لم يكن الربح المادي هدفًا لتلك الحروب:
لقد حارب شعب إسرائيل سكان كنعان بغرض أساسي، وهو طاعة الله، وتنفيذ أحكامه الصادرة على الأشرار قبل أي هدف آخر. لقد كبح الله شهوة الشعب للحصول على الغنائم بتحريم ممتلكات شعوب كنعان، ولهذا أيضًا عاقب الله عاخان بن كرمي الذي اشتهى واختلس رداءً شنعاريًا نفيسًا ومائتي شاقل فضة ولسان ذهب وزنه خمسون شاقلًا. وقد رُفض شاول من المُلك لنفس السبب كقول صموئيل النبي: "فَلِمَاذَا لَمْ تَسْمَعْ لِصَوْتِ الرَّبِّ، بَلْ ثُرْتَ عَلَى الْغَنِيمَةِ وَعَمِلْتَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ؟" (1صم15: 19).
خالف بني إسرائيل وصايا الله لهم بعدم الدخول في معاهدات مع شعوب كنعان، ووضعوهم تحت الجزية؛ طمعًا في الكسب المادي، لكن الله غضب عليهم وعاقبهم بتركهم ليجنوا نتيجة مخالفتهم كقول الكتاب: "وَصَعِدَ مَلاَكُ الرَّبِّ مِنَ الْجِلْجَالِ إِلَى بُوكِيمَ وَقَالَ: «قَدْ أَصْعَدْتُكُمْ مِنْ مِصْرَ وَأَتَيْتُ بِكُمْ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَقْسَمْتُ لآبَائِكُمْ، وَقُلْتُ: لاَ أَنْكُثُ عَهْدِي مَعَكُمْ إِلَى الأَبَدِ. وَأَنْتُمْ فَلاَ تَقْطَعُوا عَهْدًا مَعَ سُكَّانِ هذِهِ الأَرْضِ. اهْدِمُوا مَذَابِحَهُمْ. وَلَمْ تَسْمَعُوا لِصَوْتِي. فَمَاذَا عَمِلْتُمْ؟ فَقُلْتُ أَيْضًا: لاَ أَطْرُدُهُمْ مِنْ أَمَامِكُمْ، بَلْ يَكُونُونَ لَكُمْ مُضَايِقِينَ، وَتَكُونُ آلِهَتُهُمْ لَكُمْ شَرَكًا" (قض2: 1- 3).
ليست هذه الحروب انتقامًا شخصيًا:
الله هو القاضي العادل الذي قيل عنه: "تَهَلَّلُوا أَيُّهَا الأُمَمُ، شَعْبُهُ، لأَنَّهُ يَنْتَقِمُ بِدَمِ عَبِيدِهِ، وَيَرُدُّ نَقْمَةً عَلَى أَضْدَادِهِ، وَيَصْفَحُ عَنْ أَرْضِهِ عَنْ شَعْبِهِ" (تث32: 43). إن شريعة الله في العهد القديم أو الجديد لا تسمح بالانتقام الشخصي، فقد أقام الله قضاة ليحققوا العدالة بين الأفراد. أما الانتقام من الأمم، والشعوب الظالمة فهو أيضًا أمر يخص الله وحده. من أبرز الأمثلة التي تؤكد ذلك منع يشوع النبي شعب إسرائيل من الانتقام من الجبعونيين، الذين خدعوهم كقول الكتاب: "فَدَعَاهُمْ يَشُوعُ وَكَلَّمَهُمْ قائلًا: «لِمَاذَا خَدَعْتُمُونَا... فَأَجَابُوا يَشُوعَ وَقَالوُا: «أُخْبِرَ عَبِيدُكَ إِخْبَارًا بِمَا أَمَرَ بِهِ الرَّبُّ إِلهُكَ مُوسَى عَبْدَهُ أَنْ يُعْطِيَكُمْ كُلَّ الأَرْضِ، وَيُبِيدَ جَمِيعَ سُكَّانِ الأَرْضِ مِنْ أَمَامِكُمْ. فَخِفْنَا جِدًّا عَلَى أَنْفُسِنَا مِنْ قِبَلِكُمْ، فَفَعَلْنَا هذَا الأَمْرَ. وَالآنَ فَهُوَذَا نَحْنُ بِيَدِكَ، فَافْعَلْ بِنَا مَا هُوَ صَالِحٌ وَحَقٌّ فِي عَيْنَيْكَ أَنْ تَعْمَلَ». فَفَعَلَ بِهِمْ هكَذَا، وَأَنْقَذَهُمْ مِنْ يَدِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمْ يَقْتُلُوهُمْ" (يش9: 22- 26).
