5ـ ليس معنى صلاة السيد المسيح "لتكُن لا إرَادتي بل إرَادَتُك" (لو 22: 42) إن إرادة الابن تخالف إرادة الآب. كلاَّ لأن الآب والابن والروح القدس لهم الجوهر الإلهي الواحد، وبالتالي فلهم إرادة واحدة ومشيئة واحدة، أمّا كلام السيد المسيح هنا فهو يقصد به المشيئة الإنسانية التي لا تشأ هذه الكأس المرَّة وتلك الآلام النفسيَّة والجسديَّة الرهيبة وهو البار القدوس، ويجب أن نلاحظ أن المشيئة شيء والتنفيذ والقرار شيء آخَر، فمثلًا عندما أقول أنني أشاء أن أشرب كأس ماء لأنني عطشان جدًا، فهذا مجرَّد مشيئة وليس معنى هذا أنني قد شربت الماء، وذلك لأنني قررت رغم عطشي أنني لن أشرب الماء لأني صائم، وهكذا شاء السيد المسيح أن تعبر هذه الكأس عنه: "جَعَل الذي لم يَعرف خطيَّةً، خَطيّة لأجلنا" (2كو 5: 21)، "مَلعون كلَّ من عُلِّق على خَشَبة" (غل 3: 13) ومع كل هذا فإنه قرَّر أن يكمل مشوار الصليب، ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: "هذه ليست أقوال لاهوته لكنها أقوال طبيعته الإنسانيَّة التي لا تشأ أن تموت، وتتمسك بهذه الحياة الحاضرة، موضحًا بذلك أنه لم يكن خارج الآلام الإنسانيَّة، لأنه كما أن الجوع ليس زللًا ولا النوم، فكذلك ولا الارتياح إلى الحياة الحاضرة زلل، وللسيد المسيح جسد نقي من الخطايا، وليس جسد متخلص من الضرورات الطبيعية، لذا اقتضت الحكمة أن يكون له جسد"(141).
ويقول نيافة الأنبا بيشوي مطران دمياط وكفر الشيخ: "لتكن لا رغبات الجسد في أن يرتاح أو يتحرَّر من الآلام الجسديَّة أو النفسية. تعرّض السيد المسيح لآلام نفسية مريرة بجوار الآلام الجسدية. تمثلت هذه الآلام النفسيَّة في الآلام التي عاناها السيد المسيح نتيجة لخيانة يهوذا (فهو إحساس مر أن يهوذا تلميذه يُقبّله ويُسلّمه لأعدائه بهذه الصورة) وأيضًا في تعبيرات الناس الذين أتى لأجل خلاصهم ويقدّم لهم حُبّه فتكون هذه هي مكافأته. إحساس مر لا يُعبَّر عنه. كما أن كونه موضوعًا في وضع المعلون والمصاب والمضروب من اللَّه ويحمل كل خطايا البشريَّة لكي يُقدّم ثمن عصيان الإنسان وتمرُّده. كأس مملوءة بالمُرّ. كان من الطبيعي أن النفس والجسد يشعران أنهما أمام اجتياز كأس مريرة جدًا لا بد أن يشربها إلى نهايتها فيقول له: "لتكُن لا إرادَتي" (لو 22: 42) وليس المقصود بالإرادة هنا الإرادة المسئولة عن اتخاذ القرار، لأن القرار هو قرار الخلاص الذي أتى المسيح لأجله، إنما المقصود بها هو الاحتياج الطبيعي الناشئ من حمله لطبيعة بشرية حقيقية تشعر بالألم والحزن وبالمعاناة. وهذه الطبيعة وهي في معاناتها الرهيبة تريد أن تقول للآب لن يكون قراري مبنيًا على ما في هذه الخصائص البشرية من تعب وألم وحزن، لكنه مبني على ما في رغبتي الكاملة في إرضاء الآب وفي تخليص الذين أحبَهم للمنتهى فهو الذي قيل عنه: "أحب خاصَّتَه الذين في العالم، أحبَّهم إلى المنتَهى" (يو 13: 1)(142).
6ـ عندما أظهر السيد المسيح في البستان الضعف البشري، فهو بهذا أمعن في إخفاء لاهوته عن الشيطان، حتى يستمر الشيطان في تعديه على شخص السيد المسيح وبالتالي يستوجب الدينونة العادلة.
