العظة الرابعة
السعي للملكوت الأبدي
محبة الله الشديدة للإنسان
“ينبغي على المسيحيين أن يتمموا سعيهم في هذا العالم بحرص وحذر، لكي يربحوا المديح السماوي من الله والملائكة”
1- نحن الذين نرغب أن نحيا الحياة المسيحية بكل اخلاص واصالة ينبغي قبل كل شيء آخر أن نجتهد بكل قوتنا في تربية الملكة المميزة والمفرزة في النفس (ملكة التمييز والافراز)، حتى إذا حصلنا على احساس دقيق وادراك للفرق بين الخير والشر وصرنا دائماً مميزين الاشياء الغريبة التي اختلطت بالطبيعة النقية بشكل غير طبيعي، فانه يمكننا أن نسلك باستقامة، وبلا عثرة وباستعمال قوة التمييز هذه كانها عين، يمكننا أن نحفظ انفسنا احراراً من أي ارتباط أو اتحاد، مع ايحاءات الخطية، وهكذا يمكن أن تمنح لنا الموهبة السماوية التي نصير بها أهلاً للرب.
ولنأخذ مثلاً لتوضيح ذلك من العالم المنظور، فانه يوجد تشابه بين الجسم والنفس، بين أمور الجسد وأمور النفس، وبين الأشياء المنظورة والأشياء المستترة.
تشبيه عين الجسد والسير في الغابات:
2- فالجسد له عين لترشده وتقوده. والعين، بواسطة الأبصار، تقود الجسد كله باستقامة. فتخيل انساناً يسير في مناطق غابات، مملوءة بالأشواك والأوحال، وحيث تكون هناك نار مشتعلة، وفي الأرض سيوف منتصبة وهناك أيضاً مهاوي ومياه كثيرة. فالمسافر المجد وهو مسافر حريص ذكي، استعماله قيادة عينه، يعبر تلك الأماكن الصعبة بانتباه شديد، ويرفع ملابسه من كل ناحية بيديه لئلا تتمزق من الأدغال والأشواك، أو تتلوث بالوحل أو تقطع بأحد السيوف. فعينه تقود الجسم كله. فعينه هي بمثابة نور له، تخلصه من الوقوع في المهاوي والمنحدرات، أو من الغرق في المياه وتحفظه من أي ضرر آخر. فالانسان الذي هو نشط هكذا وحذر، يسير بكل حرص، اذ يلف عباءته على جسمه لتلصق به، وكل هذا تحت قيادة عينه، فيحفظ نفسه من الأذى ويحفظ عباءته التي يلبسها من الاحتراق والتمزق. ولكن إذا كان المسافر في مثل هذه الأماكن كسولاً متوانياً ومتغافلاً وثقيلاً وغير مبالي، فان ثوبه يتهدل حوله من هنا ومن هناك، فيتمزق بواسطة الأدغال والأشواك أو يحترق بالنار لأنه لم يلفه بحزم حول جسمه ليحفظه، أو ربما يتقطع الثوب إلى قطع بواسطة السيوف المنصوبة في الطريق، أو يتلوث بالوحل - وبطريقة أو بأخرى فانه بسرعة يتلف ثوبه الجميل الجديد، وذلك لقلة حرصه واهماله وتكاسله، وإذا لم ينتبه الانتباه الجيد المناسب لما تخبره به عينه، فانه هو نفسه يسقط في حفرة أو ربما يغرق في المياه.
وبنفس الطريقة فان النفس التي تلبس رداء الجسد الحسن ككساء لها، تملك ملكة وقوة التمييز لتوجيه وقيادة النفس كلها مع الجسد، بينما هي تعبر وسط أدغال وأشواك الحياة، والوحل والنار والمهاوي التي هي الشهوات واللذات وغيرها من اشياء هذا العالم الخاطئة، ينبغي لها أن تتحزم وتصون نفسها ولباسها الذي هو الجسد بحرص وتحفظ من كل ناحية، وبحزم وغيرة وعناية، وتحفظ نفسها من أن تتمزق بأدغال وأشواك العالم - أي الهموم والانشغالات والمعوقات الأرضية ومن أن تحترق بنار الشهوة. واذ هي لابسة هكذا، فانها تحول نظرها عن رؤية المناظر الشريرة وتحول اذنها عن الانصات للمذمة، ولسانها عن التكلم بالكلام الباطل، ويديها وقدميها عن المسالك الشريرة. فالنفس لها ارادة، يمكن أن تحول بها وتحجز اعضاء الجسم عن المناظر القبيحة، وعن الأصوات الشريرة المخزية وعن الكلام البذيء وعن المساعي العالمية الشريرة.
