيذ فى كلام الله ، والتجرد من العالم ، والتواضع والدموع ومداومة التذلل
حينئذ إذ يرى الله الرحوم تعبها وخضوعها يتراءف عليها ويخلصها ".
+ + +
الرسالة الثانيــــــة:
إخوتى الأحباء المكرمين : أنا انطونيوس أهديكم السلام فى الرب
حقا أيها الأحباء بالرب أنه ليس فى وقت واحد فقط يفتقد الله خليقته ، بل منذ بداية العالم فإن كل من يأتى إلى خالق الكل بناموس عهده المغروس فيهم ، يكون الله حاضرا مع كل واحد منهم بصلاحه ونعمته بالروح القدس .
أما بالنسبة للطبائع الناطقة الذين برد فيهم العهد ، وانطفأ إدراكهم العقلى ، حتى أنهم لم يعودوا قادرين أن يعرفوا نفوسهم بحسب حالتهم الأولى ، فعن هؤلاء أقول أنهم أصبحوا جميعا بلا عقل ، فعبدوا المخلوقات دون الخالق .
لكن خالق الكل افتقدنا ، بصلاحه ، بناموس العهد المغروس فينا ، لأنه جوهر خالد ، والذين استحقوا الله ، وسعوا بناموسه المغروس ( فيهم ) ، وتعلموا من الروح القدس ، وقبلوا روح البنوة ، هؤلاء استطاعوا أن يعبدوا خالقهم كما يجب ، الذين يقول عنهم القديس بولس : أنهم " لم ينالوا الوعد بسببنا – أى لئلا يكملوا بدوننا – ( عب 11 : 39 ) .
والله خالق الكل ، الذى لا يندم على محبته ، أراد أن يفتقد ضعفنا وحيرتنا ، فأقام موسى معطى الناموس ، الذى أعطانا الناموس مكتوبا ، ووضع لنا أساس بيت الحق ، الذى هو الكنيسة الجامعة التى تجعلنا واحدا فى الله ؛ لأنه أراد أن يردنا إلى خلقتنا الأولى . فبنى موسى البيت ، ولكنه لم يكمله بل تركه ومضى . فأقام الله جماعة الأنبياء بروحه ، فبنوا هم أيضا على الأساس الذى وضعه موسى ، ولكنهم لم يقدروا أن يكملوا البيت ، بل تركوه ومضوا مثله .
وجميعهم إذ كانوا متسربلين بالروح رأوا أن الجرح ليس له شفاء ، وأنه لا أحد من الخلائق يقدر أن يشفيه ما خلا الأبن الوحيد ، الذى هو عقل الآب وصورته ، والذى على مثال صورته صنع كل خليقة ناطقة . لأنهم علموا أن المخلص هو الطبيب العظيم ، فاجتمعوا معا جميعهم ، وتضرعوا بالصلاة من أجل أعضائهم أى من أجلنا نحن ، وصرخوا قائلين : " أليس بلسان فى جلعاد أم ليس هناك طبيب ، فلماذا لم يأت شفاء إبنة شعبى " ( أر 8 : 22 ) ، " داويناهم فلم تشف دعوها ولنذهب عنها " ( أر 51 : 9 ) .
ولكن الله فى محبته الحقيقية الغنية أتى إلينا ، قائلا بواسطة القديسين : " يا أبن الأنسان اتخذ لنفسك آنية السبى " ( خر 12 : 13 ) .
وهو " إذ كان فى صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلا لله ، لكنه أخلى نفسه آخذا صورة عبد ... وأطاع حتى الموت موت الصليب لذلك رفعه الله أيضا وأعطاه إسما فوق كل أسم لكى تجثو باسم يسوع كل ركبة مما فى السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب " ( فى 2 : 6 – 11 ) .
فالآن أيها الأحباء ، ليكن هذا الكلام ظاهرا لكم ، أن الآب فى صلاحه لم يشفق على أبنه الوحيد لأجلنا بل أسلمه من أجل خلاصنا أجمعين ( رو 8 : 32 ) ،" فبذل ذاته لأجل خطايانا " ( غل 1 : 4 ) ، وآثامنا واضعته ، " وبجلداته شفينا " ( أش 53 : 5 ) ، وبكلمة قدرته جمعنا من كل الأقطار ، من أقصى الأرض إلى أدناها ، وصار قيامة لعقولنا ، ومحوا لخطايانا ، وعلمنا أننا أعضاء بعضنا للبعض .
فأطلب إليكم أيها الأخوة ، أن تفهموا هذا التدبير العظيم ، أنه تشبه بنا فى كل شىء ما خلا الخطية ( عب 4 : 15 ) ، والواجب على جميع الطبائع الناطقة الذين من أجلهم خاصة جاء المخلص ، أن يفحصوا المثال ويعرفوا فكره ، ويميزوا بين الخير والشر ، حتى يصيروا أحرارا بمجيئه ، فالذين قد تحرروا بتدبيره ، دعوا عبيدا لله ، وهذا ليس هو الكمال بعد ، بل فى وقته هو البر ، ويقود إلى تبنى البنين .
فى نهاية الرسالة الثانية :
يقول القديس أنطونيوس :
" ......... فليكن هذا الكلام ظاهرا لكم ، أيها الأحباء : أن الذى لم يستعد أن يقوم نفسه ولم يتعب بكل قوته ، ليعلم مثل هذا أن مجىء المخلص سيكون له للدينونة لأنه لقوم " رائحة موت للموت " ، ولقوم " رائحة حياة للحياة " ( 2 كو 2 : 16 ) . لأنه قد وضع لسقوط وقيام كثيرين فى اسرائيل ، ولعلامة تقاوم " ( لو 2 : 34 ) فأطلب إليكم ، أيها الأحباء ، بأسم يسوع المسيح ، أن لا تهملوا خلاصكم ، بل فليمزق كل واحد منكم قلبه لا ثيابه ( يوئيل 2 : 3 ) ، لئلا نكون قد لبسنا هذا الزى الرهبانى باطلا ، ونعد لنفوسنا دينونة ، لأنه الآن قد قرب الزمان الذى تمتحن فيه أعمال كل واحد منا .
ولشرح ما أقولـه ، هناك أشياء أخرى كثيرة لأكتبها لكم ، ولكنه مكتوب " إعط الحكيم فرصة فيزداد حكمة " ( أم 9 : 9 ) .
أهديكم السلام جميعا من الصغير إلى الكبير ، وإله السلام يحفظكم جميعا أيها الأحباء ، آمين .
الرسالة الثالثة :
إن الأنسان الناطق الذى أعد نفسه لكى يعتق بمجىء يسوع ، يعرف ذاته فى جوهره العقلى ، لأن الذى يعرف نفسه يعرف تدابير الخالق وكل ما يعمله بين خلائقه .
أيها الأحباء بالرب ، أعضائنا ، وشركاء الميراث مع القديسين : أطلب إليكم فى أسم يسوع المسيح ، أن يعطيكم الرب روح افراز ، لكى تدركوا وتعلموا عظم المحبة التى لى نحوكم ، وأنها ليست محبة جسدانية بل محبة روحانية إلهية .
لأنه بالنسبة لأسمائكم الجسدانية ؛ ما كان هناك حاجة لنكتب إليكم مطلقا إذ أنها زائلة ، إذا عرف الأنسان اسمه الحقيقى ، فهو ينظر أيضا أسم الحق . ولهذا السبب أيضا كان يعقوب يصارع مع الملاك طول الليل ، وكان أسمه ما زال يعقوب ؛ ولكن لما كان الصباح ، دعى أسمه إسرائيل ، الذى يعنى " العقل الناظر اللـــــه " ( تك 32 : 24 – 30 ) .
وأنا أعلم أنكم لستم تجهلون أن أعداء الفضيلة هم دائما يتآمرون على الحق ، ولهذا السبب ليس مرو واحدة أفتقد الله خلائقه ، ولكن منذ البدء كان هناك البعض ممن استعدوا أن يأتوا إلى خالقهم بناموس عهده الثابت فيهم ، إذ قد تعلموا أن بعبدوا خالقهم كما يجب .
ولكن لسبب كثرة الضعف وثقل الجسد والأهتمامات الشريرة جف الناموس المغروس فيهم ، وضعفت حواس النفس ، حتى أن الناس لم يقدروا أن يدركوا نفوسهم كما هى على حقيقتها بحسب خلقتها ، أى فى جوهرها عادم الموت الذى لا ينحل مع الجسد ، وهذا الجوهر لم يكن ممكنا أن ينعتق ببره الخاص . ولهذا السبب تعامل الله معهم بحسب صلاحه ، بكتابة الناموس ، ليعلمهم أن يسجدوا للآب كما يجب .
الله واحد ، أى بوحدانية الجوهر العقلى ، وينبغى أن تفهموا هذا أيها الأحباء ، أنه فى كل المواضع حيث لا يوجد الوفاق ، يشن الناس الحروب على أنفسهم ويقيمون القضايا فيما بينهم .
" ......... فمنذ الآن أيضا سنكف عن أن نطلب يسوع لأجل حاجات جسدية ، إن مجىء يسوع يعيننا لكى نعمل ما هو صالح ، إلى أن نبطل كل شرورنا ، وعند ذلك يقول لنا يسوع " منذ الآن لست أدعوكم عبيدا بل إخوة " ( يو 15 : 15 ) . وعندما نال الرسل روح التبنى ، حينئذ علمهم الروح القدس أن يسجدوا للآب كما يجب .
فى نهاية الرسالة الثالثة :
يقول القديس أنطونيوس :
" ...... أما أنا المسكين ، أسير يسوع ، فهذا الوقت الذى صرنا إليه جلب لى سرورا ونوحا وبكاءا ، إذ أن كثيرين من جيلنا لبسوا ثياب التقوى ولكنهم أنكروا قوتها ، فبالنسبة للذين أعدوا نفوسهم لكى يتحرروا بمجىء يسوع ، فأنا أسر بهؤلاء ، أما أولئك الذين يهتمون بأسم يسوع ومع ذلك يصنعون إرادة قلوبهم وأجسادهم ، فأنا على هؤلاء أنوح ، والذين تطلعوا إلى طول الزمان ، فخارت قلوبهم وطرحوا ثوب العبادة ، وصاروا وحوشا ( كالبهائم ) ، فلأجل هؤلاء أنا أبكى ، واعلموا إذن أن مجىء يسوع لمثل هؤلاء الناس سيكون دينونة عظيمة .
فهل عرفتم نفوسكم ، أيها الأحباء بالرب ، لكى تعلموا مقدار هذا الزمان وتستعدوا أن تقدموا نفوسكم ذبيحة مقبولة للـــــــــه .
يا أحبائى بالرب – إنى أكتب إليكم كأناس فاهمين ، يمكنهم أن يعرفوا نفوسهم ، فأنتم تعلمون أن من يعرف نفسه يعرف الله ، ومن يعرف الله يعرف أيضا تدابيره التى يصنعها لخلائقه .
وليكن هذا الكلام ظاهرا لكم ، أن المحبة التى لى من نحوكم ليست محبة جسدانية بل محبة روحانية إلهية ، لأن الله ممجد فى مجمع قديسيه ( مز 88 : 8 ) .
فأعدوا نفوسكم إذ لكم شفعاء يطلبون إلى الله لأجل خلاصكم ، لكى يسكب فى قلوبكم تلك النار التى جاء يسوع ليلقيها على الأرض ( لو 12 : 49 ) ، لتستطيعوا أن تدربوا قلوبكم وحواسكم لتعرفوا كيف تميزوا الخير من الشر ، واليمين من الشمال ، والحقيقة من الباطل . ولأن يسوع يعلم أن الشيطان يستمد قوته من أشياء العالم المادية ، دعا تلاميذه وقال لهم " لا تكنزوا لكم كنوزا على الأرض " ، " ولا تهتموا بالغد لأن الغد يهتم بشأنه " ( مت 6 : 19 ، 34 ) .
بالحقيقة يا أحبائى ، أنتم تعلمون أنه فى زمان اعتدال الرياح يتفاخر ربان السفينة ، ولكن فى وقت اشتداد الرياح المضادة العاصفة ؛ حينئذ يظهر الربان الماهر ، فاعلموا أى وقت نحن فيه الآن .
وبخصوص شرح كلمة الحرية كان لى الكثير لأقولـه لكم ، ولكن " اعط الحكيم فرصة ليزداد حكمة " ( أم 9 : 9 ) .
أهديكم السلام ، من الصغير إلى الكبير فى الرب ، آمين .
+ + +