المسيح تجسد ليصلب ويموت ويقوم ويتمجد فيتمجد جسدنا الإنساني فيه، ويتحقق القصد الإلهي في خلقة الإنسان
1. خلق الله آدم ليحيا للأبد في فرح ووحدة وينعكس عليه مجد الله فيتمجد. ولكن دخلت الخطية وفسد الإنسان ومات ودخلت اللعنة والموت وغيرهما. وفقد الإنسان كل ما أراده الله للإنسان من مجد وفرح. لكن كان لا يمكن أن يفشل القصد الإلهي. ولذلك تجسد الابن – المسيح - ليتحقق القصد الإلهي في خلقة الإنسان ويستعيد الإنسان ما أراده الله له منذ البدء. ويرجى مراجعة موضوع "ماذا قدم لنا المسيح بتجسده" في نهاية تفسير رسالة كولوسي. كما يرجى مراجعة موضوع "الصليب لعنة تتحول إلى بركة" في نهاية تفسير الإصحاح الثالث من رسالة غلاطية. وذلك لمنع التكرار.
2. منذ اللحظة الأولى لسقوط أبوينا الأولين كان وعد الله بالخلاص "وأضع عداوة بينك وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها. هو يسحق رأسِك (المسيح يسحق الشيطان بالصليب)، وأنت تسحقين عقبه (الشيطان هو من دبَّر ألام وصلب وموت المسيح)" (تك3: 15). ورأينا في قصة إستير ومردخاي وهامان شرح تصويري لصليب المسيح الذي دبَّره الشيطان فهلك به.
3. ورأينا تصويرًا للصليب وآلام المسيح في أماكن كثيرة جدًا في العهد القديم. أمثلة على ذلك: (تقديم إسحق ذبيحة ورجوعه حيًّا/ كل ذبائح العهد القديم تشرح فكرة الفداء بالصليب. فبريء هي الذبيحة التي تصير حاملة للخطية، تموت عوضًا عن الخاطئ/ يونان في جوف الحوت ثلاث أيام وثلاث ليالٍ كان مثالا للمسيح في جوف القبر ثلاث أيام وثلاث ليالٍ.
4. ولمحبة الله اللانهائية للإنسان الذي خلقه إذ أحبه، نرى إشتياق المسيح للصليب في نبوة إشعياء "في ذلك اليوم (يوم الصليب) يعاقب الرب بسيفه القاسي العظيم الشديد (الصليب) لوياثان الحية الهاربة. لوياثان الحية المتحوية (الشيطان). ويقتل التنين الذي في البحر (العالم). في ذلك اليوم غنوا للكرمة المشتهاة (الكنيسة). أنا الرب حارسها. أسقيها كل لحظة. لئلا يوقع بها. أحرسها ليلا ونهارا. ليس لي غيظ. ليت عليَّ الشوك والحسك (كل نتائج الخطية) في القتال (يوم الصليب) فأهجم عليها وأحرقها معا. أو يتمسك بحصني فيصنع صلحًا معي. صلحًا يصنع معي (شهوة قلب الله التصالح مع الإنسان). في المستقبل يتأصل يعقوب. يُزهِر ويُفرِع إسرائيل، ويملأون وجه المسكونة ثمارا. (الكنيسة التي تمجد الله في كل العالم، وقال عنها بولس الرسول "إسرائيل الله" غل6: 16) (إش27: 1 – 6). وعن شهوة قلب الله للتصالح مع الإنسان يقول القديس بولس الرسول "ولكن الكل من الله الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح وأعطانا خدمة المصالحة. أي أن الله كان في المسيح مصالحا العالم لنفسه غير حاسب لهم خطاياهم وواضعا فينا كلمة المصالحة" (2كو5: 18 ، 19).
5. رأينا شهوة قلب الله هي فداء الإنسان ليخلص، وتعود له الحياة الأبدية والفرح والمجد والوحدة. وفي داخل المشورة الثالوثية يقول الوحي على لسان الابن يهوه "منذ وجوده أنا هناك (الإبن أزلي). والآن السيد الرب أرسلني وروحه (هذا عن ولادة المسيح بالجسد)" (إش48: 16).