4- وهي تحول نفسها ايضاً عن الخيالات الشريرة وتحفظ القلب لكي لا يدع أعضاء فكره تتجول في العالم. وهكذا اذ تسعى بجد واجتهاد وبحرص عظيم تضبط اعضاء الجسد من كل جهة عن كل ما هو رديء فانها تحفظ ذلك الثوب الحسن أي الجسد، غير ممزق، غير محترق، غير ملوث، وهي نفسها تحفظ بواسطة ارادة مبصرة عارفة ومميزة، وكل هذا يتم بقوة الرب، فبينما هي تجمع نفسها بكل قوتها وتتحول عن كل الشهوات العالمية فانها تنال المعونة من الرب لتحفظ حقيقة من الكوارث التي قد تكلمنا عنها. لأنه حينما ينظر الرب أي انسان يعطي ظهره بشجاعة للذات ولمعوقات الحياة الأرضية، والاهتمامات المادية والعلاقات الأرضية، ولخيالات الأفكار الباطلة، فانه يعطيه معونة نعمته الخاصة ويحفظ تلك النفس بلا سقوط، بينما هي تعبر بسمو ونبل خلال هذا "العالم الحاضر الشرير" (1 )، وهكذا تربح النفس المديح السماوي من الله والملائكة لأنها حفظت ثوب جسدها وذاتها ايضاً حسناً، معرفة بكل ما تملك من قوة عن كل شهوات العالم، وبمعونة الله نجحت بسمو في شوط سباق هذا العالم.
5- ولكن أن كان الإنسان يسير في طريقه في هذه الحياة بتراخ واهمال، وبدون حرص ولا يتحول عن كل شهوة العالم، ولا يطلب الرب - والرب وحده - بكل شوقه، فان أشواك وأدغال العالم تنغرس فيه وثوب الجسد يحترق هنا وهناك بنار الشهوة، ويتلوث بوحل اللذات، وبذلك فان النفس تحرم من الدالة (الثقة) في يوم الدينونة" (2 )، اذ انها لم تنجح في حفظ ثوبها بلا عيب، بل افسدته بأمور هذا العالم الخادعة، ولهذا السبب فانها تطرح خارج الملكوت. فما الذي يستطيع أن يفعله الله مع الإنسان الذي يسلم نفسه بارادته واختياره للعالم وينخدع بلذاته وينجذب بالمتاهات المادية؟ فالله يعطي المعونة للانسان الذي يتحول عن اللذات المادية وعن سيرته السابقة التي تعود عليها ويوجه عقله باجتهاد كل حين نحو الرب، وينكر نفسه ويطلب الرب وحده. هذا هو الإنسان الذي يعتني به الرب ويحفظه تحت عنايته الخاصة ويحرس نفسه من كل جهة، من فخاخ وشباك هذا العالم المادي، انه هو ذلك الإنسان الذي تمم خلاصه بخوف ورعدة (3 )، انه هو الذي يسير بكل حرص وسط فخاخ وشباك وشهوات هذا العالم، ويطلب نعمة الرب وعونه، ويترجى برحمته أن يخلص بالنعمة.
مثل العذارى:
6- انظر، وفكر في الخمس عذارى الحكيمات اللواتي كن ساهرات مستيقظات وقد أخذن في أوعية قلوبهن ذلك الذي لم يكن جزءاً من طبيعتهن الخاصة - وهو الزيت، الذي يعني نعمة الروح من فوق. اولئك تمكن من الدخول مع العريس إلى العرس السماوي. ولكن الآخر الخمس الجاهلات اللواتي اكتفين بطبيعتهن الخاصة فلم يتيقظن ولم يشتغلن انفسهن بنوال "زيت البهجة" (4 ) في انيتهن اثناء وجودهن في الجسد، بل غرقن كما في نوم الاهمال والتغافل والكسل والجهل، أو لادعائهن البر، ولذلك اغلق امامهن عرس الملكوت اذ لم يتمكن من ارضاء العريس السماوي. فاذ قد ربطن برباط العالم وبمحبة ارضية، لم يوجهن كل حبهن ولم يقدمن عواطفهن الحارة للعريس السماوي، فلم يزودن بالزيت. فالنفوس التي تطلب تقديس الروح الذي هو من خارج طبيعتها، تعلق حبها كله بالرب وتسير فيه، وفي الرب تصلي، وبه تنشغل افكارها، تاركين كل ما هو سواه، ولهذا السبب يحسبون اهلاً لنوال زيت النعمة السماوية، وينجحون في عبور هذه الحياة بلا سقوط مقدمين ارضاء واشباعاً كاملاً للعريس السماوي، واما النفوس التي تكتفي بما لطبيعتها الخاصة فقط فانها تهبط بفكرها على الأرض، وتنشغل افكارها على الأرض، ويكون عقلها كله في الأرض. وهي تظن في ذاتها انها تختص بالعريس وتتزين بفرائض الجسد، ولكنها غير مولودة من الروح القدس من فوق ولم تنل زيت البهجة.
