9- كيف يحاسب الله مَن ولد، وتربى في وسط شرير؟ وما ذنبه في هذا الشر الذي وجد نفسه فيه دون إرادته؟
السؤال التاسع
كيف يحاسب الله من ولد، وتربى في وسط شرير؟، وما ذنبه في هذا الشر الذي وجد نفسه فيه دون إرادته؟
الإجابة:
إن الله هو القاضي العادل، بل هو العدالة ذاتها، وحاشا لله أن يظلم أحدًا وإن كنا كبشر نبحث عن العدالة ونتكلم عنها ليل نهار، فما بالنا الله الذي خلقنا، وجعل عدالته في قلوبنا. أنه هو مصدر كل عدالة عرفها البشر. في النقاط التالية نعرض لملامح من صفات عدل الله بحسب شهادة الكتاب المقدس:
أولًا: عدل الله يقتضي تطبيق روح العدالة :
أي قاض عادل له اعتبارات كثيرة يحكم بمقتضاها، فليس من العدل أن يجازي القاضي كل من أخطأ بنفس العقاب، دون النظر لأي اعتبارات، أو ظروف تخص المتهم مثل سنه، أو غرضه أو دوافعه من جريمته، أو حالته النفسية وقت وقوع الجريمة أو... أو.. إن عدالة الله تقتضي أن يدين الله الناس طبقًا لاعتبارات كثيرة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
دينونة الله ليست نمطًا واحدًا:
إن من لم يصل إليه نور تعاليم الرب يسوع المسيح نهائيًا، قد يسأل عما وضعه الله في قلبه من طبيعة خيرة مثلًا، أو ما عرفه، أو وصل إليه من خلال المجتمع المحيط به، ومن وصلت إليه الكرازة والبشارة، ولم يقبل نورها لا يتساوى مع من لم تصل إليه. لقد أكد معلمنا القديس بولس الرسول ذلك قائلًا: "لأَنَّ كُلَّ مَنْ أَخْطَأَ بِدُونِ النَّامُوسِ فَبِدُونِ النَّامُوسِ يَهْلِكُ. وَكُلُّ مَنْ أَخْطَأَ فِي النَّامُوسِ فَبِالنَّامُوسِ يُدَانُ... لأَنَّهُ الأُمَمُ الَّذِينَ لَيْسَ عِنْدَهُمُ النَّامُوسُ، مَتَى فَعَلُوا بِالطَّبِيعَةِ مَا هُوَ فِي النَّامُوسِ، فَهؤُلاَءِ إِذْ لَيْسَ لَهُمُ النَّامُوسُ هُمْ نَامُوسٌ لأَنْفُسِهِمِ، الَّذِينَ يُظْهِرُونَ عَمَلَ النَّامُوسِ مَكْتُوبًا فِي قُلُوبِهِمْ، شَاهِدًا أَيْضًا ضَمِيرُهُمْ وَأَفْكَارُهُمْ فِيمَا بَيْنَهَا مُشْتَكِيَةً أَوْ مُحْتَجَّةً، " ( رو2: 12- 15). دينونة الله للناس على ما ارتكبه كل منهم من خطأ شخصي: من أهمل سَيُحَاسب على إهماله الشخصي، ومن تقسى سَيُحَاسب عن قساوته. كل على خطئه الشخصي، وسَيُدان من لم يستجب لصوت الله الذي ناداه به الله مرارًا وتكرارًا، ولن يقدر أحد يوم الدينونة أن يُنكر معاملات الله معه، أو رفضه وعدم تجاوبه لصوته، لأن الله سَيُحاسب البشر بأحكام لا لبث فيها، وهكذا... وقد شهد الكتاب بذلك قائلًا: "بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ يَمُوتُ بِذَنْبِهِ. كُلُّ إِنْسَانٍ يَأْكُلُ الْحِصْرِمَ تَضْرَسُ أَسْنَانُهُ. " (إر31: 30). وأيضًا قوله:"الَّذِي سَيُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ أَعْمَالِهِ." (رو2: 6). علل صاحب الوزنة الواحدة (في مثل الوزنات) عن إهماله - متهمًا سيده بالقساوة - قائلًا: "... يَا سَيِّدُ، عَرَفْتُ أَنَّكَ إِنْسَانٌ قَاسٍ، تَحْصُدُ حَيْثُ لَمْ تَزْرَعْ، وَتَجْمَعُ مِنْ حَيْثُ لَمْ تَبْذُرْ. فَخِفْتُ وَمَضَيْتُ وَأَخْفَيْتُ وَزْنَتَكَ فِي الأَرْضِ. هُوَذَا الَّذِي لَكَ. فَأَجَابَ سَيِّدُهُ وَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْعَبْدُ الشِّرِّيرُ وَالْكَسْلاَنُ، عَرَفْتَ أَنِّي أَحْصُدُ حَيْثُ لَمْ أَزْرَعْ، وَأَجْمَعُ مِنْ حَيْثُ لَمْ أَبْذُرْ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَضَعَ فِضَّتِي عِنْدَ الصَّيَارِفَةِ، فَعِنْدَ مَجِيئِي كُنْتُ آخُذُ الَّذِي لِي مَعَ رِبًا" (مت25: 