"ملجأ في النهار"، حيث كانت السحابة مرشدًا لهم وفي نفس الوقت ملجأ لحمايتهم من حرّ الشمس. "يخلق الرب على كل مكانٍ من جبل صهيون وعلى محفلها سحابة نهارًا، ودخانًا ولمعان نار ملتهبة ليلًا، لأن على كل مجدٍ غطاء؛ وتكون مظلة للفيء نهارًا من الحرّ ، وملجأ ومخبأ من السيل ومن المطر" (إش 4: 5-6).
فسر الحكيم هنا ظهور ظهور الرب كسحابة تظللهم نهارًا وعمود نار يضيء لهم ويقودهم أنه هو الحكمة أو حكمة الله (الذي تجسد فيما بعد ليخلص العالم).
* أرسلت القوة الإلهية سحابة تقود الشعب (خر 13: 21-22)، ولم تكن هذه سحابة عادية، لأنها لم تكن مكونة من أبخرة كالسحب العادية ولم تكن تشكيلًا ضبابيًا تكون من ضغط الرياح على الأبخرة، بل كانت شيئًا يتجاوز الفهم البشري. ويشهد الكتاب المقدس بأنه كان هناك شيء غير عادي في هذه السحابة، فعندما كانت أشعة شمس الظهيرة تسطع بحرارةٍ شديدةٍ، كانت السحابة مأوى للشعب تظلل من تحتها، وترطب حرارة الجو النارية بندى خفيف. وأثناء الليل كانت تتحول إلى نار تقود الإسرائيليين - كما في موكبٍ - بضوئها من الغروب إلى الشروق(454).
القديس غريغوريوس النيسي
وعبرت بهم البحر الأحمر،
وجازت بهم غزيرَ المياه. [18]
الطريق الذي اختارته الحكمة للخروج من مصر والعبور إلى أرض الموعد هو العبور بهم البحر الأحمر واجتيازهم مياه غزيرة. لم يكن هذا هو الطريق بحسب المنطق البشري، إذ وُجد طريق سهل وممهد في ذلك الحين، الذي في جهة العريش حيث يبلغون الأردن مباشرة. لم يكن يدرك أحد السرّ في ذلك، إذ لم يكن ممكنًا لهم دخول أرض الموعد إلاَّ من خلال هذا الطريق للأسباب التالية:
1. عبور البحر الأحمر كرمز للتمتع بالمعمودية، حتى يعبر المؤمنون إلى كنعان السماوية.
2. الدخول في ضيقات وحروب، فيهلك فرعون وجنوده إشارة إلى هلاك إبليس وملائكته. وينهزم عماليق وغيرهم من الأمم، بكونهم رمزًا للخطايا التي يجب أن يسحقها بقوة الصليب خلال جهادنا بنعمة الله.
3. بقاء الشعب أربعين عامًا حتى ينسوا تمامًا كل خبرة الوثنية التي تلامسوا معها في مصر
4. لكي يموت موسى ويتسلم يشوع القيادة، فإنه لا دخول إلى الأبدية ما لم تمت حرفية الناموس ونحيا بالروح تحت قيادة ربنا يسوع (يشوع).
5. التمتع بخبرة التسبيح وسط البرية.
6. التمتع بالمنّ السماوي كرمز للتناول من جسد الرب ودمه.
7. التمتع بالاحتماء تحت جناحي الرب (السحابة) والاستنارة بروحه القدوس (عمود النار ليلًا).
* في ذلك العبور كان عمود السحاب مرشدًا. وقد أحسن من قبلنا بتفسير عمود السحاب على أنه رحمة الروح القدس، الذي يرشد المستحقين نحو الخير، ومن يتبع الروح القدس يعبر المياه، حيث أن المرشد يصنع له فيها طريقًا، وبهذه الطريقة يقوده بأمان إلى الحرية، أما الذي يطارده ليعيده إلى العبودية فيهلك في الماء. لا يجب أن يجهل من يسمعون هذا سرّ الماء. فالذي ينزل الماء مع جيش العدو يخرج وحده تاركًا جيش العدو يغرق في الماء(455).
القديس غريغوريوس النيسي
أما أعداؤُهم فأغرقتهم،
ثُم قذفتهم من قاع العمق. [19]
* كان موسى يراقب السحابة بنفسه وعلَّم الشعب كيف تظل في مجال الرؤية بالنسبة لهم (خر 14: 16-22). وبعد أن أرشدتهم السحابة طوال مسارهم، وصلوا إلى البحر الأحمر، حيث أحاط المصريون القادمون من خلفهم بكل جيشهم بالشعب. ولم يكن هناك مهرب من هذا الرعب متاحًا أمام الإسرائيليين من أي اتجاه لأنهم كانوا محصورين بين أعدائهم والمياه. وعندئذ قام موسى - مدفوعًا بقوة إلهية - بتنفيذ أعجب عمل لا يكاد يُصدق على الإطلاق، فقد اقترب من الشاطيء وضرب البحر بعصاه. وانشق البحر من الضربة، تمامًا كما يسري شرخ يحدث في الزجاج عند أية نقطة إلى الحافة. انشق البحر كله بهذه الطريقة من أعلى بفعل العصا، وسرى الشق في المياه حتى وصل الشاطيء المقابل. وفي المكان الذي انشق فيه البحر نزل موسى إلى العمق مع كل الشعب دون أن يبتلوا، وكانت أجسامهم مازالت مغمورة بضوء الشمس. وبينما كانوا يعبرون الأعماق سيرًا على الأقدام على القاع الجاف، لم يقلقوا من منظر الماء الممتد إلى أعلى بهذا القرب منهم على الجانبين، لأن البحر كان قد ثبت مثل جدارٍ على كلا الجانبين.