7- فحواس النفس الخمس العاقلة، أن هي حصلت من فوق على النعمة وتقديس الروح كانت حفاً عذارى حكيمات حاصلات على حكمة النعمة من فوق. ولكن أن بقين في راحة مكتفيات بطبيعتهن فانهن يكن جاهلات وينكشف انهن من ابناء العالم. ولم يكن قد خلعن روح العالم، رغم انه في ظنهن انهن عرائس العريس بسبب بعض المظاهر الخاصة والشكل الخارجي. فكما أن النفوس التي تلتصق بكليتها بالرب. تكون فيه بفكرها، تصلي فيه وتسير فيه وتشتاق لمحبة الرب، هكذا من الجهة الأخرى، تلك النفوس المقيدة والمربوطة بحب العالم، تريد أن تصرف وجودها على الأرض وتسعى على الأرض وتفكر فيها وهناك يسكن ويوجد عقلها. ولهذا السبب فانهم لا يقدرون أن يتحولوا إلى حكمة الروح الصالحة التي هي غريبة عن طبيعتهن - أعني النعمة السماوية - التي يلزم أن تلتحم بطبيعتنا وتمتزج بها، لكي نستطيع الدخول مع الرب إلى عرس الملكوت السماوي ولننال الخلاص الأبدي.
8- لأنه بمعصية الإنسان الأول دخل فينا شيء غريب عن طبيعتنا، الذي هو كارثة الفساد والأهواء وقد اتخذ هذا الفساد مكانه كأنه جزء من طبيعتنا بطول العادة والميل، وهذا الشيء الغريب يجب أن يطرد ثانية بواسطة ذلك الضيف الآخر، ضيف طبيعتنا، أي موهبة الروح القدس السماوية، لكيما نستعيد النقاوة الأصلية، وان لم نحصل الآن على محبة الروح من السماء بالتضرع الكثير، والتوسل، والايمان، والصلاة، والتحول عن العالم، وان لم تلتصق طبيعتنا - التي كانت قد تلوثت بالشر - أن لم تلتصق بالمحبة، التي هي الرب، وتتقدس بمحبة الروح، وان لم نثبت إلى النهاية غير عاثرين، سالكين بجد وتدقيق في كل وصاياه، فلا يمكننا الحصول على الملكوت السماوي.
حنان الله ومحبته الشديدة للإنسان:
9- وأريد أن أتكلم بعمق ودقة في هذا الموضوع بأقصى قدراتي، فاسمعوا لي إذن بانتباه وذكاء: أن الله غير المحدود، الذي لا يدنى منه، الغير مخلوق، بصلاحه وحنانه الذي يفوق العقل، قد جسد نفسه، - وان جاز القول - صغر نفسه (أخلى نفسه) من مجده الذي لا يدنى منه، ليتمكن من الاتحاد بخلائقه المنظورة، مثل نفوس القديسين، والملائكة، وذلك حتى يستطيعوا هم أن يشتركوا في حياة اللاهوت، فإن كل واحد من هذه (الخلائق)، بحسب نوعه، هو جسم، سواء كان ملاكاً أو نفساً أو شيطاناً. وبرغم لطافة طبيعة كل منهم بحسب نوعها، فانهم في جوهرهم وصفتهم وصورتهم، لا يزالون أجساماً لطيفة، كما أن جسدنا هذا هو في جوهره جسم كثيف. وأكثر من ذلك فان النفس، التي هي لطيفة جداً، قد جمعت لنفسها العين لتنظر بها، والأذن لتسمع بها، واللسان لتتكلم به، واليد، بل وكل الجسد وأعضاؤه قد جمعتها النفس واتحدت بها، وعن طريقها تقوم بكل واجبات الحياة.
10- وبنفس الطريقة، فان الله غير المحدود، الذي يفوق الادراك، في صلاحه ورحمته، أنقص نفسه (أخلى نفسه)، وليس أعضاء هذا الجسد، متخلياً عن المجد الذي لا يدنى منه، وبرأفته ومحبته للانسان يصير هو بنفسه جسداً، ويأخذ إليه النفوس المقدسة المرضية الأمينة، ويختلط معها، بل ويصير معها روحاً واحداً، كما قال الرسول بولس (5 ) ونفساً في نفس، وان أمكن أن أقول هكذا: وجوهراً في جوهر، حتى أن النفس تستطيع أن تعيش في اتحاد، وتتذوق الحياة غير المائتة وتصير شريكة في المجد الذي لا يفسد - أعني إذا كانت النفس مؤهلة ومرضية عنده.
فان كان الله، مما لم يكن، قد خلق الخليقة المنظورة، يمثل هذا التنوع والاختلاف، وقبل أن تخلق لم يكن لها وجود - وهكذا شاء فصنع بسهولة، من العدم، جواهر كثيفة وجامدة، مثل الأرض والجبال والأشجار - وها أنت ترى مدى الصلابة التي في الطبيعة - وأيضاً خلق المياه المتوسطة، وأمر بأن تخرج منها الطيور - وصنع أيضاً مخلوقات ذات طبيعة ألطف، كالنار والرياح وأشياء أخرى تصل في لطافتها إلى حد عدم إمكان رؤيتها بعين الجسد.