ليست حروبًا عرقية، بل هي موجهة ضد الشر:
الله هو القدوس الذي لا يتغاضى عن الشر دون النظر لشخص فاعله... لقد أكد موسى النبي تلك الحقيقة عند موت ابني هارون بسبب شرهما قائلًا: "فَخَرَجَتْ نَارٌ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ وَأَكَلَتْهُمَا، فَمَاتَا أَمَامَ الرَّبِّ. فَقَالَ مُوسَى لِهَارُونَ: «هذَا مَا تَكَلَّمَ بِهِ الرَّبُّ قائلًا: فِي الْقَرِيبِينَ مِنِّي أَتَقَدَّسُ، وَأَمَامَ جَمِيعِ الشَّعْبِ أَتَمَجَّدُ». فَصَمَتَ هَارُونُ" (لا10: 2- 3). لقد سمح الله لأمة بابل بمحاربة شعبه، وقتل الكثير منهم وسبيهم إلى أرض غريبة؛ لأن الله ضد الشر عمومًا، وليس ضد أمة بعينها.
رابعًا: الضوابط الإلهية لحروب العهد القديم:
حروب محددة بميعاد معين:
لم يسجل الكتاب المقدس أمرًا ساريًا على الدوام (مفتوحًا) بقتال غير المؤمنين؛ لأن الأمر الإلهي بالحرب تحدد بزمان امتلاك بني إسرائيل لأرض كنعان بعد خروجهم من مصر. إن ميعاد طرد الله الآموريين سكان كنعان، وقتالهم قد سبق الله وحدده بميعاد سابق، وهو الجيل الرابع لبني إسرائيل بقوله لأب الآباء إبراهيم: "فَقَالَ لأَبْرَامَ: «اعْلَمْ يَقِينًا أَنَّ نَسْلَكَ سَيَكُونُ غَرِيبًا فِي أَرْضٍ لَيْسَتْ لَهُمْ، وَيُسْتَعْبَدُونَ لَهُمْ. فَيُذِلُّونَهُمْ أَرْبَعَ مِئَةِ سَنَةٍ. ثُمَّ الأُمَّةُ الَّتِي يُسْتَعْبَدُونَ لَهَا أَنَا أَدِينُهَا... وَفِي الْجِيلِ الرَّابعِ يَرْجِعُونَ إِلَى ههُنَا، لأَنَّ ذَنْبَ الآموريين لَيْسَ إِلَى الآنَ كَامِلًا" (تك15: 13- 16). لم يقاتل إسرائيل جيرانه في عصور أخرى إلا دفاعًا عن النفس، بل لم يجرؤ ملوكهم ورؤساؤهم الأتقياء الدخول في الحرب، إلا بعد استشارة الله... فعلى سبيل المثال سأل داود الرب قبلما يحارب الفلسطينيين، الذين اجتمعوا لقتاله قائلًا: "وَجَاءَ الْفِلِسْطِينِيُّونَ وَانْتَشَرُوا فِي وَادِي الرَّفَائِيِّينَ. وَسَأَلَ دَاوُدُ مِنَ الرَّبِّ قائلًا: «أَأَصْعَدُ إِلَى الْفِلِسْطِينِيِّينَ؟ أَتَدْفَعُهُمْ لِيَدِي؟» فَقَالَ الرَّبُّ لِدَاوُدَ: «اصْعَدْ، لأَنِّي دَفْعًا أَدْفَعُ الْفِلِسْطِينِيِّينَ لِيَدِكَ" (2صم5: 18- 19). وهل كان داود يحتاج لسؤال الله، لو أن الله قد أمر أو شرع بقتال غير المؤمنين به؟!
