ولذلك فإن إخراج الشياطين يحتاج قبل كل شيء إلى اتضاع. وإن كان الرب قد قال: "هذا الجنس لا يخرج بشيء إلا بالصلاة والصوم" (مت17: 21).. فذلك لأن الصلاة والصوم يظهر فيهما الاتضاع بكل وضوح. فالذي يصلي، يعترف ضمنًا أنه ليست له قوة ذاتية، لذلك يطلب القوة من فوق بالصلاة. وإذا خرج الشيطان لا يفتخر بإخراجه. لأن ذلك ينسحق فيه الإنسان ويتذلل أمام الله بالاتضاع، ويشعر بضعفه..
والشياطين كانت بالاتضاع، تهرب أمام القديس أنطونيوس.
القديس أنطونيوس أبو الرهبنة كلها، عندما كان الشياطين يحاربونه بعنف، كان يرد عليهم باتضاع قائلًا: "أيها الأقوياء، ماذا تريدون مني أن الضعيف؟ أنا عاجز عن مقاتلة أصغركم". وكان يصلي إلى الله ويقول: "أنقذني يا رب من هؤلاء الذين يظنون أنني شيء، وأنا تراب ورماد". فعندما كان الشياطين يسمعون هذه الصلاة الممتلئة اتضاعًا، كانوا ينقشعون كالدخان. حقًا لقد أتقن القديسون الاتضاع بمثل هذه الصورة العجيبة..
ولم يتضعوا فقط أمام الله والناس، بل حتى أمام الشياطين. وهزموهم باتضاعهم.
كما رأينا في سيرة القديس الأنبا أنطونيوس، وفي سيرة القديس مقاريوس الكبير، وكما نرى في سير باقي القديسين.
\
ولعل عظمة الاتضاع تظهر جلية. عندما نتأمل بشاعة الرذيلة المضادة له، أعني الكبرياء والعظمة:
الكبرياء أحدرت من السماء ملاكًا بهيًا، وحوّلته إلى شيطان.
حقًا، إن أول خطية عرفها العالم هي الكبرياء، التي سقط بها الشيطان. وقصة سقوطه سجلها إشعياء النبي، في قول الوحي الإلهي لهذا الملاك الساقط: "وأنت قلت في قلبك أصعد إلى السموات. أرفع كرسيّ فوق كواكب الله.. أصير مثل العليّ. لكنك انحدرت إلى الهاوية إلى أسفل الجب" (اش 14: 13، 14).
وبنفس سقطه الكبرياء، أغوى أبوينا الأولين.
كما قال في قلبه "أصير مثل العليّ"، هكذا قال لأبوينا الأولين "تصيران مثل الله، عارفين الخير والشر" (تك 3: 5). من هنا يبدو أن الكبرياء لا تكتفي مطلقًا، بل تريد أن تعلو باستمرار، مهما كانت درجتها عالية.. حتى إن كان الواحد ملاكًا في درجة الكاروب، مملوءًا حكمة وكامل الجمال (حز 28: 14،12)، أو كان صورة الله في شبهه (تك1: 26، 27). يريد أيضًا أن يعلو ويرتفع. ولكنه في هذه الكبرياء يهبط إلى أسفل حسبما قال الرب.
"كل من يرفع نفسه يتضع. ومن يضع نفسه يرتفع" (لو14: 11).
الملاك لما أراد أن يرتفع، انحدر إلى الهاوية إلى أسافل الجب، وفقد مكانته كملاك، وصار شيطانًا.. والإنسان -وهو صورة الله- لما أراد أن يرتفع، فقد صورته الإلهية، وطُرد من الجنة، وعانى ما عانى.. ولعل أصعب شيء يتعرض له المتكبر، ان الله نفسه يقف ضده. لذلك ما أخطر قول الكتاب:
"يقاوم الله المستكبرين" (يع4: 6).
في نفس الوقت الذي أشفق فيه الله على الخطاة والعشارين، وقادهم إلى التوبة، يقول الرسول إن الله يقاوم المستكبرين.. وهؤلاء الذين يقاومهم الله، ما مصيرهم؟! فهل تريد أن تعرض نفسك إلى مقاومة الله نفسه لك؟! يعزينا النصف الثاني من نفس الآية، حيث يقول: "وأما المتواضعون فيعطيهم نعمة".
ليتنا نخاف من قول الوحي الإلهي في سفر إشعياء:
"إن لرب الجنود يومًا على كل متعظم وعالِ، وعلى كل مرتفع فيوضع.. وعلى كل أرز لبنان العالي، وعلى كل بلوط باشان.. وعلى كل الجبال العالية - وعلى كل التلال المرتفعة.. فيخفض تشامخ الإنسان، وتوضع رفعة الناس. ويسمو الرب وحده في ذلك اليوم" (إش2: 12-17).