11- فان كانت المهارة غير المحدودة التي لا يعبر عنها - مهارة "حكمة الله المتنوعة (6 ) تستطيع أن تخلق من العدم أجساماً كثيفة وأخرى لطيفة وأخرى ألطف جداً، كل بحسب نوع جوهره. وذلك بحسب مشيئته، فهل لا يستطيع بالأحرى جداً، ذلك الذي يفعل كما يشاء وما يشاء، وبرحمته التي لا توصف وصلاحه الذي يفوق العقل، أن يغير وينقص نفسه ويصبح مشابهاً لنا مجسماً نفسه بحسب سعة النفوس المقدسة المستحقة الأمينة، حتى انه وهو الغير منظور، يمكن أن ينظروه، وهو الغير ملموس يحسوه على حسب لطافة طبيعة النفس - ولكيما يشعروا بحلاوته ويختبروه اختباراً حقيقياً اذ يتمتعون بجمال وبهاء نوره الذي يفوق الوصف؟ وحينما يريد يصير ناراً محرقة لكل هوى خبيث دخل إلى النفس، "لأن الهنا نار آكلة" (7 ) وحينما يريد، يصير راحة لا ينطق بها ولا يعبر عنها، لكي تستريح النفس في راحة اللاهوت الخاصة، وحينما يريد يصير فرحاً وسلاماً للنفس، ومدللاً ومعانقاً لها.
12- وبالحقيقة، إذا سر الله أن يتشبه بإحدى خلائقه - لأجل بهجة وفرح خلائقه العاقلة - مثلاً كأورشليم مدينة النور، أو صهيون (8 ) الجبل السماوي، فانه يستطيع أن يفعل كل ما يريد، بحسب المكتوب "قد اتيتم إلى جبل صهيون، إلى مدينة الله الحي اورشليم السماوية" (9 )، فكل الاشياء سهلة ويسيرة عنده، وقد يتشكل بأي شكل يختاره لأجل منفعة النفوس الأمينة التي تستحقه. فليسعى الإنسان فقط، أن يكون صديقاً له ومرضياً اياه، فيرى في اختبار وشعور حقيقي، الخيرات السماوية، ومباهج اللاهوت التي لا يعبر عنها وغناه غير المحدود، "الذي لم تره عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر" ( 10)، أعني روح الرب، الذي يجعل نفسه راحة وفرحاً للنفوس المستحقة وبهجتها وحياتها الأبدية. لأن الرب يجسم نفسه حتى في الطعام والشراب كما هو مكتوب في الانجيل "من يأكل من هذا الخبز يحيا إلى الأبد" (11 )، لكي يعطي النفس راحة لا ينطق بها، ويملأها بهجة روحانية، لنه هو يقول "أنا هو خبز الحياة" ( 12) وهو يجسم نفسه في شراب الينبوع السماوي، كما يقول "كل من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية" ( 13)، وأيضاً يقول الرسول "وجميعنا سقينا شراباً واحداً"( 14).
ظهورات الله المتنوعة للنفوس:
13- وقد ظهر لكل واحد من الآباء القدسين بالطريقة التى أرادهاوأستحسنها لهم - فظهر لأبراهيم بطريقة ولإسحق بطريقة وليعقوب بطريقة غيرها، وبغيرها لنوح، ولدانيال، ولداود، ولسليمان، ولأشعياء، ولكل واحد من الآنبياء القدسين - وبطريقة لأيليا، وبأخرى لموسى. وفي أعتقادى أن موسى في كل ساعة على الجبل طوال صوم الأربعين يوماً، كان يقترب إلى تلك المائدة الروحانية ويتلذذ بها متمتعاً ببهجتها. وظهر لكل واحد من القدسين، بحسب ما شاء هو، ليعطيهم راحتاً وخلاصاً وليقودهم إلى معرفة الله.وأي شيء يشاؤه هو سهل عنده. فكما يريد، فهو ينقص نفسه ببعض التجسيم، ويصير نفسه قابلاً لأن تنظره عيون أولئك الذين يحبونه، مظهراً نفسه، لأولئك الذين يستحقون، في مجد نور لا يدنى منه، وذلك بحسب محبته العظيمة والتى لا ينطق بها، وبواسطة قوته الخاصة. والنفس التي حسبت أهلاً، بأشتياق شديد وأنتظار لله، وإيمان ومحبه، لأن تنال تلك القوة من الأعالى، أي محبة الروح السماوية، وقد نالت النار السماوية، نار الحياة غير المائتة، فأنها تنفك حقاً من كل محبة عالمية وتنطلق حرة من كل رباط الشر.
تغيير النفس بنار المحبة الإلهية:
14- فكما أن الحديد، والرصاص والذهب، أو الفضة، حينما تلقى في النار تنصهر، وتتغير من صلابتها الطبيعية إلى قوام لين، وطوال اقامتها في النار تستمر منصهرة ومتغيرة عن تلك الطبيعة الصلبة، بواسطة شدة حرارة النار، كذلك النفس التي انكرت العالم وثبتت شوقها نحو الرب وحده، بتفتيش كثير وآلام وصراع النفس، وتداوم على انتظار الرب انتظاراً غير منقطع بالرجاء والايمان، والتي قد نالت تلك النار السماوية، نار اللاهوت، ونار محبة الروح، فهذه النفس تنفك حينئذ بالحقيقة من كل محبة العالم وتنطلق حرة من كل فساد الأهواء وتطرح كل شيء من نفسها وتتغير من عادتها الطبيعية وصلابة الخطية، وتعتبر كل الاشياء بلا قيمة بالمقارنة مع العريس السماوي الذي قبلته، مستريحة في حبه الشديد الذي يفوق الوصف.
