وكان السيد المسيح يصلّي بأشد لجاجة حتى أن الشعيرات الدموية الدقيقة للغدد العرقية قد انفجرت، فامتزج العرق بالدم، وهي حالة نادرة الحدوث بسبب المعاناة النفسية الرهيبة التي جاز فيها رب المجد كإنسان، ويقول القس عبد المسيح بسيط: "قدَّم السيد المسيح هذه الصلاة للآب كإنسان يواجه آلامًا نفسية وجسمية وكفارية لا يقوى عليها إنسان مهما كان. كانت الخطية التي صنعها الإنسان غير محدودة لأنه عصى اللَّه غير المحدود، وبالتالي كانت عقوبة الخطية غير محدودة وآلامها غير محدودة، ولا يتحمّلها الإنسان المحدود وحده دون اللاهوت، ولكن اللاهوت لا يتألَّم ولا يتحمَّل عقوبة الإنسان، والمسيح جاء ليتحمَّل الآلام كإنسان وليس كإله، جاء ليتحملها بناسوته المحدود المتحد بلاهوته غير المحدود. ولكن كإنسان صلَّى وكإنسان صارع {بصراخ شديد ودموع وطلباتٍ وتضرعات} ولكنه لم يطلب النجاة من الألم أو الموت بمعنى الهروب منها، كلا. ولم يطلب أن {تعبر عنه الكأس} وأن {تجتازه} بمعنى أن لا يذوق الألم والموت. حاشا"(137).
2ـ صلَّى السيد المسيح في البستان بدموع وجهاد وطلباتٍ وتضرعات لأنه كان يجب أن يحمل خطايا العالم كله وهو القدوس الذي بلا خطية وحده.. تصوَّر يا صديقي أن يبدو القدوس الطاهر وكأنه قاتل زاني فاسق سكير خائن نمَّام كذاب متكبِّر أناني طمَّاع.. إلخ.. كم يكون حزنه؟! حقًا لقد تجمّعت وتشابكت كل خطايا البشرية منذ بدء الخليقة وحتى نهايتها، ووضعت عصارة كل الخطايا في كأس على الفادي أن يتجرَّعه حتى الثمالة، فيحمل في جسده عقاب كل الخطايا.. فكم يكون حزنه؟!!.. أضف إلى هذا الصليب بكل أهواله من جهة الآلام الجسدية وجميعها مكشوفة أمامه ولا بد أن يجوز فيها ولن يسمح للاهوته بتخفيف أي نوع من هذه الآلام.. آلام حقيقية رهيبة لا بد أن يجوز فيها.. فكم يكون حزنه؟.. قال وليم باركلي: "لقد حزن المسيح واكتئب وصلى وهو يخوض معركة الألم أمام شبح الصليب الرهيب. لكي يلتقي الإنسان بالموت، فهذا أمر ليس مقبولًا على الإطلاق، وأن يموت في عنفوان شبابه أمر بغيض، وأن يموت على الصليب أمر قاسي.. لقد كان الصليب يعني أحمال البشرية وذنوبها وعارها منذ بدء الخليقة وإلى نهاية الأجيال. وكم قال المرنم بروح النبوّة {العار كسر قلبي فمرضت} لقد كان الصليب أكثر من ميتة قاسية مرَّة، لقد كان يعني العار والخزي واحتجاب وجه اللَّه الآب وحسبانه عار على كل الشعوب ومحتقر الأمم.. إن الشجاعة الحقيقية لا تستلزم عدم الخوف، بل تقتضي أن نسير في طريق التضحية والموت حتى النهاية حتى ولو ساورنا الألم والخوف. وهنا تكمن شجاعة يسوع المسيح" (شرح بشارة يوحنا جـ 2 ص 255)(138).
ويقول القمص تادرس يعقوب: "إذ دخل المسيح في دائرة الصليب في طاعة كاملة للآب صرخ مقدّمًا طلبات وتضرُّعات، قائلًا: {نفسي حزينة جدًا حتى الموت}.. {لتكن لا إرادتي بل إرادتك}.. كان لا بد أن يصرخ ويئن لأنه صار إنسانًا حقًا وحمل آلامًا حقيقية!"(139).
في التجربة على الجبل قدَّم الشيطان للسيد المسيح كل الإغراءات التي رفضها فاندحر الشيطان أمامه، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وفي البستان ضغط الشيطان على السيد المسيح برعبة الموت، ولم يشأ الرب يسوع أن يطرده من أمامه بقوة لاهوته، ولكنه وقف كإنسان كامل يسكب نفسه في صلوات عميقة أمام الآب، فغلب الشرير وانتصر عليه ودحره.
3ـ هذه الصلوات تؤكد حقيقة التجسد، فإذ لبس جسدًا حقيقيًا وليس جسدًا خياليًا كما ادعى ذلك فالنتينس وماني وأوطاخي ظهرت مشاعره الإنسانية في هذا الموقف الرهيب.
4ـ السيد المسيح هو مثلنا الأعلى في كل شيء، وهو المعلم الصالح الذي لم يشأ أن يعلّمنا بالكلام فقط، بل بالكلام والسلوك، ولذلك صلَّى وقت التجربة، وطلب من التلاميذ أن يصلّوا أيضًا "اسهَرُوا وصَلّوا لئلا تدخُلوا في تجربة. أمَّا الروح فنشِيطٌ وأما الجَسَد فضَعيف" (مت 26: 41).. إنه يقدم نفسه في صلوات عميقة بلجاجة وقت الضيق لكيما يعلّمنا أن نقدّم مشيئة اللَّه على مشيئتنا البشرية "ليس كما أُريد أنا بل كما تُريدُ أنت. يا أبتاهُ، إن لم يُمكِن أن تعبُر عني هذه الكأس ألاَّ أشرَبها، فلتكُن مشيئَتُك" (مت 26: 39، 42) ويقول القديس كيرلس الكبير: "وكان يصلّي عندما كان الذين يريدون أن يمسكوه على الأبواب، لا يفهم أحد أنه يقدّم هنا توسلات كمن هو في حاجة إلى قوة أو عون من آخَر، إذ هو نفسه قوة اللَّه الآب القدير وسلطانه. إنما صنع ذلك ليُعلّمنا لكي ينتزع عنا التراخي عند حلول التجربة وعندما يضغط الاضطهاد علينا، وعندما تُلقى شباك الغدر ضدنا، وتكون شبكة الموت مُعدَّة لنا، فإن وسيلة خلاصنا هي السهر وإحناء الرُّكب وتقديم التوسلات وسؤال العون من فوق حتى لا نضعف ويصيبنا هلاكًا مرعبًا"(140).