الـــرهبنة فــي ديــر مــارمــينا
لقد مرت رهبنة أفا مينا بثلاث حقبات هامة ولكن الملاحظة الخطيرة هي أزدهار الرهبنة قبل تعمير المدينة، وفتور الرهبنة كلما أزدهرت المدينة. وهذا يؤكد أن الأباء الرهبان كانوا يقومون بتعمير المكان بعد أن يخربه المعتدون .
الحقبة الأولي:
يذكر لنا التاريخ أنه في بداية أكتشاف جسد القديس مارمينا وزيوع سيرته العطرة في بداية القرن الخامس، أندفع الكثير من الشباب الذي عمر قلبه بمحبة المسيح وتكشفت له حقارة العالم فقام وباع كل ما يملك وذهب ليتعبد في هذا المكان المقدس .
و في سيرة القديسة أيلارية " الراهب أيلاري " يذكر لا أنها عندما وصلت الأسكندرية مضت لزيارة كنيسة القديس بطرس خاتم الشهداء ورافقها أحد الشمامسة الي برية أنبا مقار، وأثناء ذهابهم مروا علي دير أفا مينا وتباركوا من المكان ثم واصلوا سيرهم الي دير أنبا مقار.
و الخبر الخطير أن الحفريات الأثرية التي تمت حديثاً في أيرلندا – علي أطلال كنيسة أثرية تقع علي بعد 25 كم من بلدة بلفاست وظهر أن هذه الأثار تقع في المنطقة التي يطبق عليها أسم منطقة " مينا " مما يدل علي أن الرهبان السبعة الذين حملوا شعلة الأيمان لتلك المنطقة لابد وأنهم كانوا ضمن رهبان أبا مينا بمريوط .
و الذي يملأ قلوبنا فرحاً وفخراً أن الكنيسة الأيرنلدية تحتفظ في صلواتها الي يومنا هذا بصلاة خاصة للأباء الأقباط الذين حملوا اليهم شعلة الأيمان. وهذا الخبر يعطي رهبان أفا مينا شرف الكرازة الحقيقية ... الكرازة بدون عصا ولا كيس ولا مزود ولا أمكانيات أرساليات القرن العشرين .
الحقبة الثانية:
بعدما تخربت المدينة العظيمة في عصر الدولة العباسية – في أواخر القرن التاسع وأوائل العاشر – بدأ الدير يزدهر من جديد ويكثر عدد الرهبان به وذلك في عصر البابا شنودة الأول .
الحقبة الثالثة:
و في العصر الذي باركنا الله فيه، وأعلن مجده وأقام من التراب أسوار شامخة، وحول القفر الي مكان ترتفع فيه الصلوات طوال النهار علي مذبحه الناطق السمائي، عصر البابا كيرلس السادس الذي أنار برية أفا مينا ... والذي بصلواته مازال هكذا يشع في عهد خليفته البابا المكرم الأنبا شنودة الثالث .
بدأ البابا العظيم الأنبا كيرلس برفع القداسات علي حجارة الأطلال بأسرار وإيمان، وبني كنيسة صغيرة بأسم الأنبا صموئيل المعترف، وكان تلميذه الأول الراهب القس متياس السرياني ( نيافة الأنبا دوماديوس أسقف الجيزة ) ...
كما أقام أول راهب علي برية أفا مينا بأسم الراهب مينا أفا مينا ( رئيس الدير الحالي ) ... وهكذا في سنةات لم تتجاوز 14 عاماً أصبح دير مارمينا قلعة للصلاة، تقام فيه القداسات المستمرة يومياً حفظاً لطقس البابا العظيم الذي قامت كل أعماله علي الصلاة ورفع القرابين .. ولما سألنا البابا عن سر رفع البخور صباحاً ومساء كل يوم. قال راجع سفر الخروج " يوقده. وحين يصعد هرون السرج يوقده بخوراً دائماً أمام الرب في أجيالكم " خر 30 : 7، 8
إلهنا الحبيب الصالح نسأل أن يحفظ هذا المكان عامراً بالرهبان الذين يرفعون الصلاة الدائمة عن الكنيسة بلا توقف بل بجهاد والحاح .
وقد أتم غبطته وضع حجر الأساس للدير يوم 17 هاتور الموافق 27 نوفمبر سنة 959 م.
مــدينة مــارمـــينا
بناء المدينة
ومع أزدهار المكان وكثرة المعجزات التي كانت تتم بواسطة شفاعة مارمينا العجايبي أصبح يتوافد الي المكان الألاف من أقاصي أرجاء المسكونة .