15- واقول لكم بالحقيقة انه حتى الأخوة المحبوبين جداً الذين تبصرهم هذه النفس بعينها، إذا أعاقوها عن تلك المحبة فانها تتحول عنهم. لأن حياة النفس وراحتها هي في تلك العشرة الخفية الفائقة الوصف مع الملك السماوي. لأنه أن كانت شركة المحبة الأرضية تتسبب في مقارقة الإنسان لأبيه وأمه وأخوته بل وكل الأشياء تبتدئ تصير في نظر الزوجين خارجة عنهم، ورغم انهم يستمرون يحبونهم فانهم يحبونهم محبة أكثر سطحية، بينما يكون انشغال الإنسان كله موجهاً نحو علاقته بعروسه - لذلك يقول الكتاب "من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بإمرأته ويكون الاثنان جسداً واحداً" (15 )، فأقول أن كانت المحبة الجسدية تجعل الإنسان ينفك من كل محبة أخرى فكم بالأحرى جداً أولئك الذين حسبوا أهلاً للدخول حقاً في شركة الروح القدس، ذلك الروح السماوي المحبوب، ينفكون من كل محبة عالمية ويصبح كل شيء آخر عديم القيمة بالنسبة لهم، لأنهم غمروا بشهوة سماوية وصاروا بكليتهم في ألفة وانسجام معها.
16- حسناً يا أخوتي الأحباء، فحينما توضع مثل هذه الخيرات أمامنا وقد وعدنا الرب بمثل هذه المواعيد العظيمة، فلنطرح عنا كل العوائق ونهجر كل محبة العالم، ونعطي أنفسنا لذلك الصالح الوحيد بسعي واشتياق، لكي نصل إلى ذلك الحب الذي لا ينطق به أي محبة الروح التي أوصانا بخصوصها القديس بولس حاثاً إيانا أن نجد في طلبها قائلاً: "اتبعوا المحبة" ( 16) لكيما نتغير من قساوتنا بواسطة يمين العلي، ونأتي إلى الحلاوة والراحة الروحانية، بعد أن ننجرح بالمحبة العنيفة، محبة الروح الالهي.
أن الرب محب جداً للإنسان وبرحمته يبقى في انتظار أن نتحول تحولاً كاملاً إليه ونتحرر من كل الاشياء المضادة. وبالرغم من اننا في جهلنا العظيم، وحماقتنا وميلنا إلى الشر، تبتعد عن الحياة ونضع عوائق كثيرة في طريقنا، غير راغبين أن نتوب حقيقة، لكنه هو مع ذلك مملوء بالحب والشفقة علينا، ويطيل أناته إلى أن نتوب ونأتي اليه، ونستنير في انساننا الباطن لكي لا تخزى وجوهنا في يوم الدينونة.
محبة الله الشديدة لنا مواعيده العظيمة:
17- فإن كان الأمر يبدو لنا صعباً بسبب مشقة ممارسة الفضيلة، ويبدو أكثر صعوبة بسبب مشورات العدو الغادرة، فانظروا احشاء رحمته وطول أناته من نحونا وهو منتظر رجوعنا، وحينما نخطئ فهو يمسك يده، في انتظار توبتنا، وحينما نسقط، لا يستحي أو يخجل من قبولنا واحتضاننا ثانية، كما يقول النبي "هل يسقطون ولا يقومون أو يرتد أحد ولا يرجع" ( 17) فلنكن فقط صاحين متيقظين، ولنا نية صالحة أكيدة، ولنتحول حالاً باستقامة ونطلب منه المعونة وهو مستعد أن يخلصنا. وهو يتطلع وينظر إلى ارادتنا ورغبتنا في الرجوع إليه برغبة حارة بأقصى طاقة عندنا، ويتطلع إلى الايمان والغيرة النابعة من القصد الصالح، وأما نجاح المسعى كله فهذا هو عمله الخاص، لذلك فلنسعىن ايها الأحباء كأولاد الله، تاركين جانباً كل انشغال، واهمال وتكاسل، ونتشجع ونكون مستعدين لاتباعه. ولا نتأخر من يوم إلى يوم، غير ملاحظين إلى أي مدى تجرحنا الخطية. اننا لا نعرف متى يأتي وقت انتقالنا من الجسد. أن المواعيد المعطاه والمقدمة للمسيحيين هي مواعيد عظيمة ولا ينطق بها، عظيمة جداً حتى أن كل مجد وبهاء السماء والأرض وكل زينة أخرى بكل نوع وكل كنوز وجمال وبهجة الأشياء المنظورة لا تساوي شيئاً بالمرة بالنسبة للايمان والكنز الذي لنفس واحدة.