6. تجسد المسيح بولادته من بطن العذراء مريم وهو عالمٌ بكل ما سيأتي عليه، فإرادته في خلاص البشر هي نفسها إرادة الآب وهي نفسها إرادة الروح القدس. ولكن كما خلق الابن الخليقة الأولى قام الابن بخلق الخليقة الجديدة فيه "فبه كان كل شيء، وبغيره لم يكن شيء مما كان" (أف2: 10 + 2كو5: 17 + يو1: 3) لذلك فالخليقة الجديدة ستكون عمله.
7. كان المسيح عالم بكل ألامه وصلبه وقيامته ثم صعوده وجلوسه بجسده عن يمين الآب. وكان يُعَلِّم تلاميذه بكل التفاصيل حتى لا يشكوا فيه عندما يحدث هذا. وكثيرا ما أخبرهم عن الصليب (مت17: 22 ، 23 / مت26: 1 ، 2 / يو13: 1) بل وفي (مر14: 28) يخبرهم المسيح أنه سيقوم ويسبقهم إلى الجليل. وهو يعلم تماما أنه سيعلق على الصليب ليفدي الإنسان، يعلم تمامًا أن الصليب هو رسالته، بل هو مشتاق إليه لمحبته للبشر. فنجد رب المجد يقول "وكما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي (هنا نرى حتمية الصليب) أن يُرفع ابن الإنسان (أي يُعَلَّق على الصليب)، لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يو3: 14 ، 15). "أنا هو الراعي الصالح، والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف" (يو10: 11). "أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء. إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد. والخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم. (يو6: 51). وتكرار المسيح لتلاميذه على أنه سيصلب كان إشارة لحتمية الصلب. وكان تكرار إشارة المسيح لتلاميذه بحتمية الصلب تحذيرًا ليهوذا – يريد به المسيح القول بأنه سيصلب، وأنه جاء لذلك – فيا يهوذا لا تُدخِل نفسك في الموضوع لئلا تهلك. اليهود والرومان سيشتركوا في الصليب مع الشيطان فإبعد عن طريقهم أنت.
8. رأينا في (إش27: 1 – 6) شهوة قلب المسيح للصليب. وكانت فرحة قلب الآب بعودة أبنائه إلى حضنه واضحة يوم معمودية المسيح إذ قال "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت". فنحن نعود لحضن الآب في شخص إبنه. وفرحة الآب كانت هي نفسها فرحة الإبن، ولنرى قول بولس الرسول "ناظرين إلى رئيس الإيمان ومكمله يسوع، الذي من أجل السرور الموضوع أمامه، إحتمل الصليب مستهينا بالخزي، فجلس في يمين عرش الله" (عب12: 2). فإرادة الآب هي نفسها إرادة الإبن، وهي خلاص البشر "الله يريد أن جميع الناس يخلصون" (1تى2: 4).
9. ونرى إشتياق المسيح للصليب فيما حدث يوم الخميس ليلًا: فبينما كان المسيح يكلم التلاميذ في العلية ويقول "كما أوصاني الآب هكذا أفعل" إذ به يقوم قائلا "قوموا ننطلق من ههنا" (يو14: 31) فهو يعرف أن يهوذا والجند قد اقتربوا من بستان جثسيماني. وأيضًا في بستان جثسيماني قال بعد صلاته ثلاث مرات "ناموا الآن وإستريحوا، هوذا الساعة قد اقتربت، وإبن الإنسان يسلم إلى أيدي الخطاة. قوموا ننطلق. هوذا الذي يسلمني قد اقترب" (مت26: 45). فنرى في كلا المرتين أن المسيح كان متعجلا متشوقا لإتمام مهمته في خلاص البشر، هو يبادر بالذهاب لمن أتوا للقبض عليه.
