وكمثال ثالث عشر: المسيحي الأرثوذكسي يحترم الكهنوت ويعمل له اعتبارًا كبيرًا ويتبارك منه ويحس ببركة عند دخول الكاهن إلى بيته، غير ناظر إلى شخص الكاهن وضعفاته بقدر ما ينظر إلى قدسية السر (أع20: 28، في1: 1، 1تي3: 2) وبركته العظيمة التي يحملها وخصوصًا أن الله شرف من يحمل الكهنوت برعاية خرافه الناطقة وإرشادهم إلى طريق الحق والخلاص، وأيده بقوة لخدمة الكلمة، وأعطاه سلطان الحل والربط وسلطان مغفرة الخطايا أو مسكها وإقامة سر ذبيحة جسد المسيح ودمه الأقدسين وبقية الأسرار المقدسة، وأمر بطاعته والاستماع له حيث أنه من فم الكاهن تطلب الشريعة. وعلى حد قول أحد الآباء "عظيمة هي مهمة الكهنة وعظيمة رتبتهم فلقد أعطى لهم ما لم يُعط للملائكة".
وكمثال رابع عشر: المسيحي الأرثوذكسي له أعياده الروحية اليومية والشهرية والسنوية وله طريقته الخاصة في الاحتفال بها بطريقة حسية ملموسة تقرب له معاني الإنجيل وتذكره بحياة السيد المسيح والرسل والقديسين والملائكة وتجسمها أمامه لكي يحيا فيها وبها، وله فرحه الروحي وبهجته التي يحصل عليها من هذه الأعياد وتذكاراتها. مستندًا في الاحتفال بها إلى أوامر الله بخصوص الأعياد بحفظها وتقديسها (خر12: 14) ونسبتها إليه بقوله هذه مواسمي وأعيادي (لا23: 1) وإلى احتفال الرسل بها (أع18: 21) وإلى وصيتهم بخصوصها (1كو5: 8) وإلى الحكمة المستفادة منها عموما، إذ تذكره بإحسانات الله وخيراته عليه التي أنعم له بها في ابنه، ولتقديم الشكر له وتمجيده وتجديد العهد بالحياة معه.
أما اهتمامه بأعياد القديسين فللأمر الإلهي بتطويبهم في جميع الأجيال، انظر القديسة مريم (لو1: 48، 49) ويوحنا المعمدان (لو7: 26-28) والمرأة الخاطئة (مر14: 9) وجميع القديسين (عب13: 7). ولأنه يحيى فضائلهم وبطولة إيمانهم وتقواهم وعملهم ودفاعهم عن الحق فهم قدوة إنجيلية عملية لجميع المؤمنين، بل احتفاله بالقديسين لتكريمهم هو تكريم للمسيح نفسه (لو10: 16) الذي أحبوه وأعلنوا حبه للعالم وبذلوا حياتهم من أجله.
وكمثال خامس عشر: المسيحي الأرثوذكسي يؤمن بأهمية الصلوات والطلبات والبخور الذي ترفعه الكنيسة من أجل الراحلين وعلى أنفس الذين رقدوا، ويؤمن بفاعليتها أمام عرش النعمة لاستمطار مراحم الله كشفاعة من الأحياء لأجل الأموات، كما يؤمن بقدرتها على تعزية القلب وبرودة النفس بالنسبة للأحياء، وحثهم على الاستعداد للموت بالتوبة عن الخطية وبعبادة الله بأمانة وبعمل الخير والرحمة، لذلك هو يتجه إلى الكنيسة عند رحيل أحد أقاربه أو أحبائه إذ ينال تعزية خاصة من خلال صلواتها وألحانها وطلباتها وبخورها.
وهذا ليس أمرًا مستحدثًا أو غريبًا في حياته الدينية لأن الآباء والأنبياء كانوا يحتفلون بموتاهم ويقيمون الصلاة من أجلهم (تك50: 7)، (1صم25: 1، مك22: 42) ويوسف الرامي ونيقوديموس احتفلا بدفن جسد المخلص (يو19: 39، 40) بتسبيح وتقديس. أما الرسل والآباء فقد وضعوا ترتيبا للصلاة على الراقدين خاصا بكل واحد من المؤمنين كل حسب رتبته، كما هو مستقر في البيعة ومثبوت في كتبها.
