لقد نطق زكريا الكاهن بما يجول في قلبه من شك قائلًا: "فَقَالَ زَكَرِيَّا لِلْمَلاَكِ: كَيْفَ أَعْلَمُ هذَا، لأَنِّي أَنَا شَيْخٌ وَامْرَأَتِي مُتَقَدِّمَةٌ فِي أَيَّامِهَا؟" (لو1: 18).
لقد كان زكريا الكاهن ملومًا في عدم إيمانه، لأنه لم يصدق الله الذي أرسل له جبرائيل الملاك.. لقد ظهر له الملاك بمجد وعظمة ملائكية حتى أنه اضطرب، وخاف كقول الكتاب: "فَلَمَّا رَآهُ زَكَرِيَّا اضْطَرَبَ وَوَقَعَ عَلَيْهِ خَوْفٌ" (لو1: 12).
لم يرسل له الله إنسانًا ليبشره، بل أرسل له جبرائيل المبشر العظيم الذي ظهر له بمجد نوراني. فلماذا لم يؤمن بقدرة الله على إتمام المعجزة التي بشره بها الملاك؟! ألَّا يعتبر ذلك علامة واضحة على صدق البشارة بميلاد ابنه يوحنا. أما إيمان وتسليم العذراء القديسة، وخضوعها لله فقد فاق العقل والمنطق.
في النقاط التالية نلقي الضوء على عظمة إيمان والدة الإله مريم القديسة:
* إيمان العذراء القديسة
إن أعظم دليل يشهد على إيمان الإنسان هو تسليمه وخضوعه لله حين يطلب الله منه أمرًا ضد إرادته، أو حين يطلب منه الله أمرًا غريبًا غير مألوف أو مجهول العاقبة.
لقد خضع أب الآباء إبراهيم لله، وخرج من أرضه ومن عشيرته، وأطاع الله في تسليم لمشيئته مقدمًا إسحاق ذبيحة، حتى قيل عنه: "بِالإِيمَانِ إِبْرَاهِيمُ لَمَّا دُعِيَ أَطَاعَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ عَتِيدًا أَنْ يَأْخُذَهُ مِيرَاثًا، فَخَرَجَ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَأْتِي" (عب11: 8). وهكذا فعلت العذراء حين سلمت كل أمرها في يد الله ليفعل بها كل ما أراده في طاعة وخضوع قائلة للملاك: "فَقَالَتْ مَرْيَمُ: هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ. فَمَضَى مِنْ عِنْدِهَا الْمَلاَكُ" (لو1: 38).
لقد تجلى خضوع العذراء، وتسليمها التام لله في قولها:
1- "هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ" لقد وصفت نفسها بالأَمَة أي العبدة التي يجب أن تسلم وتطيع أسيادها في خضوع تام.
2- "لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ" أي أنها توافق أن يتم فيها كل ما قاله الملاك بالضبط كما رسمه لها الله.
* شهادة أليصابات بالروح القدس عن إيمان أمنا العذراء
امتلأت أليصابات زوجة زكريا الكاهن بالروح القدس لمجرد سماع سلام العذراء مريم، وشهدت بالروح القدس (دون سابق معرفة) عن إيمان أمنا العذراء قائلة: "طوبى لمن آمنت أن يتم ما قيل لها من قبل الرب" (لو1: 45).
رابعًا: موضوع إيمان كل من العذراء وزكريا الكاهن
* عدم عقلانية ما آمنت به العذراء
الحبل بلا زواج أمر يفوق العقل، ويفوق الطبيعة، التي تشهد باستحالة الإنجاب بدون زواج. لقد آمنت أمنا مريم العذراء بأمر لا يمكن أن يخطر على عقل بشر، ويفوق كل معقول. إن اعتقاد العذراء بقدرة الله، واستطاعته على كل شيء هو أساس ومرجع تصديقها لكلام جبرائيل الملاك المبشر. لقد آمنت العذراء بقدرة الله فتغنت وسبحت عظمته قائلة: "لأَنَّ الْقَدِيرَ صَنَعَ بِي عَظَائِمَ، وَاسْمُهُ قُدُّوسٌ" (لو1: 49).