10. ألام المسيح لا يمكن لبشر أن يتخيلها، فنحن خطاة بالطبيعة، لكن المسيح قدوس بلا خطية. هو لم يولد كباقي البشر وارثا للخطية، إنما أخذ من بطن العذراء جسدا بدون زرع بشر ليشابهنا في كل شيء ما خلا الخطية وحدها (عب4: 15). الابن إحتاج لجسد بشري ليتمم به الفداء، فإتخذ لاهوته جسدًا من بطن العذراء. وولادة المسيح بهذه الطريقة المعجزية أدت لأنه لم يرث الخطية الجدية. لذلك قال "من منكم يبكتني على خطية" (يو8: 46). وبيلاطس ومن حاكموا المسيح لم يجدوا فيه علة واحدة (أع13: 28). وقال عنه بولس الرسول "الذي لم يعرف خطية" (2كو5: 21). والمسيح قال عن نفسه "رئيس هذا العالم (الشيطان) يأتي (كان الشيطان يأتي لكل إنسان ساعة موته ليأخذه معه إلى الهاوية أي الجحيم) وليس له فيَّ شيء" (فالمسيح لم يكن مديونًا له إذ لم يقبل منه أي خطية) (يو14: 30). وصار هذا القدوس البار حاملا لكل خطايا العالم. بل وهو الحي الذي لا يموت، مات وكان الميت بحكم العهد القديم يعتبر نجسًا، ومن يلمسه يتنجس. "وجعل مع الأشرار قبره ... على أنه لم يصنع ظلما ولم يوجد في فمه غش" (إش53: 9). طبعا هذا بالإضافة للألام الجسدية والنفسية من هَرَب كل تلاميذه وخيانة يهوذا وكثيرين ممن كان يجول يصنع لهم خيرًا.
11. ومع معرفة المسيح بالألام التي ستقع عليه، نرى إصراره على الصليب "وحين تمت الأيام لإرتفاعه ثَبَّتَ وجهه لينطلق إلى أورشليم" (لو9: 51). فالمسيح حين اقتربت ساعة إرتفاعه على الصليب. وهذه الساعة هو الذي حددها منذ الأزل فهو ضابط الكل، أنه ثبت وجهه تجاه أورشليم. وبدأ يسير تجاه أورشليم بلا تردد، وهو عالمٌ أنه سيتألم ويموت في أورشليم وذلك ليفدي البشرية. والمسيح نفسه شرح فكرة الفداء إذ قال عن موته أنه هو "حبة الحنطة التي تموت في الأرض لتأتي بثمر كثير" (يو12: 24 - 33).
12. حاول اليهود مرارًا أن يقتلوا الرب يسوع (لو4: 29 ، 30 + يو10: 31). ولكنه كان يمر بينهم ولم يستطيعوا أن يمسوه بأذى. فهو الذي يحدد متى يصلب "لهذا يحبني الآب، لأني أضع نفسي لآخذها أيضًا. ليس أحد يأخذها مني، بل أضعها أنا من ذاتي. لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضًا" (يو10: 17 ، 18). كان على المسيح أن يتمم تعليمه ثم يُسَلِّم نفسه للموت. لذلك قيل "فطلبوا أن يمسكوه، ولم يلق أحد يدًا عليه، لأن ساعته لم تكن قد جاءت بعد" (يو7: 30 + يو8: 20).
13. المسيح لم يحدد فقط أنه سيصلب بل سيتألم (مت16: 21). وحدَّد نوع الألام "وأخذ الإثني عشر وقال لهم: ها نحن صاعدون إلى أورشليم وسيتم كل ما هو مكتوب بالأنبياء عن ابن الإنسان. لأنه يُسَلَّم إلى الأمم (الرومان) ويُستهزأ به ويشتم ويتفل عليه. ويجلدونه ويقتلونه وفي اليوم الثالث يقوم" (لو18: 31 – 33). بل هو كان يعلم أن مريم لن تجد الوقت الكافي لتكفينه، إذ كان يوم الصلب هو الجمعة مساء. وفي السبت لا يوجد بيع وشراء. فسمح لمريم أن تكفنه "فقال يسوع، أتركوها، إنها ليوم تكفيني قد حفظته" (يو12: 7).
14. وأيضا حدَّد مكان صلبه وأنه سيكون في أورشليم إذ قال "لا يمكن أن يهلك نبي خارج أورشليم" (لو13: 33). وهو يعلم أن أورشليم هي قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها (لو13: 34). ومع أنه يعلم الساعة والمكان ووحشية اليهود ونيتهم في قتله ذهب إلى أورشليم.
