ثالثًا: شبهات وهمية
يخطئ البعض في ظنهم أن بعض نصوص الكتاب تتعارض مع الاستعداد للمستقبل بالعمل والتدبير الحسن. فيما يلي نفند ضلال تلك الشبهات واحدة فواحدة:
* الشبهة الأولى
يدعي البعض أن قول الرب بعدم الاهتمام بالغد قول يتعارض مع العمل للمستقبل.
النص الإنجيلي: "فَلاَ تَهْتَمُّوا لِلْغَدِ، لأَنَّ الْغَدَ يَهْتَمُّ بِمَا لِنَفْسِهِ. يَكْفِي الْيَوْمَ شَرُّهُ" (مت6: 34).
* تفنيد الشبهة
كلمة يهتم قد تأتي في سياق الحديث بأكثر من معنى كما يلي:
المعنى الأول: هو الحرص والهمة والحماس على إتمام عمل ما؛ كما وردت في قول الكتاب: "صَادِقَةٌ هِيَ الْكَلِمَةُ. وَأُرِيدُ أَنْ تُقَرِّرَ هذِهِ الأُمُورَ، لِكَيْ يَهْتَمَّ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ أَنْ يُمَارِسُوا أَعْمَالًا حَسَنَةً. فَإِنَّ هذِهِ الأُمُورَ هِيَ الْحَسَنَةُ وَالنَّافِعَةُ لِلنَّاسِ" (تي3: 8).
المعنى الثاني: هو القلق والخوف من معاناة قد تحل بالإنسان في المستقبل؛ وهو ما جاء في النص موضوع التساؤل كقوله: "فَلاَ تَهْتَمُّوا لِلْغَدِ، لأَنَّ الْغَدَ يَهْتَمُّ بِمَا لِنَفْسِهِ. يَكْفِي الْيَوْمَ شَرُّهُ" (مت6: 34).
بمراجعة سياق الحديث في هذا الإصحاح بدقة، نجد أن كلمة لا تهتموا قد وردت بالمعنى الثاني أي: الخوف والقلق من المستقبل.
عبارة "يكفي اليوم شره" والتي وردت بعد عبارة "فلا تهتموا بالغد"؛ تؤكد أن المعنى الثاني هو المقصود.
إن الرب في هذا النص لم يعفِ الإنسان من ضرورة الكد، وتحمل المشقات في العمل يوميًا، ولكنه يحذر من القلق والخوف مما سيأتي به الغد لأنه مجهول لديه؟
أليس من الأفضل أن يتعب المرء في العمل اليوم، حتى ولو كان من أجل الغد؟! ولا يقلق لأجل المجهول.
لقد أمر الحكيم الاقتداء بالنمل الذي يعمل في الصيف استعدادًا لفترة الشتاء، التي لا يمكن العمل فيها بحرية قائلًا: "النَّمْلُ طَائِفَةٌ غَيْرُ قَوِيَّةٍ، وَلكِنَّهُ يُعِدُّ طَعَامَهُ فِي الصَّيْفِ" (أم30: 25).
موضوع سياق حديث الرب في الإصحاح السادس من إنجيل القديس متى: قول الرب بعدم الاهتمام بالغد جاء ضمن سياق الحديث عن التثقل بالهموم، خوفًا من عدم توفر ما يلزم الإنسان من قوت وكسوة في وقت لاحق (الغد) كقوله: "لِذلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَبِمَا تَشْرَبُونَ، وَلاَ لأَجْسَادِكُمْ بِمَا تَلْبَسُونَ. أَلَيْسَتِ الْحَيَاةُ أَفْضَلَ مِنَ الطَّعَامِ، وَالْجَسَدُ أَفْضَلَ مِنَ اللِّبَاسِ؟" (مت6: 25). إن الدارس لحديث الرب سيجد أن الرب لم يتعرض لضرورة عمل الإنسان لسد احتياجاته اليومية، لكن قوله: "يكفي اليوم شره"، إشارة ضمنية لتحمل الإنسان مشقات وضيقات اليوم، والتي عبر عنها الكتاب بكلمة "شره" أي ما في اليوم من تعب ومشقات أثناء العمل.