وإذ شعرت روما بأن تركيز الاضطهاد العنيف على قادة الكنيسة، قد يكون أجدى لاستئصال المسيحية، أصدر فاليريان (253-260 م.)، مرسومين في 257، 258 م.، فلم يكتف بأن يأمر رجال الدين المسيحي بضرورة تقديم ذبائح للآلهة، بل حرم عليهم القيام بعبادة إلههم علنًا، مما أدى إلى استشهاد أعداد كبيرة من الأساقفة والشيوخ والشمامسة، كما تعرض الكثيرون من الرجال والنساء -من عُلية القّوم- للتعذيب والموت لرفضهم الامتثال لتلك الاوامر " فسال دم الشهداء كالأنهار "، ولكن عنف هذه الاضطهادات وامتدادها، جعلا من المستحيل الاستمرار فيها، فألغى جالينوس (260-268 م.) المراسيم التي أصدرها أبوه، فهدأ الجو بالنسبة للمسيحيين لمدة أربعين سنة.
وبعد هذه السنوات، واجه المسيحيون أعنف موجات الاضطهاد في عهد دقلديانوس وجالريوس، فقد أراد دقلديانوس أن يستعيد للامبراطورية مجدها الغابر، فعانى المسيحيون في عهده أعنف اضطهاد، فقد أرادها أن تكون المعركة الفاصلة بين الكنيسة والامبراطورية، فأصدر أوامره في 295 م. بإلزام الجنود المسيحيين بتقديم الذبائح للألهة. وفي 298 م استشهد أحد كبار قادة الجيش، واستشرى الاضطهاد في الجيش. وفي 303 م. أصبح الاضطهاد عامًا، بناء على ثلاثة مراسيم صدرت تباعًا، بل بلغ به الأمر أن أمر زوجته المسيحية وابنته بتقديم الذبائح للألهة، كما أمر بهدم المباني المسيحية وسجن عددًا كبيرًا من الأساقفة والشيوخ، وأحرق الكتب المقدسة، وحُرم المسيحيون من كل حقوقهم الشرعية، وتعرض الجميع للتعذيب، وظل الأمر كذلك حتى 305 م. في الغرب، وحتى 311 م. في الشرق، وبخاصة في فلسطين ومصر التي عانت كثيرًا، مما جعل الكنيسة المصرية تعتبر سنة اعتلائه عرش الإمبراطورية في 284 م، بداية تقويمها القبطي.
لقد استشهدت أعداد كبيرة من المسيحيين في عهده، ولكن أيضًا أنكر كثيرون -من المسيحيين بالاسم- الإيمان، وسلموا كتبهم المقدسة للحريق، ولكن هذا الاضطهاد العنيف، اثبت أنه من العبث محاولة القضاء على المسيحية، بل قد يمكن أن تنهار الامبراطورية، ولكن من المستحيل القضاء على الكنيسة، فلم يعد هناك خيار أمام الامبراطورية إلا أن تصطلح مع الكنيسة، وهو ما حدث فعلًا في عهد قسطنطين الذي أصدر مرسوم ميلان بحرية العقيدة في مارس 313 م، ثم انفرد قسطنطين بالعرش في 323 م، وجعل من المسيحية دينًا رسميًا للدولة، وهكذا " انتصر الناصري " وبدأت مرحلة جديدة في تاريخ الكنيسة المسيحية.