15. قال البعض أن المسيح في صلاته في بستان جثسيماني كرر قوله ثلاث مرات "يا أبتاه إن شئت أن تعبر عني هذه الكأس. ولكن لتكن لا كإرادتي بل إرادتك". وقالوا أن المسيح بهذا أراد أن يتراجع عن الصليب! فهل كان المسيح يريد فعلا أن لا يصلب؟! رأينا إشتياق المسيح لتلك الساعة، وهو يعلم أن هدف تجسده هو موت الصليب وأن هذه هي رسالته لخلاص البشر. وهو الذي قال عنها "الآن نفسي قد اضطربت. وماذا أقول؟ أيها الآب نجني من هذه الساعة؟. ولكن لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة. أيها الآب مَجِّد اسمك!». فجاء صوت من السماء:«مجدت، وأمجد أيضًا" (يو12: 27 ، 28). ونفهم من هذا أن صلاة المسيح في بستان جثسيماني كانت مناجاة بين الابن وأبيه السماوي، أراد أن تكون مسموعة للتلاميذ أعلانا لمحبته لنا بل وللبشر جميعًا. والتي بسببها سيدفع ثمنا غاليا هو سفك دمه على الصليب. هو أراد إعلان محبته اللانهائية بإعلان مدى الآلام التي سيعانيها من أجل كل البشر. هذه الصلاة تناظر قوله على الصليب "إلهي إلهي لماذا تركتني"؟ والمقصود من كلا الصلاتين أن المسيح أراد أن يظهر لنا وللبشرية كلها أن هذه هي الطريقة الوحيدة لخلاص الإنسان، وإخراجه من دائرة الخطية والموت. ولكن كان ذلك بثمن غالٍ جدًا. وهذا يظهر تماما بشاعة الخطية. أما طلبه من تلاميذه أن يصلوا، فكان هذا لأنه عالم بما سيحدث له في الساعات القادمة، وأن التلاميذ سيضطربون ويتزعزع إيمانهم، فأرادهم أن يصلوا لتسندهم الصلاة في ضعفهم فيتشددوا. وقوله أيها الآب مجِّد إسمك يشير لأن المسيح قد قرر ولن يتراجع عن الصليب. فبالصليب يحدث الصلح بين الله والإنسان، وبهذا يتمجد الآب بعودة أبنائه إلى حضنه. إذًا قول المسيح مجِّد إسمك كان به يطلب الصليب ليتمجد الآب بخلاص أولاده الذين أحبهم.
16. المسيح لو أراد كان في إمكانه أن يهرب من البستان أو لا يذهب للبستان أصلا، أو يهرب حين سقط الجند على وجوههم. أو يدافع عن نفسه أمام رئيس الكهنة أو أمام بيلاطس. إلا أنه لم يهرب ولم يدافع عن نفسه. فهو أتى لهذه الساعة وهو تشوق لهذه الساعة كما رأينا.
17. وفي سقوط الجند في بستان جثسيماني عندما قال "أنا هو" كان بهذا يعلن لاهوته. والمعنى أنكم لا سلطان لكم عليَّ، وأنا قادر أن أفنيكم بإثني عشر جيش من الملائكة (مت26: 47)، لكني لهذه الساعة أتيت بإرادتي. وحينما قال "أنا هو" في المرة الثانية قال لهم عن تلاميذه "دعوا هؤلاء يذهبون" (يو18: 8) وبهذا أعلن الهدف من الصليب والفداء، فهو أتى ليخلص البشر ممن يؤمنوا به، وليس لكي يهلكوا.
18. بل كان رأى المسيح أن من يعوقه عن الصليب هو الشيطان (مت16: 23).
19. هل كان اليهود يفهمون معنى الفداء؟ لقد سبق الله وأعد أذهانهم لقبول فكر الفداء بأن جعلهم يقدمون ذبائح بريئة عندما يخطئون. وقال لهم الله أنه الفادي "هكذا يقول الرب فاديكم قدوس إسرائيل" (إش43: 14). وكانوا ينتظرون مجيء المسيا الفادي، ولكننا نرى أن الفكرة قد تشوهت لديهم فانتظروا من يفديهم من الرومان ويعطيهم مجدا عالميا. وأنظر لتعليق تلميذي عمواس "ونحن كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل. ولكن مع هذا كله اليوم له ثلاثة أيام منذ حدث ذلك" (لو24: 21).
20. ولكن لنسمع قول يوحنا المعمدان المملوء من الروح القدس حين قال عن المسيح "هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم" (يو1: 29). والحمل يُقَدَّم ذبيحة للفداء.
_____