وكمثال سادس عشر: المسيحي الأرثوذكسي يؤمن بكرامة الرهبنة العابدة وببركة البتولية وأفضليتها على الزواج وذلك من أقوال الله (مت19: 12، 1كو7)، ومن النماذج الحية التي يقدمها الكتاب من المتبتلين أمثال إيليا وأليشع ويوحنا المعمدان ويوحنا الحبيب وبولس الرسول وغيرهم، ومن أمثلة عظماء التاريخ الكنسي من القديسين والبطاركة الذين صنع الله على أيديهم المعجزات وكانوا من الرهبان والمتبتلين، ومن نصيب هؤلاء من المجد السماوي حيث نرى المتبتلين في الصفوف الأولى في موكب المفديين الذين اشتروا من بين الناس باكورة لله (رؤ14: 1-5)، وأيضًا من نموذج الحياة الفعلية التي يحياها الرهبان والمتبتلون، فهم أناس ماتوا عن الجسد والعالم وتفرغوا للعبادة والتأمل والعشرة مع الله، وهم بذلك أكثر الناس قربًا إليه والتصاقا به. من أجل هذا كانت الرهبنة والبتولية بالنسبة للمسيحي الأرثوذكسي أمنية يتطلع إليها ويشعر بخسارة سماوية إن ضاعت فرصتها منه.
ومن أجل هذا نجد سعادته وتعزيته في محاولة تحقيق هذه الحياة نوعًا في أسلوب حياته في العالم، فيجتهد لكي يحيا في سيرة روحانية مقاومًا إكمال شهوات الجسد، ساعيًا في أن يتمتع على قدر استطاعته بأوقات الأصوام والخلوات الروحية، وفي أن يزور الأديرة وينال بركة قديسيها ورهبانها وأن ينهل من كتاباتهم ويستنشق عبير سيرهم المباركة ويتلذذ بأخبارهم الشهية.
وكمثال سابع عشر: المسيحي الأرثوذكسي يؤمن بحياة الشهادة أو الاستشهاد، أي سفك الدم على مذبح الإيمان بالمسيح فكنيسته هي كنيسة الشهداء، بل هي أغنى كنائس العالم بهم، لذلك فالشهادة تجري في دمه وهو يحياها كل يوم، ويتمنى أن ينال إكليلها، وهو يسير على دربها وقد تمرس على حياة الألم واحتمال الضيق والإهانات من أجل المسيح، ولسان حاله يقول كل يوم مع بولس الرسول "من أجلك نُمات كل النهار" (رو8: 36)، وأصبحت الحياة رخيصة عنده مقابل حصوله على مجد وسعادة الأبد، بل أصبح اشتياقه إلى بهاء المسيح أفضل من كل شيء.
هذه أمثلة للعقائد والاتجاهات والقيم الروحية التي يحيا فيها وبها القبطي الأرثوذكسي، وتصبغ حياته وبيته وسلوكه بأسلوب خاص وطابع معين يميزه عن المسيحي المخالف له في المذهب.
فالمسيحي البروتستانتي مثلًا لا يؤمن بشفاعة القديسين ولا بتكريم السيدة العذراء ولا ببركة الصور المقدسة ولا بقوة فاعلية رشم علامة الصليب، كما لا يؤمن بصلوات الأجبية ولا بصوم يومي الأربعاء والجمعة ولا ببقية الأصوام المرتبة في الكنيسة، كما لا يؤمن بسلامة قانونية الكنيسة الأرثوذكسية وقدسية كهنوتها ولا بالمذبح ولا بتناول جسد المسيح ودمه الأقدسين من على هذا المذبح ولا يؤمن بسر مسحة المرضى ولا يؤمن بسر الاعتراف ولا يؤمن بطريقة الاحتفال بالأعياد المسيحية كما هو في الكنيسة الأرثوذكسية، ولا يؤمن بكرامة الرهبنة وبفاعليتها في حياة الكنيسة كما لا يعطي كرامة للشهداء ولا لعجائب الله فيهم، كما لو كانت شهادتهم أو كما لو كان سفك دمهم في نظره شيئًا رخيصًا غير ذى قيمة لا من جهة حفاظهم على الإيمان ولا من جهة محبتهم للمسيح. كما يتمسك بطريقته الخاصة المنفردة في تفسير بعض آيات الإنجيل المتعلقة ببعض الطقوس.