حروب تجاه شعوب بعينها:
لم يأمر الله بني إسرائيل بتكوين إمبراطورية لمحاربة، وقتال كل من مروا به في طريقهم من أرض مصر، لكن الرب سمح لهم بتملك أرض شعوب الكنعانيين فقط، وهم بحسب قول الكتاب: "وَوَجَدْتَ قَلْبَهُ أَمِينًا أَمَامَكَ، وَقَطَعْتَ مَعَهُ الْعَهْدَ أَنْ تُعْطِيَهُ أَرْضَ الْكَنْعَانِيِّينَ وَالْحِثِّيِّينَ وَالآموريين وَالْفَرِزِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ وَالْجِرْجَاشِيِّينَ وَتُعْطِيَهَا لِنَسْلِهِ. وَقَدْ أَنْجَزْتَ وَعْدَكَ لأَنَّكَ صَادِقٌ" (نح9: 8). أما باقي الشعوب ممن قابلوهم في طريقهم إلى أرض كنعان فقد حذرهم الرب بشدة من الهجوم عليهم، وإثارتهم قائلًا: "وَأَوْصِ الشَّعْبَ قائلًا: أَنْتُمْ مَارُّونَ بِتُخْمِ إِخْوَتِكُمْ بَنِي عِيسُو السَّاكِنِينَ فِي سِعِيرَ، فَيَخَافُونَ مِنْكُمْ فَاحْتَرِزُوا جِدًّا. لاَ تَهْجِمُوا عَلَيْهِمْ، لأَنِّي لاَ أُعْطِيكُمْ مِنْ أَرْضِهِمْ وَلاَ وَطْأَةَ قَدَمٍ، لأَنِّي لِعِيسُو قَدْ أَعْطَيْتُ جَبَلَ سِعِيرَ مِيرَاثًا. طَعَامًا تَشْتَرُونَ مِنْهُمْ بِالْفِضَّةِ لِتَأْكُلُوا، وَمَاءً أَيْضًا تَبْتَاعُونَ مِنْهُمْ بِالْفِضَّةِ لِتَشْرَبُوا" (تث2: 4- 6).
لقد حذرهم الله أيضًا من معاداة بني عمون قائلًا: "فَمَتَى قَرُبْتَ إِلَى تُجَاهِ بَنِي عَمُّونَ، لاَ تُعَادِهِمْ وَلاَ تَهْجِمُوا عَلَيْهِمْ، لأَنِّي لاَ أُعْطِيكَ مِنْ أَرْضِ بَنِي عَمُّونَ مِيرَاثًا، لأَنِّي لِبَنِي لُوطٍ قَدْ أَعْطَيْتُهَا مِيرَاثًا" (تث2: 19).
حروب محددة بمنطقة جغرافية مُعلنة مسبقًا:
لقد حدد الله مسبقًا لشعبه، الأرض التي سُمح لهم بطرد ومحاربة أهلها. لم يكن الأمر متروكًا لمهارتهم في القتال. كما أعلن يشوع للشعب قائلًا: "مِنَ الْبَرِّيَّةِ وَلُبْنَانَ هذَا إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ نَهْرِ الْفُرَاتِ، جَمِيعِ أَرْضِ الْحِثِّيِّينَ، وَإِلَى الْبَحْرِ الْكَبِيرِ نَحْوَ مَغْرِبِ الشَّمْسِ يَكُونُ تُخْمُكُمْ" (يش1: 4).