وسمع الملك زينون المحب للمسيح بذلك وفرح، وذلك في أيام رئاسة الأنبا تيموثاوس الثاني البطريرك الـ 26 ( 455 – 477 ). فأمر كل الرتب الشريفة في المملكة أن تأتي وتعمر المكان الطاهر ويبني كل منهم قصراً في المنطقة كما كتب لأرخنة الأسكندرية أيضاً وما حولها أن يبني كذلك كل منهم منزلاً لنفسه هناك. الي أن جعلوا هذا المكان مدينة وسميت بأسم Martyropolis أي مدينة الشهيد. وأقام الملك بذاته بيوتاً خاصة لأضافة الغرباء، ولكي يضمن الملك أستقرار المدينة والمعيشة فيها ولا سيما حراسها من غارات البربر – أقام في المدينة حامية قوامها 1200 جندي. وهكذا كبرت المدينة وعظمت جداً. ولإذدياد عدد المرضي الوافدين للأستشفاء أقيم فيه الحمامات الضخمة علي بعد 170 متراً من كنيسة البابا أثناسيوس. وكانت المياة تصل أليه عن طريق قناة طويلة تغذي مجموعة كبيرة من الأحواض والحمامات. ونسق المكان علي أحدث الطرق الهندسية بحيث يكفل راحة الزائرين الكثيرين من أقاصي الأرض يلتمسون البركة. فخصصت القاعات الفسيحة من الحمامات المزودة بالقاعات الرخامية لإستقبال للمرضي، وشيدت كنيسة خاصة أيضاً بجوارها من الجهة الشمالية.
والمدينة كان بها سوق كبير ليستطيع من يحضر أن يشتري كل حاجاته دون أن يجد صعوبات وأمتلأت المدينة بالمرافق الحية والأسواق والمصانع المتوعة للزجاج والأواني الخزفية. وهكذا تحولت الي مدينة عظيمة متحضرة تملأها القصور الرخامية والحمامات الشافية حتي وصفها الكثيرين أنها المدينة الرخامية وقال عنها المؤرخ صوفونيوس سنة 650 – 638 " إن كنيسة مارمينا الشهيد والمضيفة التي أمام الكنيسة هما مفخرة ليبيا ... " ومما زاد المدينة شهرة أنها تقوم في منطقة مريوط القريبة من الأسكندرية العظيمة المدينة المحبة للمسيح.
شهرة القديس والمدينة
كان المرضي يأتون من كل مكان في العالم ليستشفوا بشفاعة مارمينا الأمين. وكان الصناع المهرة يصنعون قنينات فخمة من الفخار ليملؤها من الماء المقدس حيث يأخذه الزاءرون العائدون لبلادهم البركة والشفاء. ومما يدل علي أتساع شهرة القديس أن هذه الأواني وجدت في بلاد عديدة متباعدة مثل كولونيا وهيدرلبرج بألمانيا ومارسيليا بفرنسا ودلماتا بيوغوسلافيا وكيلانو بأيطاليا.
و وجدت كذلك في أنجلترا وفي مدينة دنجلة بالسودان وكذلك في مدينة أورشليم .
وكان يصور الصانع علي القنينة الفخارية صورة مارمينا وعند قدمية الحيوانات البحرية السابق وصفها وعلي البعض الأخر كان يرسم صلباناً أو أسم الرب يسوع وهكذا ... وعندنا في المتحف القبطي واليوناني بالأسكندرية مجموعة كبيرة من هذه الأواني المقدسة.
بداية الغروب
وهكذا بعد ذلك التاريخ الطويل والشهرة الواسعة يذكر لنا المؤرخ بوتشر أنه بعد الفتح العربي بات عدد الزوار يتضائل والسكان يتناقصون، وبدأ الخراب يدب في المدينة من كل جانب من ناحية البرب الأتين من ليبيا ومن المدالجة – قبيلة من مدينة مكة في الحجاز – الأتية من الشرق .
وأزدادت فترة الفوضي عقب مدة هرون الرشيد سنة 809 وسقطت المدينة في يد البربر حيث أحرقوا جزءاً كبيراً منها وأنقطع الناس نهائياً من زيارة المدينة .
وفي عصر المأمون سرقطت أغلب محتويات الكنيسة الرخامية الثمينة من أعمدة وجدران بحسب أمر الملك أبراهيم الخليفة المعتصم الأبن الثالث لهارون الرشيد الذي طلب جميع الأعمدة الرخامية من الكنائس لبناء قصراً له في مدينة سامرا سنة 836 وبالفعل وجد في مدينة مارمينا ضالته المنشود ( كما يذكر التاريخ ) فهدم الكنائس ونهب رخامها حتي أندثرت الكنيسة الكبيرة نهائياً وكل مافيها من كنائس ومساكن للرهبان وأماكن للضيافة بكل ما كان لها من عظمة ومجد وتراث زال كلية ولم تترك سوي كومة حزينة من الحجارة.