الفساد التام يحتم القضاء على الممالك الشريرة:
عندما ينتشر الشر، ويعم ربوع مملكة ما يقضي الله الذي يهمه خلاص النفوس التي ستهلك بسبب تلك المملكة بخرابها وسقوطها (كما يأمر الطبيب بالتخلص من العضو الذي ثبت موته)، لأن الفساد عندما يعم كيان المملكة يتضاءل معه الأمل في الإصلاح، وليس ذلك فقط، بل ينتشر الفساد بسرعة إلى الممالك والشعوب المخالطة لها. لقد شرح إشعياء النبي موضحًا أن سبب الخراب الشديد الذي سيحل بمملكة يهوذا الشريرة هو سيادة الشر والفساد الذي عم المملكة كلها قائلًا: "وَيْلٌ لِلأُمَّةِ الْخَاطِئَةِ، الشَّعْبِ الثَّقِيلِ الإِثْمِ، نَسْلِ فَاعِلِي الشَّرِّ، أَوْلاَدِ مُفْسِدِينَ! تَرَكُوا الرَّبَّ، اسْتَهَانُوا بِقُدُّوسِ إِسْرَائِيلَ، ارْتَدُّوا إِلَى وَرَاءٍ. عَلَى مَ تُضْرَبُونَ بَعْدُ؟ تَزْدَادُونَ زَيَغَانًا! كُلُّ الرَّأْسِ مَرِيضٌ، وَكُلُّ الْقَلْبِ سَقِيمٌ. مِنْ أَسْفَلِ الْقَدَمِ إِلَى الرَّأْسِ لَيْسَ فِيهِ صِحَّةٌ، بَلْ جُرْحٌ وَأَحْبَاطٌ وَضَرْبَةٌ طَرِيَّةٌ لَمْ تُعْصَرْ وَلَمْ تُعْصَبْ وَلَمْ تُلَيَّنْ بِالزَّيْتِ. بِلاَدُكُمْ خَرِبَةٌ. مُدُنُكُمْ مُحْرَقَةٌ بِالنَّارِ. أَرْضُكُمْ تَأْكُلُهَا غُرَبَاءُ قُدَّامَكُمْ، وَهِيَ خَرِبَةٌ كَانْقِلاَبِ الْغُرَبَاءِ." (إش1: 4- 7).
تكلاهيمانوت
ثالثًا: عدالة الله وبره:
حُكم الله وعدالته لا بُد أن يشمل ممالك الشر:
الممالك الشريرة لن تُحاسب في الدهر الآتي؛ لأنه لن تكون هناك ممالك غير مملكة واحدة أسماها الكتاب المقدس ملكوت الله أو ملكوت السماوات، وعلى رأس هذه المملكة ملك واحد هو الله كقول الكتاب: "وَبَعْدَ ذلِكَ النِّهَايَةُ، مَتَى سَلَّمَ الْمُلْكَ ِللهِ الآبِ، مَتَى أَبْطَلَ كُلَّ رِيَاسَةٍ وَكُلَّ سُلْطَانٍ وَكُلَّ قُوَّةٍ. لأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَمْلِكَ حَتَّى يَضَعَ جَمِيعَ الأَعْدَاءِ تَحْتَ قَدَمَيْهِ." (1كو15: 24- 25). إذًا لابد أن يحاكم الله الأمم والشعوب لأنه ديان الأرض كلها كقول الكتاب:"قَدِ انْتَصَبَ الرَّبُّ لِلْمُخَاصَمَةِ، وَهُوَ قَائِمٌ لِدَيْنُونَةِ الشُّعُوبِ" (إش3: 13). إن الحكمة والعدل الإلهي يقتضيان ضرورة الحكم على ممالك الشر في هذا الزمان، وذلك لما يلي:
1. تحقيق العدالة الإلهية: إن القضاء على الممالك الشريرة يشهد لعدالة الله وسلطانه، وهل يليق بإله الكون العظيم غير ذلك؟! لقد تنبأ إرميا النبي بانتقام الله من مملكة بابل الشريرة مجازاة لها لما صنعته بباقي الممالك من شرور قائلًا: "فَإِنَّهُ قَرِيبٌ يَوْمُ الرَّبِّ عَلَى كُلِّ الأُمَمِ. كَمَا فَعَلْتَ يُفْعَلُ بِكَ. عَمَلُكَ يَرْتَدُّ عَلَى رَأْسِكَ" (عو 15). وأيضًا تنبأ حبقوق النبي عن خراب مملكة بابل قائلًا: "لأَنَّكَ سَلَبْتَ أُمَمًا كَثِيرَةً، فَبَقِيَّةُ الشُّعُوبِ كُلِّهَا تَسْلُبُكَ لِدِمَاءِ النَّاسِ وَظُلْمِ الأَرْضِ وَالْمَدِينَةِ وَجَمِيعِ السَّاكِنِينَ فِيهَا." (حب2: 8).
2. ضبط الكون: من العدل ألا يترك الله الشرير يعبث بمصائر وأقدار الناس كما يشاء. لقد أكد الله على لسان إشعياء النبي أنه لن يترك ملك أشور المتعجرف يصنع ما يريده من شر قائلًا: "لأَنَّ هَيَجَانَكَ عَلَيَّ وَعَجْرَفَتَكَ قَدْ صَعِدَا إِلَى أُذُنَيَّ، أَضَعُ خِزَامَتِي فِي أَنْفِكَ وَشَكِيمَتِي فِي شَفَتَيْكَ، وَأَرُدُّكَ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي جِئْتَ فِيهِ." (إش37: 29).