18- فكيف نستطيع اذن أن نرفض بقلوبنا قبول مثل هذه الدعوات والمواعيد من الرب ونأبى المجيء إليه وتخصيص نفوسنا له، منكرين كل شيء آخر "حتى نفوسنا ايضاً" ( 18) كما يقول الانجيل، وان نحبه وحده وليس شيء آخر معه، ولكن بالرغم من كل هذه الاشياءن والمجد العظيم الذي قد أعطى، وبالرغم من كل تدبيرات الرب منذ ازمنة البطاركة والأنبياء - كم من مواعيد عظيمة قد أعطيت، وما أكثر النصائح التي قدمت، وما أعظم الشفقة التي أظهرها لنا السيد منذ البداية!
محبته وطول أناته وانتظاره لحظة توبتنا ورجوعنا:
وأخيراً، في مجيئه الخاص بيننا هنا برهن على محبته التي لا يعبر عنها من نحونا، بصلبه لأجلنا، ليحولنا وينقلنا إلى الحياة - وأما نحن فلا نزال غير راغبين في ترك مشيئتنا وترك محبة العالم وترك ميولنا وعادتنا الرديئة. وبهذا نبرهن على اننا قليلي الايمان، أو عديمي الايمان، وبالرغم من هذا كله فانه لا يزال محباً رحيماً حافظاً ايانا في الخفاء ومحتضناً لنا، ولا يسلمنا بحسب آثامنا - إلى سلطان الخطية إلى الأبد، ولا يدعنا نهلك بغرور العالم، بل في رحمته العظيمة وطول أناته يجعل نظره مثبتاً علينا في انتظار اللحظة التي نرجع فيها نتحول اليه.
19- أخاف انه في يوم من الأيام بينما نحن متعلقون بأفكارنا المخزية وسائرون وراء أهواءنا، تصدق فينا كلمات الرسول "أم تستهين بغنى لطفه وامهاله وطول اناته، غير عالم أن لطف الله انما يقتادك إلى التوبة؟ ( 19).
خطورة الاستهانة بلطفه وطول أناته:
ولكن أن كنا نقابل طول الأناة هذه واللطف والامهال بعدم الرجوع بل بزيادة الخطايا، وباهمالنا واحتقارنا نشتري لأنفسنا دينونة أعظم فيتحقق حينئذ بقية قول الرسول "ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضباً في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة" ( 20). أن الله قد استعمل صلاحاً عظيماً يفوق الوصف في علاقته مع جنس البشر بل وطول أناة تفوق التعبير، ويبقى فقط أن نكون راغبين في استعادة ورجوع انفسنا، ونسعى أن نتحول إليه تماماً، لكيما نجد الخلاص.
أمثلة من معاملات الله في الكتاب المقدس:
20- وأن اردت أن تعرف طول أناة الله ولطفه العظيم فلنتعلمها من الكتب الموحى بها. انظر إلى اسرائيل، الذي منه جاء الآباء، الذين لهم اعطيت المواعيد، ومنهم جاء المسيح حسب الجسد والذين بهم اختصت خدمات "العبادة والعهد" ( 21)، كيف أخطأوا خطيئة عظيمة، وكم من مرة حادوا عن الطريق، ومع ذلك فلم يطرحهم إلى الأبد بل من وقت إلى وقت كان يسلمهم للتأديبات إلى حين لأجل منفعتهم مريداً أن يلين قساوة قلوبهم بالضيقات والأحزان، وكان يعود اليهم ويشجعهم. ويرسل لهم الأنبياء. وكم من مرة اخطأوا وأغاظوه، ولكنه كان يطيل أناته عليهم وحينما يرجعون إليه يقبلهم بفرح، وحينما يرتدون ثانية عن طريقه لم يتخلى عنهم، بل كان يدعوهم من جديد بواسطة الأنبياء أن يرجعوا اليه، وكم من المرات الكثيرة تحولوا عنه ثم رجعوا فكان يحتملهم بلطف ورحمة ويقبلهم إليه برأفة، إلى أن سقطوا في النهاية في التعدي الذي فاق الكل وذلك حينما ألقوا ايديهم على سيدهم الذي تعلموا بواسطة تقاليد الآباء والأنبياء القديسين أن ينتظروه كمنقذ لهم ومخلص وملك ونبي. وحينما جاء لم يقبلوه بالعكس بعد أن قدموا له الإهانة تلو الإهانة عاقبوه أخيراً بالموت صلباً على الصليب، وبهذا الاثم العظيم والتعدي الذي فاق كل التعديات تزايدت خطاياهم أكثر من الحد وامتلأ كأسهم. ولذلك تركوا إلى النهاية، وهجرهم الروح القدس منذ أن انشق حجاب الهيكل. ولذلك أعطى هيكلهم للأمم وهدم وصار خراباً حسب انذار الرب "أنه لا يترك هنا حجر على حجر لا ينقض" ( 22). هكذا سلموا أخيراً للأمم وتشتتوا في الأرض كلها بواسطة الملوك الذين أسروهم ومنعوا من الرجوع إلى أماكنهم الأصلية.