وعندما طاردهم فرعون والمصريون ونزلوا وراءهم في البحر في الممر الذي انشق حديثًا، انضمت جدران الماء مرة أخرى، واندفع البحر ليأخذ شكله السابق، وأصبح كتلة مائية واحدة (خر 14: 23-31). وفي ذلك الوقت كان الإسرائيليون قد بلغوا الضفة الأخرى بعد السير الطويل والمُجهِد في البحر، وعندئذ أنشدوا تسبحة النصرة لله الذي صنع فعلًا عظيمًا بدون سفك دم من ناحيتهم، حيث دمر كل جيش المصريين في الماء، كل الخيل والمشاة والمركبات(456).
* من هو ذاك الذي لا يعرف أن الجيش المصري بجياده ومركباته وسائقيها ورماته (بالقلاع والأقواس) وجنوده المسلحين بأسلحة ثقيلة وباقي قوات العدو في خط المعركة هم رمز للأهواء المختلفة للنفس التي تستعبد الإنسان(457)، فإن الدوافع الفكرية والميول الحسية غير المنضبطة للمتعة والألم والجشع مشابهة تمامًا للجيش الذي ذكرناه. والسباب والشتيمة هما مثل الأحجار التي ترمى بالقلاع، والتهور هو سن الرمح المتحرك. أما حب المتعة فهو يتمثل في الجياد التي تجر المركبة بدافع لا يمكن مقاومته.
نقرأ في التاريخ بسفر الخروج أن المركبة كان بها ثلاثة يقودونها يسمون "القادة(458)"، وحيث أنك قد تعلمت من قبل سرّ قائمي الباب وعتبته العليا، فتدرك أن هؤلاء الثلاثة الذين تحملهم المركبة يماثلون التقسيم الثلاثي للنفس: العقلاني والعاطفي والروحي.
يندفع كل الجيش في الماء مع الإسرائيليين الذين تقدموه في العبور المهلك (للجيش). عندئذ نجد عصا الإيمان تقود الطريق وعمود السحاب يعطي ضوءً، ويعطي الماء والحياة لمن يجدون فيه ملجأً، ويهلك مطارديهم(459).
يعلمنا التاريخ (الكتاب) هنا عن نوع الناس الذين سيعبرون الماء ولا يأخذون معهم أيًا من جيش الأعداء وهم يخرجون من الماء. فإنه لو خرج العدو معهم من الماء فسيستمرون في العبودية بعد خروجهم حيث أحضروا الطاغية حيًا معهم ولم يغرقوه في الماء. وإذا أراد أحد توضيح الرمز في هذه الصورة فإن الواضح هو أن الذين يمرون في ماء المعمودية المقدس يجب أن يقتلوا جيش الشر كله، هذا الجيش الذي يشمل الجشع والرغبات غير المنضبطة وأفكار الطمع وأهواء الغرور والصلف، والتهور، والغضب، والحقد والحسد وكل هذه الأشياء. وحيث أن الأهواء بطبيعتها تتبع طبيعتنا، فإننا يجب أن نقتل في الماء الميول الوضيعة للعقل والأعمال التي تنتج عنها(460).
القديس غريغوريوس النيسي
ولذلك فالأبرار سلبوا الأشرار،
وأشادوا باسمك القدوس أيها الرب.
وحمدوا بقلبٍ واحدٍ يدك التي حمتهم. [20]
لم يذكر سفر الخروج مصير جيش فرعون بعد غرقه في البحر. هنا يذكر أن الجثث بعد أن غاصت إلى الأعماق طفت فوق المياه, وقام الإسرائيليون بسلب ما بالجثث الميتة.
جاء هذا التقليد في يوسيفوس(461)، ألا وهو سلب العبرانيين ما كان لدى المصريين الذي ماتوا غرقى في البحر الأحمر، الأمر الذي لم يرد في سفر الخروج.
* عندما طاردهم فرعون والمصريون ونزلوا ورائهم في البحر في الممر الذي انشق حديثًا، انضمت جدران الماء مرة أخرى، واندفع البحر ليأخذ شكله السابق، وأصبح كتلة مائية واحدة (خر 14: 23-31). وفي ذلك الوقت كان الإسرائيليون قد بلغوا الضفة الأخرى بعد السير الطويل والمُجهِد في البحر، وعندئذ أنشدوا تسبحة النصرة لله الذي صنع فعلًا عظيمًا بدون سفك دم من ناحيتهم، حيث دمر كل جيش المصريين في الماء، كل الخيل والمشاة والمركبات(462).
القديس غريغوريوس النيسي
لأن الحكمة فتحت أفواه الخرس،
وأوضحت ألسنة الأطفال. [21]
جاء في الترجوم أن بعض أطفال العبرانيين الذين هُددوا بالموت في مصر حملتهم ملائكة إلى البرية، واشتركوا فيما بعد في الرحلة في البرية.
لعل الأطفال اشتركوا مع الشعب في التسبيح (خر 15).