3. لأنها لا تستحق الوجود: الممالك الشريرة التي لا فائدة منها لا توجد علة أو سببًا لوجودها، لأن بر الله يقتضي ألا يترك الله من لا فائدة منه، ولا معنى لوجوده. لقد أكد الرب أنه لا يجب أن يتمتع بالحياة من انعدم الخير فيه قائلًا بمثل: "فَقَالَ لِلْكَرَّامِ: هُوَذَا ثَلاَثُ سِنِينَ آتِي أَطْلُبُ ثَمَرًا فِي هذِهِ التِّينَةِ وَلَمْ أَجِدْ. اِقْطَعْهَا! لِمَاذَا تُبَطِّلُ الأَرْضَ أَيْضًا؟" (لو13: 7). وقد أكد الوحي الإلهي ذلك أيضًا قائلًا: "لأَنَّ الْمُسْتَقِيمِينَ يَسْكُنُونَ الأَرْضَ، وَالْكَامِلِينَ يَبْقَوْنَ فِيهَا. أَمَّا الأَشْرَارُ فَيَنْقَرِضُونَ مِنَ الأَرْضِ، وَالْغَادِرُونَ يُسْتَأْصَلُونَ مِنْهَا. (أم2: 21- 22).
4. مجد الله: اتكلت الممالك الشريرة على آلهتها الشيطانية، أو على قوتها العسكرية، أو ثرواتها وخيراتها متناسيةً فضل الله في تحدٍّ وعجرفة بعد أن صدقت شعوبها وحلفاؤها أكاذيبها. إن خير مثال لذلك هو اتكال ملك أشور على آلهته، وقول رسوله لحزقيا ملك يهوذا: "«هكَذَا تُكَلِّمُونَ حَزَقِيَّا مَلِكَ يَهُوذَا قَائِلِينَ: لاَ يَخْدَعْكَ إِلهُكَ الَّذِي أَنْتَ مُتَوَكِّلٌ عَلَيْهِ، قائلًا: لاَ تُدْفَعُ أُورُشَلِيمُ إِلَى يَدِ مَلِكِ أشور. إِنَّكَ قَدْ سَمِعْتَ مَا فَعَلَ مُلُوكُ أشور بِجَمِيعِ الأَرَاضِي لِتَحْرِيمِهَا. وَهَلْ تَنْجُو أَنْتَ؟" (إش37: 10- 11). إن تأثير قضاء الله على شر هذه الممالك يُظهر عدالة الله وبره وقدسيته، وبالتالي هو إعلان لمجد الله كقول الكتاب: "فَيَعْرِفُ الْمِصْرِيُّونَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ حِينَ أَتَمَجَّدُ بِفِرْعَوْنَ وَمَرْكَبَاتِهِ وَفُرْسَانِهِ». (خر14: 18).
طول أناة الله على الممالك الشريرة:
قد يتأنى الله ويصبر في عقابه للأمم الشريرة حتى ينعدم الأمل في إصلاحهم، وقد يطول تأني الله عليهم عشرات السنوات، أو مئات السنوات أملًا في توبتهم. فيما يلي بعض أمثلة لتأني الله على الممالك والجماعات الشريرة:
1. العالم الشرير أيام نوح البار: لقد شهد الوحي الإلهي بطول أناة الله في ذلك الزمان قائلًا: "إِذْ عَصَتْ قَدِيمًا، حِينَ كَانَتْ أَنَاةُ اللهِ تَنْتَظِرُ مَرَّةً فِي أَيَّامِ نُوحٍ، إِذْ كَانَ الْفُلْكُ يُبْنَى، الَّذِي فِيهِ خَلَصَ قَلِيلُونَ، أَيْ ثَمَانِي أَنْفُسٍ بِالْمَاءِ." (1بط3: 20). لقد بنى نوح الفلك خلال مائة وعشرين سنة، كان نوح البار يكرز خلال هذه السنوات بمجيء دينونة الله.
2. مملكة آشور وخراب عاصمتها نينوى: أنذرهم الله على يد يونان النبي ما بين سنة 825 ق. م. وسنة 784 ق.م. وعندما تابوا قبلهم الله، ثم عادوا وفعلوا شرورا كثيرة وعم الفساد بلادهم؛ فأرسل الله لهم إنذارًا بخراب بلادهم على يد ناحوم النبي سنة 650 ق.م. بقوله: "وَحْيٌ عَلَى نِينَوَى. سِفْرُ رُؤْيَا نَاحُومَ الأَلْقُوشِيِّ.. وَلكِنْ بِطُوفَانٍ عَابِرٍ يَصْنَعُ هَلاَكًا تَامًّا لِمَوْضِعِهَا، وَأَعْدَاؤُهُ يَتْبَعُهُمْ ظَلاَمٌ." (نا1: 1- 8). وقد تمت هذه النبوءة عندما هاجمهم الميديون والكلدانيون عام 612 ق. م. وهكذا اختفت الإمبراطورية الآشورية من خريطة العالم عام 609 ق.م.
3. الأموريين سكان كنعان: تأنى الله على سكان أرض كنعان حوالي أربعمائة عام، إلى أن فاض مكيال شرورهم واستوفوا كل فرصة للتوبة. لقد أخبر الله إبراهيم أب الآباء مسبقًا أن نسله سيملك تلك الأرض، ولكن ليس الآن لأن ذنبهم لم يكن كاملًا في ذلك الحين: "وَفِي الْجِيلِ الرَّابعِ يَرْجِعُونَ إِلَى ههُنَا، لأَنَّ ذَنْبَ الأموريين لَيْسَ إِلَى الآنَ كَامِلًا" (تك15: 16).