لذلك إن قرأت، لا تقف عند حدود القراءة والتأمل فيما تقرؤه في الكتاب من الوصايا أو سير الأنبياء والآباء، ما تقرؤه، اخلطه بفكرك وروحك وقلبك.. وطبق تأملاتك على حياتك، واستخرج منها منهجًا تسير عليه، ويدخل في علاقتك مع الله والناس..
ولتكن قراءتك مصحوبة بالصلاة..
كما قال داود النبي في المزمور الكبير "اكشف عن عيني لأرى عجائب من ناموسك".. وهناك نرى أن التأمل يحتاج إلى كشف إلهي.. وكثيرًا ما يقف الإنسان في حالة انبهار أمام ما يكشفه الله له.. وقد يقرأ فصلًا من الكتاب يكون قد قرأه من قبل. ولكن تنكشف له معان عديدة لم تخطر على ذهنه مطلقًا في قراءته السابقة..
وقد يحدث له هذا أيضًا، أثناء قراءة أو صلاة المزامير. فتنكشف له معاني جديدة. ويتكرر الأمر إذ يصلى نفس المزمور بعد أيام، فيدرك منه معاني أخرى لم يدركها من قبل..
وهكذا يفتح له الله طاقات من نور تشرق على ذهنه.
لا يعزو ذلك إلى ذكائه أو معرفته، إنما هي موهبة من الله يسكبها عليه أثناء الصلاة أو القراءة أو التأمل، وتكون الصلاة مصدرًا للتأمل، أو مصحوبة بالتأمل. كما يكون التأمل مصحوبًا بالصلاة.. وتتسع أمامه معاني الآيات، حتى ما يجد لها حدودًا. إنما في كل حين يختبر لها أعماقًا..
إن لم تكن لك موهبة التأمل، اقرأ تأملات الآباء القديسين.
قديس عظيم مثل القديس يوحنا ذهبي الفم، له كتاب في تفسير إنجيل متى، وآخر في تفسير إنجيل يوحنا وكتب أخرى في تفسير أعمال الرسل ورسائل بولس الأربع عشرة.. هذه الكتب مملوءة بالشرح وبالتأملات. وتتبعه في أسلوب شرحه وتأمله، وتعلم..
قديس عظيم آخر هو القديس آوغسطينوس، عميق جدًا في تأملاته، وفي رقة أسلوبه. له كتاب تأملات في الرسالة الأولى للقديس يوحنا الرسول، وله كتاب تأملات في المزامير، وعظات على فصول كثيرة من الأناجيل. وغالبية كتاباته حافلة بالتأملات. اقرأ له، وتعلم..
وهكذا مع باقي القديسين في كتاباتهم، وبخاصة الذين اشتهروا بالتأمل، وليس فقط بعمق التعليم.. مثل القديس مارافرام السرياني، والقديس يعقوب السروجي والقديس ديديموس الضرير وغيرهم. اقرأ لهم، وانتفع بتأملاتهم، واتخذهم مدرسة في التأمل..
بل تدرب أيضًا على الآباء الذين اشتهروا بالتفسير الرمزي للكتاب..
ستجد عمقًا كبيرًا في كتابات هؤلاء الآباء لأنهم لا يقتصرون على المعنى الحرفي لآيات الكتاب، إنما يدخلون إلى العمق، وإلى ما تحمله الآيات من إشارات بعيدة لأمور أخرى..
وبهذا أيضًا يمكن فهم أسفار النبوات، وسفرًا مثل نشيد الأناشيد.. ويمكننا أن نفهم ما ورد في الكتاب عن الذبائح والتقدمات والأعياد، والشرائع الخاصة بالنجاسات والتطهير، وشرائع أخرى قال عنها بولس الرسول إنها كانت "ظلًا للأمور العتيدة" (كو 2: 17).
ادخل في تدريب التأمل، لأنه يشغل ذهنك بشيء صالح، بدلًا من أن تترك الفكر يسرح في أمور خاطئة.
أو يسرح في أمور زائلة.. لا نفع فيها.. وتأكد أن ذهنك لن يكف عن التأمل. إنما يتوقف تأمله على نوع المادة المقدمة إليه، خيرًا كانت أم شرًا. سواء قدمتها أنت له من داخل قلبك وفكرك، أو قدمتها لك البيئة المحيطة بك.. والأفضل أن تقود تفكيرك في تأملاته..
واعرف أن موهبة التأمل هي للكل، وليست للقديسين فقط، بل حتى للخطاة..
أولئك قد تكون لهم قدرة عجيبة على التأمل، وإنما في مجال الخطية. فالخاطئ الذي يحب خطية معينة، ما أسهل أن يسرح فيها ويتأملها بعمق، وتملك على فكره وقلبه ومشاعره، ويؤلف فيها قصصًا وأفكارًا. كما كان يفعل بعض الأدباء والشعراء ومؤلفو الروايات. إنه لون من التأمل، ولكنهم استخدموه في الخطية.
أما القديسون فتأملاتهم تكون في موضوعات روحية. كذلك فإن الخطاة الذين يتمتعون بموهبة التأمل، إذا تابوا، وأداروا موهبة تأملهم في مسار روحي، حينئذ يظهر عمقهم وتأثيرهم الطيب
ونذكر كمثال لذلك القديس أوغسطينوس في حياة التوبة والنمو الروحي، وحتى في كتاب اعترافاته وما فيه من عمق..
والقراءة إحدى الوسائل التي توجد التأملات..
وقد حدثناك عن القراءة في الكتاب المقدس.. ونضيف إلى ذلك أيضًا قراءة الكتب الروحية وسير القديسين، التي تحتاج منا إلى شرح أوفر.
إنما تذكر باستمرار أن التأمل يعودك العمق.
ويبعدك عن السطحية، ويقدم لك غذاء روحيًا نافعًا لبنيانك الداخلي، ويمنحك حكمة، ويجعلك تتلامس مع عمل الله فيك..ش