7ـ عندما صلّـى السيد المسيح: "يا أبتاهُ، إن أمكَـن فلتَعْبُر عني هذه الكأس" (مت 26: 39)، لم يقصد على الإطلاق أن يستعفي من الصليب.. لقد أحبَّ الصليب واعتبره مجده لأن بواسطته يسحق الشيطان ويُخلّص الإنسان، وعندما أراد بطرس أن ينهاه عن الصليب قال له: "اذهب عَني يا شيطان! أنت مَعْثرة لي، لأنك لا تهتَمُّ بما للَّه لكن بما للناس" (مت 16: 23) وقال: "أنا هو الرّاعي الصَّالح، والرَّاعي الصَّالح يَبْذِل نفسه عن الخراف" (يو 10: 11) وشبَّه نفسه بحبة الحنطة قائلًا: "الحقَّ الحقَّ أقول لكم: إن لم تَقَع حَبَّة الحِنْطَةِ في الأرض وتَمُت فهي تبْقى وحْدَهَا. ولكن إن ماتت تأتي بثمَر كثير" (يو 12: 24) وتنبأ مرارًا وتكرارًا عن موته كما رأينا من قبل.
وصلاة السيد المسيح هذه تُظهِر أولًا مدى ثقل الخطايا، وتُظهِر ثانيًا حقيقة الآلام النفسيَّة والجسديَّة التي جاز فيها مُخلّصنا الصالح، ويقول القديس أثناسيوس الرسولي: "وعن قولـه {إن أمْكَنَ فلتَعْبُر عني الكأس} (مت 26: 39) اعلموا كيف أنه رغم كلامه هكذا، فقد انتهر بطرس قائلًا: {لأنك لا تهتَمُّ بما للَّه ولكن بما للناس} (مر 8: 33) لأنه كان يريد هذه الكأس التي طلب أن تعبر عنه، إذ لأجل هذا قد جاء ولكن الإرادة كانت له. أما الخوف فهو خاص بالجسد، لذلك فقد نَطَق بهذا الكلام أيضًا كإنسان، ومع ذلك فالأمران معًا قالهما نفس الشخص.. فكلمته وفعله يحدثان معًا، لأن الأقـوال {أعبر عنـي الكأس} و{لماذا تركتني؟} هي إنسانيَّة، وهو قد جعل الشمس تحتجب والموتى يقومون إلهيًّا. وأيضًا إنسانيًّا قال: {الآن نفسي قد اضْطَرَبت} (يو 12: 27) وإلهيًّا قال: {لي سلطان أن أضعُها (نفسي) ولي سُلطانٌ أن آخُذَها أيضًا} (يو 10: 18) فكونه يضطرب فهذا أمر خاص بالجسد، وأن يكون له سلطان أن يضع نفسه وأن يأخذها أيضًا حينما يريد، فهذا أمر ليس خاصًا بطبيعة البشر، بل بقوة الكلمة. لأن الإنسان لا يموت بسلطانه الخاص بل باضطرار الطبيعة ورغم إرادته. أما الرب فلأنه هو نفسه غير مائت، ولكن لأنه أخذ جسدًا مائتًا، فله السلطان كإله أن يفصل النفس عن الجسد، وأن يعيدها أيضًا، حينما يريد"(143).
والسيد المسيح الذي صلَّى لكيما تعبر عنه هذه الكأس كان قويًا جدًا في تسليمه لذاته "فخَرَج يسوع وهو عَالِم بكل ما يأتي عليه، وقال لهم مَن تطلبون؟ أجابوه يسوع الناصِريّ. قال لهم يسوع: أنا هو. وكان يهوذا مُسلِّمه أيضًا واقفًا معهم. فلمَّا قال لهم إني أنا هو، رَجَعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض" (يو 18: 4 ـ 6) ألم تكن هذه فرصة مواتية للهرب؟ بلا شك ولكن السيد المسيح لم يهرب، بل ظل منتظرًا حتى نهضوا من سقطتهم وسألهم ثانية: "مَن تطلبون. فقالوا يسوع الناصريّ. أجاب يسوع قد قلت لكم إني أنا هو. فإن كنتم تطلبونني فدعوا هؤلاء يذهبون" (يو 18: 7، 8).. فكم كان قويًّا في تسليم ذاته لهم؟!.. وكم كان قويًّا عندما اشترط عليهم أن يتركوا تلاميذه يمضون لكيما يذهب معهم؟!.. وكم كان قويًّا وعطوفًا عندما شفى أُذن ملخس؟!
أما تساؤل البعض: كيف يظهر ملاك ليقويه وهو الإله؟
فإن هذا الأمر قد حَدَث من أجلنا نحن، لكيما يضع أمامنا مثالًا عمليًا أنه وقت انسكابنا في الصلوات أثناء التجربة لا بد أن تحضر الملائكة لتقوينا. أما ملاك البستان الذي ظهر لمخلصنا الصالح فكان يقويه بمعنى أن يسبّحه ويمجده في آلامه المقدَّسة قائلًا له: "لك القوة والمجد والبركة والعزّة إلى الأبد آمين. يا عمانوئيل إلهنا وملكنا" وهذه هي تسبحتنا طوال أسبوع الآلام عوضًا عن المزامير.