أما المسيحي الكاثوليكي، فلئن كانت كنيسته تقليدية رسولية تؤمن بأسرار الكنيسة السبعة وتمارسها كما تؤمن ببقية قيم الحياة الأرثوذكسية إلا أنه قد ابتعد بعلمه ومعرفته عن التخم القديم أي الحدود التي وضعها الآباء للعبادات والممارسات الإيمانية بما قدمته له التفسيحات الرومانية من تسهيلات قللت من شأن الأصوام والصلوات والعبادات والقداسات كيفا وكما؛ مما قلل أيضًا من تأثيرها الوجداني في نفسية الفرد ومن فاعليتها القوية في حياته الروحية.
كما أن هناك بعض المبادئ والعلاقات التي يقرها اللاهوت الأدبي الكاثوليكي ولا يقرها اللاهوت الأرثوذكسي.
من هذه الأمثلة تبدو الفوارق المتعددة التي تباعد بين أصحاب المذاهب المختلفة في أسلوب الحياة اليومية بل وفي العلاقات مع الآخرين مما يوضح تأثيرها على حياة الناس.
من أجل هذا كانت حكمة الكنيسة الأرثوذكسية في اشتراطها بأن يكون الزوجان متفقين في الملة والمذهب وإن كانا مختلفين فيجب أن يتوحدا أولًا قبل أن يتزوجا وذلك بانضمام أحد الطرفين للآخر انضمامًا رسميًا أي بالطريق القانوني الكنسي، وانضماما فعليًا بمزاولة الممارسات الروحية ذاتها تحقيقًا للغاية التي فرضتها الكنيسة من الانضمام لتتميم الزواج، وليس ذلك إلا لتذويب الفوارق وتوحيد الفكر والقلب ونموذج السلوك وأسلوب الحياة بكامله بين الطرفين حتى تستبعد بذلك عاملا معوقا لاستقامة الحياة العائلية بين الزوجين، وتتفادى معطلًا لنمو ونشأة الأبناء في جو من التوافق والوئام الأسري.
من هذا يتضح أن ذكر تلك الأمثلة في حياة المسيحي الأرثوذكسي ومقارنتها بما يقابلها في حياة المسيحي من المذاهب الأخرى لم يقصد منه إظهار امتيازات معينة لطرف على طرف آخر، وإنما قصد به بيان ما أمكن من الفوارق الحقيقية بين هذه الأطراف لتوضيح ما يمكن أن تؤثر به هذه الفوارق على حياة مشتركة لطرفين منهم في سر الزيجة المقدس، خصوصًا أننا رأينا إلى أي مدى تتعدد هذه الفوارق حتى أنها تشمل جميع مناحي الحياة اليومية والأسبوعية والشهرية وعلى مدار كل العام، كما تشمل الموت والحياة، والمرض، ووسائل العبادة، وطريقة فهم كلمة الله، وحتى النظرة إلى مستوى بعض الفضائل ذاتها.
كما وأن ذكر تلك الأمثلة لا ينفي محبة المسيحيين جميعهم بعضهم لبعض مهما اختلفوا في الملة أو المذهب ومحبتهم أيضًا لغير المسيحيين الذين يختلفون معهم في الإيمان كله، لأن المحبة والمعاملات الطيبة وتقديم الخدمات والتضحيات لجميع الناس أيًا كانوا شيء تفرضه التعاليم الإنجيلية على كل المؤمنين بالمسيح، أما شركة الحياة التي تقوم بالزواج فلا يصح أن تنحرف وتكون سببًا في التفريط في الإيمان أو التهاون في العقيدة.
والمسيحي الأرثوذكسي يجب أن يكون قلبه مفتوحا بالحب والصفح والعطاء لكل أحد، ولكنه في نفس الوقت لا يصح أن يبيع ذاته ولا إيمانه أو عقيدته في سبيل الزواج غير السليم من أي أحد يختلف عنه في الإيمان أو المذهب أو الملة.