2 - دعوة المتزوجين إلى البتولية:
أ - قاعدة واحدة للبتولية والاستشهاد:
إن هناك دعوة من الله لبعض المتزوجين لكي يعيشوا جزئيًا أو بنسبة معينة حياة البتولية، وهذه الدعوة تشبه كثيرًا دعوة بعض المؤمنين للاستشهاد، والدعوتان متشابهتان إلى حد كبير لأن لهما قاعدة واحدة هي الموت عن الجسد.
فالاستشهاد هو إقدام على تصفية مباشرة للجسد وشركة فعلية لعمل الصليب بتقديم الجسد على مذبح الشهادة ثمنًا للإيمان بفكر وعاطفة أُغلقا تمامًا عن تعلقهما بالعالم وبالجسد الترابي، وغايتهما الأخيرة هي المسيح وبلوغهما إليه، في تطلع إلى انطلاق سريع للروح وتتويجها بأكاليل نورانية وانضمامها لصفوف السمائيين في كورة الأحياء لتحيا مع المسيح إلى الأبد.
وهكذا البتولية أيضًا هي قتل للجسد بمعنى إبطال سلطانه وكسر شوكته الأمر الذي يختبره بالأكثر آباء البرية ويبدأ في مراحله الأولى بإماتة الحواس الجسمانية وإخضاع الجسد لقيادة الروح، وذلك بجهادات كثيرة يمر فيها المتبتل بتدريبات قاسية من أجل قمع الجسد وإذلاله بالصوم والزهد والتقشف والحرمان والسهر والمطانيات والعمل الشاق، ويظل المتبتل أعوامًا طويلة في هذا الجهاد إلى أن يستريح من شغب الجسد، وحينئذ يستطيع بعد مشقة أن يصعد إلى الأعالي لكي يسبح في لجة محبة الله ويتمتع ببهاء جماله مستشرقًا نور وجهه على قلبه وفكره صباح كل يوم مرنمًا ومُسبحًا "أما أنا فبالبر أنظر وجهك، أشبع إذا استيقظت من شبهك" (مز17: 15). وهذه شبه حياة السماء قبل الانتقال إلى السماء ذاتها.
وكما كان الاستشهاد شهوة الكثيرين في أزهى عصور المسيحية قوة في الإيمان فاستشهد مئات الألوف من المسيحيين، كذلك كانت البتولية شهوة الكثيرين فنزح عشرات الألوف من العالم نحو البراري وسكنوا الجبال والمغاير.
وفي الصورة الظاهرة قد فُرِضَ الاستشهاد على المسيحيين من الأباطرة الوثنيين، ولكن من أجل مجد الاستشهاد وعظمة إكليله كان المسيح له المجد يدعو نفوسًا كثيرة من محبيه لنوال إكليل الشهادة واعدًا إياهم بغنى عطايا ملكوته الأبدي.
ب - أمثلة لمن دعوا للاستشهاد:
وكانت دعوة المسيح لهؤلاء إما بذاته شخصيًا وإما بواسطة ملاك مثلما ظهر ملاك الرب في رؤيا الليل للقديس إسحق الدفراوي وأمره أن يمضي للوالي لينال إكليل الشهادة، والقديس يحنس السنهوتي ظهر له ملاك الرب وهو يرعى غنم أبيه وأراه إكليلًا من نور وقال له قم امض الآن وجاهد على اسم المسيح، والقديس سينوسيوس البلكيمي ظهر له ملاك الرب ليلًا وقال له قم واعترف بإلهك أمام الوالي. فلما استيقظ عرَّف والدته بأمره ومضى إلى الوالي واستشهد مع قديسة تسمى مريم. كذلك ظهر ملاك الرب للقديس ورشنوفيوس الذي استشهد مع أختين وأمهما، وللقديس أبا إسحق والقديسة لياريه. أما الأنبا بيما من البهنسا فقد أبصر في رؤيا كأن السيد المسيح يعطيه السلام ويقول له قم اعترف باسمي فإن الإكليل مُعَدٌّ لك، فلما استيقظ من نومه وزع كل ماله على المساكين وذهب واستشهد على اسم المسيح.
والقديس نهروه من الفيوم ذهب إلى الإسكندرية ليموت على اسم السيد المسيح فقيل له في رؤيا لابد لك أن تمضي إلى أنطاكيا. وإذ كان ينتظر سفينة ليركبها أرسل له الرب ملاكه ميخائيل الذي حمله على أجنحته من الإسكندرية إلى أنطاكيا وأوقفه أمام دقلديانوس الذي تعجب من حضوره بهذه الحالة. وبعد أن عذبه قطع رأسه ونال إكليل الشهادة.
هذه نماذج من أمثلة عديدة يذخر بها تاريخ الكنيسة دعاها المسيح له المجد لنوال إكليل الشهادة. ولا شك أن هذه الدعوة هي لحسن المجازاة ورفع القدر وتعظيم المكافأة السمائية.
حـ - أمثلة للمتزوجين المدعوين للبتولية:
كذلك المسيح له المجد دعا كثيرين لحياة البتولية ليس من المتبتلين العذراويين فقط بل من المتزوجين أيضًا ويذكر لنا تاريخ الكنيسة بعضًا ممن ترملوا وقضوا بقية عمرهم في البتولية وبعضهم انتظم في حياة الرهبنة هم وأبناؤهم. ومنهم والد القديسة مارينا الناسكة الذي ماتت زوجته في وقت مبكر من زواجه فتعهد مارينا بتربية صالحة حتى كبرت وأراد تزويجها ويذهب هو إلى الدير فحلقت شعر رأسها ولبست زى الرجال وصاحبته إلى أحد الأديرة حيث جاهد معها عشر سنين في عبادات حارة ثم تنيح وبقيت هي وحدها حيث ضاعفت جهادها. ولا زال المسيح يكرر دعوته لكثيرين. فكل من لم يصبه الدور للزواج أيًا كانت الأسباب سواء كان شابًا أم فتاة يعتبرها دعوة له من المسيح لحياة البتولية فيبدأ يكيف نفسه على الحياة على دربها مستمتعًا بسلامها وسعادتها وانطلاقها مريحًا نفسه من الانشغال في التفكير في هموم الزواج ومسئولياته. كذلك من يسمح الرب بترمله رجلًا كان أو امرأة فإنها دعوة مباشرة منه له بأن يحيا حياة البتولية. وكل من يسمح الرب بمرض شريك حياته بعد زواجه مرضًا يعطل الحياة الجسدية بينهما فإنها دعوة منه لهما لحياة البتولية. والذي يسمح الله ببطلان زواجه لأي سبب من أسباب البطلان فإنها دعوة له لحياة البتولية. وكل من تزوج بطرف تستلزم طبيعة عمله سفريات قد تطول عدة شهور وقد تبلغ سنة أو أكثر فإنها دعوة له لحياة البتولية مدة هذه السفريات. وتتفاوت سنو التبتل بين المتزوجين لكنها كلما طالت كلما هتف صاحبها بفرح "إكليلي لمَّاع في الأبدية" كما قال معلمنا بولس "لأن نجمًا يمتاز عن نجم في المجد. هكذا أيضًا قيامة الأموات" (1كو15: 41، 42).