24-27). واضح في المثل أن السيد يطالب العبد بعمل بسيط كان بإمكانه فعله بسهولة. الدينونة بحسب الإمكانيات الموهوبة للإنسان: دينونة الله للبشر تختلف من شخص لشخص، وذلك بحسب ما ناله الإنسان من إمكانيات، وما أُعْلِنَ له من معرفة. فمن أعطي كثيرًا سَيُحَاسب بأكثر، لأن إمكانياته أكثر. وللتقريب للذهن نتساءل هل امتحان الصف الخامس الابتدائي في مادة العلوم يصلح كإمتحان لطلبة كلية العلوم؟! بالطبع لا. إننا أولاد الله الذين أئتمننا على أسرار ملكوت الله فلابد أن نكون حريصين أكثر، لأننا سندان على نفس الخطايا التي قد يفعلها غيرنا ممن ليس لهم معرفة روحية بأكثر صرامة كقول الكتاب: "وَأَمَّا ذلِكَ الْعَبْدُ الَّذِي يَعْلَمُ إِرَادَةَ سَيِّدِهِ وَلاَ يَسْتَعِدُّ وَلاَ يَفْعَلُ بحَسَبِ إِرَادَتِهِ، فَيُضْرَبُ كَثِيرًا. وَلكِنَّ الَّذِي لاَ يَعْلَمُ، وَيَفْعَلُ مَا يَسْتَحِقُّ ضَرَبَاتٍ، يُضْرَبُ قَلِيلًا. فَكُلُّ مَنْ أُعْطِيَ كَثِيرًا يُطْلَبُ مِنْهُ كَثِيرٌ، وَمَنْ يُودِعُونَهُ كَثِيرًا يُطَالِبُونَهُ بِأَكْثَرَ" (لو12: 47- 48).
ثانيًا: الله ليس عنده محاباة في أحكامه إطلاقًا:
مواهب وعطايا الله المتنوعة للإنسان هي على سبيل وزنات، وليست محاباة:
تختلف وتتنوع عطايا ومواهب الله للبشر، ولكنها تُحسب على سبيل وزنات كما أشرنا سابقًا، فمن أعطي كثيرًا سَيُطالب بأكثر، ولكن أحكام الله بغير محاباة لأن كل واحد سَيُحاسب على قدر إمكانياته. كشف معلمنا بطرس الرسول هذه الحقيقة قائلًا: "وَإِنْ كُنْتُمْ تَدْعُونَ أَبًا الَّذِي يَحْكُمُ بِغَيْرِ مُحَابَاةٍ حَسَبَ عَمَلِ كُلِّ وَاحِدٍ، فَسِيرُوا زَمَانَ غُرْبَتِكُمْ بِخَوْفٍ،" (1بط1: 17).. لقد وبخ الله معلمنا بطرس الرسول الذي كان ينظر لغير اليهود بنظرة دونية، مُظهِرًا له مشيئته في طهارة الجميع، وقبولهم قائلًا له: "... مَا طَهَّرَهُ اللهُ لاَ تُدَنِّسْهُ أَنْتَ!" (أع10: 15). أدرك الرسول العظيم تلك الحقيقة فتغنى بذلك قائلًا: "... بِالْحَقِّ أَنَا أَجِدُ أَنَّ اللهَ لاَ يَقْبَلُ الْوُجُوهَ. بَلْ فِي كُلِّ أُمَّةٍ، الَّذِي يَتَّقِيهِ وَيَصْنَعُ الْبِرَّ مَقْبُولٌ عِنْدَهُ." (أع10: 34- 35)، بل أكد في موضع آخر أن شعب الله سَيُدان أول الكل قائلًا: "لأَنَّهُ الْوَقْتُ لابْتِدَاءِ الْقَضَاءِ مِنْ بَيْتِ اللهِ. فَإِنْ كَانَ أَوَّلًا مِنَّا، فَمَا هِيَ نِهَايَةُ الَّذِينَ لاَ يُطِيعُونَ إِنْجِيلَ اللهِ؟" (1بط4: 17).
النعمة الموهوبة لأولاد الله ليست حصانة لهم من المُساءَلة:
إننا سَنُحاسب على كثرة عطايا الله لنا. هي وزنات، وليست شهادة تؤهل للتمتع بملكوت السماوات دون حساب، وهذا ما أكده معلمنا بولس لليهود المتنصرين في رومية قائلًا: "لأَنْ لَيْسَ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ النَّامُوسَ هُمْ أَبْرَارٌ عِنْدَ اللهِ، بَلِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِالنَّامُوسِ هُمْ يُبَرَّرُونَ." (رو2: 13).
ثالثًا: زود الله البشر بعطايا، ونعم كثيرة ليحفظهم من أحكام دينونته:
إن الإنسان محدود المعرفة، ويستخدم حواسه لمعرفة ما حوله، لكن الله روح، ولا يمكن للحواس البشرية البسيطة أن تدركه. لقد أعطى الله البشر إمكانية معرفته كقول القديس إغريغوريوس في القداس الإلهي: "أعطيتني علم معرفتك" لذا لن يكون لإنسان عذر يحتج به أمام دينونة الله العادلة كقول الكتاب: "... لِكَيْ يَسْتَدَّ كُلُّ فَمٍ، وَيَصِيرَ كُلُّ الْعَالَمِ تَحْتَ قِصَاصٍ مِنَ الله" (رو3: 19). في النقاط التالية نعرض لذلك بالتفصيل: