الكتاب الثاني
بدء الأدب المسيحي الآبائي
قانون الإيمان في الكنيسة الأولى
قانون الإيمان في العهد الجديد
الإيمان المسيحي هو حياة يمارسها العضو الحيّ خلال إتحاده مع الله في المسيح يسوع بالروح القدس داخل الكنيسة. هذه الحياة لا يحدها قانون ولا تسجلها لغة بشرية. لكن الضرورة ألزمت الكنيسة منذ انطلاقها أن تترجم إيمانها في قانون، لا لكي يحفظه الناس عن ظهر قلب أو يردده المؤمنون أثناء العبادة الليتورچية والخاصة، إنما لكي يعيشونه خبرة حيّة.
يقول القديس هيلاري[30]، نحن ملتزمون أن تنكلم بما لا يُنطق به. عوض هيام الإيمان المجرد نلتزم أن نعهد أمور الدين إلى مخاطر التعبير البشري.
لقد سأل السيد المسيح تلاميذه عن إيمانهم فيه، فاعترف بطرس أنه "هو المسيح ابن الله الحيّ" (مت ١٦ : ١٦). ولعل هذه الشهادة قدمت الفكرة الرئيسية لإيجاد قانون إيمان كنسي يعلن "حقيقة السيد المسيح المخلص". مرة أخرى جمع السيد تلاميذه وأعطاهم سلطانًا للكرازة والتعليم والعماد قائلاً: "اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس" (مت ٢٨ : ١٩)، مقدمًا لهم صيغة قانون الإيمان الثالوثي الخاص بالعماد. هكذا سجل لنا العهد الجديد صيغة الإيمان بالمسيح وصيغة الإيمان الثالوثي، هاتان الصيغتان هما جوهر إيمان الكنيسة، وحجر الزاوية لكل قانون إيمان كنسي.
فكرة تاريخية[31]
أ. إذ انطلقت الكنيسة في عصر الرسل تكرز وتبشر العالم بالخلاص كان لزامًا أن يعترف كل موعوظ بأيمانه جهرًا في صيغة مختصرة قبلما يتقبل العضوية في جسد المسيح، أي قبيل عماده مباشرة. وذلك كما فعل الخصي الأثيوبي (أع ٨ : ٣٧) حين أعلن رغبته في العماد معترفًا "أنا أؤمن أن يسوع المسيح هو ابن الله".
ظهر "قانون الإيمان الكنسي" كصيغة خاصة بالمعمودية، يعترف بها طالب العماد معلنًا قبوله الحق ودخوله "الحياة في المسيح يسوع". في الدوائر اليهودية كان يكفي لطالب العماد أن يعلن هذا القانون الإيماني البسيط أن "يسوع هو المسيا"، أي هو المخلص الذي انتظره الآباء وشهد عنه الأنبياء، فيه كملت الشريعة وتحققت مواعيد الله للبشرية. أما بالنسبة للأمم، إذ لم تكن لهم الشريعة ولا عرفوا النبوات عن المسيا يعبدون آلهة كثيرة وأرباب كثيرة، كان لزامًا على طالب العماد أن يعلن حقيقة إيمانه بأكثر وضوح: إيمانه بالله الواحد المثلث الأقانيم، وعمل المسيح الخلاصي ...
ب. إذ ظهرت غنوصيات غير أرثوذكسية تنادي بالثنائية، تحقر من المادة وتشوه حقيقة التجسد الإلهي، لم يعد "قانون الإيمان" في صورته الأولى كافيًا، أي لا يكفي إعلان أن "المسيح ابن الله الحيّ" إنما يلزم الاعتراف بـ "الحبل به من الروح القدس، ولادته من العذراء مريم، تألمه في عهد بيلاطس بنطس وموته ودفنه (وليس كما علم الغنوصيين أنه اختطف إلى السماء من على الصليب أو قبيل صلبه)، وأن الروح القدس حال في الكنيسة ...
يظهر هذا الأثر بصورة واضحة في قانون الإيمان للقديس هيبوليتس المستعمل في العماد، فقد جاء في التقليد الرسولي للقديس هيبوليتس أن طالب العماد يُسأل ثلاثة أسئلة ويجيب عليها[32]:
ينزل (طالب العماد) في الماء، ويضع المعمد يده على رأسه قائلاً: أتؤمن بالله ضابط الكل؟
يقول الذي يُعتمد: أؤمن. عندئذ يعمده دفعة (يغطسه) واضعًا يده على رأسه.
بعد ذلك يقول له: أتؤمن بيسوع المسيح ابن الله، الذي وُلد بالروح القدس من العذراء مريم ، وصُلب في عهد بيلاطس البنطي ومات وقام من الأموات حيًا في اليوم الثالث وصعد إلى السموات وجلس عن يمين الآب، هذا الذي يأتي ليدين الأحياء والأموات؟
وعندما يقول: أؤمن، يعمده دفعة أخرى.
وأيضًا يقول له: أتؤمن بالروح القدس وبالكنيسة المقدسة وقيامة الجسد؟ فيقول الله يُعتمد: أؤمن، فيُعتمد الدفعة الثالثة.
ج. إذ بدأت الهرطقات والبدع تنتشر لم يعد "قانون الإيمان" خاصًا بطالبي العماد، إنما صارت الحاجة ملحة لاستعماله الكنسي في العبادة الليتورچية والعبادة الخاصة. بدأت المجامع المسكونية تضع قانون الإيمان، لأهداف دفاعية وتعليمية. ففي مجمع نيقية وُضع قانون الإيمان يحارب الأريوسية.
فإنه وإن اقترب من قانون الإيمان الأورشليمي العمادي القديم، لكنه أضاف إلى الفقرة الثانية الخاصة بالسيد المسيح هذه الصيغة: "نون من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، واحد مع الآب في الجوهر". هذه الصيغة لا يستطيع الأريوسيون أن ينطقوا بها، فتفرزهم عن المؤمنين. بهذا قدم مجمع نيقية للكنيسة صيغة لاهوتية مبسطة تعلن إيمان الكنيسة، يعترف بها المسيحيون ويترنمون بها ويصلونها، وليست اختبارًا لطالبي العماد.
وفي المجمع المسكوني الثاني بالقسطنطينية أُضيف إلى قانون الإيمان النيقوي صيغة خاصة بالروح القدس: "الرب المحيي، المنبثق من الآب، نسجد له ونمجده مع الآب والابن، الناطق في الأنبياء ...".
بهذا صار قانون الإيمان ملخصًا للإيمان الأرثوذكسي أكثر منه اعترافا يردده طالبوا العماد.
قانون الإيمان الرسولي
Apostolic Creed
قانون أم المنسوب إلى الرسل له أهمية خاصة في الكنيسة الغربية، إذ تعتبره أساس قوانينها، كما يقول Schaff[33] "هو قانون القوانين كما أن الصلاة الربانية هي صلاة الصلوات".
هذا القانون هو صيغة مختصرة جدًا، سُجلت بلغة العامة لا باصطلاحات لاهوتية، تناسب الموعوظين كما يمكن استخدامها في العبادة الليتورچية والخاصة.
يتكون هذا القانون من إثني عشر بندًا من وحي العهد الجديد، تلخص العقيدة المسيحية ولاهوتيات الكنيسة، وتجسم تعاليم الرسل. هو رسولي بحق في محتوياته كما في روحه، ليس من وضع الرسل. هو كنسي، ليس من عمل فرد من الأفراد، لكن لا يزال تاريخه غامضًا وحقيقة مصدره غير معروفة.
شمل هذا القانون ملخصًا للحقائق الإلهية منذ بدء الخليقة حتى قيامة الجسد ودخوله الأبدية، يقدم لنا الإيمان بالثالوث القدوس ويركز أنظارنا تجاه المسيح المخلص ...
مصدره
يقول Clarke[34] أن قانون الإيمان للرسل لم يكن يتلى في صلوات باكر وصلاة النوم قبل القرن الثامن...وانه ليس إلاَّ امتداد لقانون الإيمان العمادي الروماني.
ويرى Schaff[35] أنه لم يكن موجودًا بصورته الحالية إلاَّ في القرن الرابع، لكنه وجد في القرنين الثاني والثالث بصيغة أو أخرى ...
ويرى Quastan[36] أن القانون بصورته الحالية لا يمتد إلى قبل القرن السادس، استخدم في بلاد الغال (فرنسا) وأسبانيا وأيرلندة وألمانيا في الدراسات التمهيدية الخاصة بالموعوظين.
على أي الأحوال نستطيع أن نقول مع المؤرخ شافSchaff أن قانون الإيمان للرسل جاء بلا شك نتيجة نمو تدريجي، يحمل شكلين:
1. الشكل الحالي، أو النص المسلم إلينا حاليًا، لم يظهر قبل القرن السادس أو السابع.
2. الشكل البدائي كما ورد في بعض المخطوطات القديمة، يرجع إلى القرن الثاني أو الثالث. ولعل أقدم نص يوناني وصل إلينا ما ورد في رسالة مارسيليوس من أنقرة إلى أسقف روما يوليوس الأول حوالي عام ٣٤٠م يؤكد أرثوذكسيته. وقد ورد ضمن[37] "Psalterium Aethelstani". أما النص اللاتيني فقد ذكره روفينوس[38] المؤرخ الكنسي في نهاية القرن الرابع في تعليقه على قانون إيمان الرسل Commentary on the Symbol of the Apostles موضحًا أصله، إذ يقول أن هناك تقليد بأن الرسل بعد قبولهم الروح القدس وقبل خروجهم للكرازة اتفقوا معًا على ملخص مبسط للتعليم الرسولي كأساس لكرازتهم وقانون إيمان المؤمنين.
ويبدو أن القديس أمبروسيوس شاركه نفس الرأي عند شرحه للقانون، مشيرًا إلى أن الأثني عشر بندًا تطابق الإثني عشر رسولاً.
وفي القرن السادس للمرة الأولى نلتقي بتأكيدات أن كل رسول وضع بندًا من الإثني عشر، فجاءت العظة المنسوبة للقديس أغسطينوس[39] تعلن أصله: "قال بطرس أؤمن بالله الآب ضابط الكل خالق السماء والأرض ..." وقال اندراوس "وبالمسيح يسوع ابنه الوحيد ربنا ..." وبقي هذا التفسير سائدًا خلال العصور الوسطى.
دهشت الكنيسة الغربية عندما أعلن رئيس أساقفة أفسس لليونان مارقيوس افجينيكوس Marcus Evgenicus في مجمع Ferrara عام ١٤٣٨ أن الكنائس الشرقية لا تعرف شيئًا عن صيغة هذا القانون المستخدم في الكنيسة الغربية، ولا عن نسبته للرسل.
بعد سنوات قليلة أنكر الأيطالي Lorenzo Valla نسبته للرسل.
يقول F. L. Cross[40] أن هذا القانون يخص فترة ما بعد الرسل، لكنه سمي رسوليًا لأن عناصره جميعها تعبر عن الإيمان في عصر الرسل.
حول قوانين الإيمان الأولى
يقدم لنا علم الباترولوچي الكثير من صيغ قوانين الإيمان التي جاءت خلال كتابات الآباء الشرقيين والغربيين، نذكر منها ما ورد في كتابات:
1. أيريناؤس أسقف ليون سنة ١٨٠ م
2. العلامة ترتليان قرطاجنة سنة ٢٠٠ م
3. كيريانوس قرطاجنة سنة ٢٥٠ م
4. نوفتيان روما سنة ٢٥٠ م
5. أوريجين الاسكندرية سنة ٢٥٠ م
6. غريغوريوس قيصرية الجديدة سنة ٢٧٠ م
7. لوقيانوس انطاكية سنة ٣٠٠ م
8. يوسابيوس قيصرية سنة ٣٢٥ م
9. مارسيليوس أنقرا سنة ٣٤٠ م
10. كيرلس أورشليم سنة ٣٥٠ م
11. ابيفانيوس قبرص سنة ٣٧٤ م
12. روفينوس سنة ٣٩٠ م
13. القانون الوارد في القوانين الرسولية Apostolic Constituitions
وقد امتازت النصوص الشرقية عن الغربية أنها بصورة عامة أطول وأكثر تغييرًا، لها جانب ميتا فزيقي، وتشمل عددًا من التعبيرات التعليمية ردًا على الهرطقات المنتشرة في الشرق.
وقد تجمعت القوانين الغربية لتشكل ما يعرف بقانون إيمان الرسل.
يرى Quasten أن هذا القانون الروماني والصيغ الشرقية ظهرت مستقلة عن بعضها البعض، لكنها صدرت عن أصل عام مشترك له جذروه في الشرق.
محتوياته
كانت قوانين الإيمان الأولى تضم صيغتين رئيسيتين: صيغة الإيمان الثالوثي، وصيغة الإيمان المسياني. وإن كان قانون الإيمان للرسل في صورته الحالية تطور إلى ملخص مبسط جدًا يحمل التعاليم المسيحية الجوهرية.
1. صيغة الإيمان الثالوثي
رأينا السيد المسيح يعطي تلاميذه سلطان العماد باسم الثالوث القدوس، وكان ذلك بداية ظهور قانون الإيمان العمادي بصيغة الإيمان الثالوثي. وفي حوالي عام ١٥٠م أشار القديس يوستين إلى طالبي العماد أن يتقبلوا غسل الماء "باسم الله الآب ورب المسكونة، ومخلصنا يسوع المسيح، والروح القدس[41]".
وجاءت الوثيقة المدعوة "الرسالة الرسولية Epsitola apostolorum" التي جُمعت في نفس التاريخ تقريبًا تبسط الإيمان، وتضم قانون إيمان لا يحوي فقط الإيمان بالثالوث القدوس، الآب ضابط العالم كله، المسيح يسوع مخلصنا، والروح القدس الباراقليط، إنما يضم أيضًا الإيمان بالكنيسة المقدسة وغفران الخطايا[42].
2. صيغة الإيمان المسياني
طال انتظار البشرية تترقب مجيء المسيا مخلص العالم، فجاءت المسيحية جوهر رسالتها "الشركة مع الله في المسيا المخلص". وقد رأينا اعتراف الرسول بطرس أن يسوع "هو المسيح ابن الله الحيّ"، وأعلن الخصي الأثيوبي ذات الإيمان قبيل عماده.
كان الإيمان بالمسيح المخلص هو مركز البشارة، حتى صارت "السمكة" هي الرمز للإيمان المسيحي في العالم الهليني وذلك لأنها في اليونانية (إخئيس) تشمل الحروف الأولى من العبارة "يسوع المسيح، ابن الله المخلص". وقد شهد العلامة ترتليان بذلك كما شهدت نقوش َAbercuis. وردت هذه العبارة الرمزية في مؤلفات الكتاب المسيحيين في نطاق واسع كقانون إيمان يعبر عن المعتقد المسيحي.