* الإنجاب في الشيخوخة معجزة إلهية مألوفة
أما زكريا الكاهن فلم يكن الحال كذلك، لأنه كان يعلم أن الله أعطى إبراهيم وسارة زوجته نسلًا بعدما شاخا، ولم يعد لهما قدرة على الإنجاب؛ إذ كان أبونا إبراهيم قد بلغ من العمر في ذلك الحين مائة سنة، وأيضًا بعدما شاخ مستودع سارة أي رحمها، ولم يعد صالحًا لحمل جنين كقول الكتاب عنهما: "فَهُوَ عَلَى خِلاَفِ الرَّجَاءِ، آمَنَ عَلَى الرَّجَاءِ، لِكَيْ يَصِيرَ أَبًا لأُمَمٍ كَثِيرَةٍ، كَمَا قِيلَ: هكَذَا يَكُونُ نَسْلُكَ. وَإِذْ لَمْ يَكُنْ ضَعِيفًا فِي الإِيمَانِ لَمْ يَعْتَبِرْ جَسَدَهُ *وَهُوَ قَدْ صَارَ مُمَاتًا، إِذْ كَانَ ابْنَ نَحْوِ مِئَةِ سَنَةٍ* وَلاَ مُمَاتِيَّةَ مُسْتَوْدَعِ سَارَةَ. وَلاَ بِعَدَمِ إِيمَانٍ ارْتَابَ فِي وَعْدِ اللهِ، بَلْ تَقَوَّى بِالإِيمَانِ مُعْطِيًا مَجْدًا ِللهِ. وَتَيَقَّنَ أَنَّ مَا وَعَدَ بِهِ هُوَ قَادِرٌ أَنْ يَفْعَلَهُ أَيْضًا" (رو4: 18- 21).
خامسًا: ليست عقوبة، بل صمت للامتلاء والخلوة المقدسة
* الملاك يوبخ زكريا الكاهن
استنكر الملاك عدم إيمان وشك كاهن الله العلي، الخبير في كلمة الله ومعاملاته، فاضطر أن يكلمه بنبرة التوبيخ، كاشفًا له عن هويته، مؤكدًا له أنه هو جبرائيل رئيس الملائكة الجليل الواقف قدام الله، وبخه لأنه لم يصدق كلامه. ثم أعطاه العلامة التي طلبها لكي يؤمن قائلًا له: "فَأَجَابَ الْمَلاَكُ وَقَالَ لَهُ: أَنَا جِبْرَائِيلُ الْوَاقِفُ قُدَّامَ اللهِ، وَأُرْسِلْتُ لأُكَلِّمَكَ وَأُبَشِّرَكَ بِهذَا. وَهَا أَنْتَ تَكُونُ صَامِتًا وَلاَ تَقْدِرُ أَنْ تَتَكَلَّمَ، إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ هذَا، لأَنَّكَ لَمْ تُصَدِّقْ كَلاَمِي الَّذِي سَيَتِمُّ فِي وَقْتِهِ" (لو1: 19- 20).
إن صمت زكريا الكاهن لا يحسب عقوبة، لكنه بالحري نوع من التوبيخ والاستنكار لخطية الشك وعدم الإيمان. لقد احتاج زكريا التبكيت الذي دفعه للتوبة ومعرفة فضل الله وعظمة مقدار نعمته، التي أفاضها عليه.
* التسبيح الواجب
كان الأولى بزكريا الكاهن أن يصدق كلام الله، فيمتلئ قلبه بالفرح الذي يؤدي به للشكر والحمد، ولكنه شك، ولم يؤمن. لقد أعطاه الله أن يصمت قليلًا، لعله يتأمل عظمة الله وهو يتابع مظاهر الحمل تبدو على زوجته.
لقد كان صمته بمثابة فترة خلوة مقدسة يعتزل فيها الناس قليلًا ليراجع النبوات والمواعيد، التي قيلت عن المسيا المنتظر، وعن يوحنا المعمدان، الذي سيتقدمه بروح إيليا، كما شهدت نبوءات الكتب المقدسة.
كانت فترة مراجعة للنفس وصلاة وتسبيح، وبعد أن أتت الخلوة المقدسة ثمارها انطلق حينئذ لسانه بالتسبيح والتمجيد لله العلي كقول الكتاب: "وَفِي الْحَالِ انْفَتَحَ فَمُهُ وَلِسَانُهُ وَتَكَلَّمَ وَبَارَكَ اللهَ" (لو1: 64).