21- وهذا هو نفس ما يعمله الله مع كل واحد منا حتى الآن، فانه كملك واله صالح يطيل اناته علينا وهو يرى كم يخطئ كل واحد منا، فيمسك يده ويسكت وينتظر أن يعود الإنسان إلى نفسه ويرجع عن الخطية تائباً فيرحب بالخاطئ الراجع بمحبة عظيمة وفرح كثير. فهذا هو ما يقوله "يكون فرح بخاطئ واحد يتوب .." ( 13)، وأيضاً يقول "هكذا ليست مشيئة أمام ابيكم الذي في السموات أن يهلك احد هؤلاء الصغار" ( 24) ولكن أن كان أحد، تحت هذه الرحمة العظيمة وطول أناة الله الذي لا يسرع بالانتقام من كل خطيئة خفية أو ظاهرة بمجرد ارتكابها، بل ينظر ويسكت منتظراً توبة الخاطئ، أقول أن كان الإنسان يزدري هكذا بالرحمة ويضيف خطيئة على خطيئة ويجمع كسلاً على كسل ويكوم اثماً فوق اثم، فانه يملأ مكيال خطاياه، ويأتي في النهاية إلى اثم عظيم جداً لا يمكنه القيام منه أبداً، بل يتهشم تهشماً ويسلم للشرير للهلاك الأبدي.
22- وهذا هو الذي حدث مع سادوم. فانهم مرات كثيرة أخطأوا وبدون رجوع استمروا يخطئون حتى وصلوا إلى قصدهم الشرير نحو الملائكة طالبين أن يرتكبوا الاثم معهم على انهم رجال، حتى انهم لم يستطيعوا أن يتوبوا بعد ذلك بل رفضوا نهائياً، لأنهم ملأوا مكيال خطاياهم بل تعدوه، ولذلك احرقوا بنار النقمة الالهية. وهكذا حدث أيضاً في أيام نوح فانهم كانوا يخطئون ولا يتوبون ووصلت كثرة خطاياهم لدرجة أن الأرض كلها فسدت تماماً وهلكت. وهكذا حدث مع المصريين انهم أخطأوا كثيراً وتعدوا على شعب الله، وكان الله لطيفاً ولم يرسل عليهم ضربات كالأوبئة لكي تفنيهم كلية، بل لأجل تأديبهم ورجوعهم وتوبتهم أرسل عليهم جلدات أسواطه الصغيرة صابراً عليهم ومنتظراً توبتهم. ولكنهم كانوا يخطئون ضد شعب الله ثم يندمون، ولكنهم يعودون مرة أخرى ويثبتون في عدم الايمان القديم، الناتج عن قصد شرير، ويضيقون على شعب الله من جديد، وأخيراً حين أخرج الله الشعب من مصر بعجائب كثيرة بواسطة موسى فإنهم (المصريون) ارتكبوا الاثم العظيم بسعيهم وراء شعب الله، الذي بسببه اهلكتهم النقمة الالهية وأفنتهم، واكتسحتهم في المياه اذ حسبتهم غير مستحقين حتى لهذه الحياة المنظورة.
23- وبنفس الطريقة كما قلنا سابقاً، فان اسرائيل كثيراً ما ارتكبوا آثاماً وخطايا، وقتلوا انبياء الله وفعلوا اشياء أخرى شريرة كثيرة. وبينما كان الله محتملاً وساكتاً، منتظراً بصبر توبتهم، انتهوا بارتكاب اثم عظيم بسببه سحقوا حتى انهم لم يستطيعوا أن يقوموا ثانية. ولهذا السبب تخلى عنهم الرب تماماً ورفضهم ونزعت منهم النبوة والكهنوت والعبادة وأعطيت للأمم الذين آمنوا كما قال الرب: "ان ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعطي اثماره" (25 ) فقد ظل الله إلى ذلك الحين مطيلاً اناته عليهم محتملاً اياهم ولم يتخلى عنهم وذلك بكثرة شفقته عليهم، ولكن حينما ملأوا مكيال آثامهم وزادوا عن حدودها جداً، وبالقاء ايديهم على سيدهم الكريم صاروا مهجورين تماماً من الله.
لنرجع ونتوب بسرعة ولا نيأس من الخلاص:
24- أيها الأحباء لقد تناولنا هذه الأمور بنوع من التفصيل مبرهنين من أفكار الكتب المقدسة، انه يجب علينا أن نرجع ونتحول بسرعة، ونبادر إلى الرب، الذي بسبب لطفه ينتظر علينا متوقعاً أن ننفك تماماً من كل شر وميل خبيث، وهو الذي يرحب بفرح عظيم بتوبتنا ولا يريد أن يزداد احتقارنا من يوم إلى يوم ولا أن تتجمع خطايانا وتزداد علينا فتسبب غضب الله علينا. فلنسعى اذن بحماس وغيرة أن نأتي إليه بقلب تائب حقاً، غير يائسين من الخلاص لأن اليأس هو نفسه خطيئة واثم وذلك حينما يتملك علينا تذكر الخطايا السالفة فيقود الإنسان إلى اليأس وقطع الرجاء والى التراخي والاهمال والكسل، لكي لا يعود ويرجع إلى الرب لينال الخلاص، حيث أن احسان الرب العظيم ولطفه هو ممتد لكل جنس البشر.
هو الذي يغير ويحول ويجدد النفس:
25- وان كان يظهر لنا أن الرجوع من الخطايا الكثيرة أمر عسير ومستحيل وذلك بسبب اننا صرنا مستبعدين لها - فإن هذا الفكر - كما قلت هو خدعة من الشرير وتعويقنا لحصولنا على الخلاص - فلنتذكر ونعتبر كيف أن ربنا حينما جاء بصلاحه بيننا على الأرض، أعطى البصر للعميان، وشفى المشلولين، وشفى كل أنواع المرضى، واقام الأموات، بعد ما فسدت واضمحلت أجسادهم، وجعل الصم يسمعون أخرج جيشاً من الشياطين، من انسان واحد وأعاده إلى عقله بعد أن كان في غاية الجنون. فكيف لا يغير ولا يحول - بالأحرى جداً - النفس التي ترجع إليه طالبة رحمته وهي محتاجة إلى حمايته، ويحضرها إلى حالة سعيدة، حالة التحرر من الشهوات، وحالة الثبات المستقر في كل فضيلة وتجديد الذهن، ويغيرها إلى الصحة والابصار العقلي، وأفكار السلام، بدلاً من العمى والصمم وموات عدم الايمان والجهالة وعدم المبالاة، ويأتي بها إلى اتزان الفضيلة ونقاوة القلب. فالذي خلق الجسد هو الذي خلق النفس أيضاً، وكما انه في سعيه على الأرض حينما كان يجيء الناس إليه طالبين منه المعونة والشفاء فانه بلطفه كان يمنحهم ولا يضن عليهم بحسب ما تكون احتياجاتهم كمثل طبيب صالح بل الطبيب الحقيقي الوحيد، فهكذا يكون الأمر في الاحتياجات الروحية.
26- فان كان قد تحرك بمثل هذه الشفقة على الأجساد التي تضمحل وتموت، وبلطف شديد أعطى لكل واحد حاجته التي كان يطلبها، فكم بالأحرى جداً يصنع للنفس غير المائتة التي لا تفسد ولا تضمحل، وهي تئن تحت وطأة مرض الجهل والشر وعدم الايمان واللامبالاة وكل أمراض الخطية الأخرى، فحينما تأتي إلى الرب وتلتمس معونته وتثبت انظارها على رحمته، وترغب أن تنال منه نعمة الروح لأجل انقاذها وخلاصها وتحررها من كل شر ومن كل شهوة، أفلا يمنحها بأكثر استعداد خلاصه الشافي، بحسب كلمته هو "أفلا ينصف الآب السماوي مختاريه الصارخين إليه نهاراً وليلاً؟ (26 ) ويضيف قائلاً "نعم أقول لكم انه ينصفهم سريعاً" (27 ).
وفي موضع آخر يحثنا "اسألوا تعطوا لأن كل من يسأل يأخذ ومن يطلب يجد ومن يقرع يفتح له" ( 28)، ويختم هذا الحديث بقوله "كم بالحري أبوكم السماوي يعطي الروح القدس للذين يسألونه الحق أقول لكم وان كان لا يقوم ويعطيه لكونه صديقه فإنه من أجل لجاجته يقوم ويعطيه قدر ما يحتاج" ( 29).
التماس عطية النعمة بلجاجة:
27- فباللجاجة اذن، وبدون انقطاع، وبلا كلل يستحثنا في كل هذه الكلمات أن نلتمس منه عطية النعمة. فانه جاء إلى العالم لأجل الخطاة، لكي يحولهم ويرجعهم إلى نفسه ويشفي ويخلص الذين يؤمنون به، لذلك فلنتجنب الوساوس الشريرة، على قدر طاقتنا، ونبغض المقاصد الرديئة وخداع العالم، ونعطي ظهورنا للأفكار الشريرة الباطلة، ونلتصق بالرب بأقصى طاقتنا، وهو على استعداد أن يسرع باعطائنا معونته. فمن أجل هذه الغاية هو رحيم ومحيي وشافي للأمراض التي لا شفاء لها، صانعاً الخلاص لأولئك الذين يدعونه ويرجعون اليه، مبتعدين بأقصى طاقتهم - بالإرادة والقصد - من كل تعلق عالمي، ويبعدون عقولهم بعيداً عن الأرض ويثبتونها فيه بتوسل واشتياق. فعلى مثل هذه النفس يسبغ الله نعمته، تلك النفس التي تحسب كل شيء آخر بلا أهمية أو ضرورة، ولا تستريح على شيء في العالم، بل تتطلع لتجد الراحة والفرح في حضن لطفه ومحبته، وهكذا بعد أن تنال الموهبة السماوية بمثل هذا الايمان، تحصل على اشباع رغبتها بيقين تام بواسطة النعمة. ومنذ ذلك الحين فصاعداً تخدم الروح القدس باتفاق ولياقة، وتتقدم نامية كل يوم في كل ما هو صالح وتثبت في طريق البر، واذ تلبث غير متزعزعة أو مساومة مع الشر، ولا تحزن النعمة في شيء، فانها تمنح الخلاص الأبدي مع كل القديسين لأنها قد عاشت في العالم كشريكة ورفيقة لهم متمثلة بهم آمين.