ولكن لنتقدم في تاريخ الصوم ونتقصّ قدم تشريعه. كيف تقبّله القديسون جميعاً كميراث آبائي ومارسوه بدقّة مسلِّمين إياه من أب إلى ابنه إلى أن وصل إلينا بالتسلسل. لم يُعرف الخمر في الفردوس (كما ذكرنا) ولا الذبائح الحيوانية ولا أكل اللحوم. لقد عرف اللحم والخمر بعد الطوفان لأنه أوصي عند ذلك "بأن كل حيّ يدبّ كبقول العشب" (تك3:9). عندما يئس البشر من بلوغ الكمال الروحي حينئذٍ سمحوا لأنفسهم بالتمتع بكل شيء. والبرهان على أن البشر لم يعرفوا الخمر هو نوح كان يجهل استعمال الخمر: لم يرَ أحداً يستخدمه وهو لم يذقه هو شخصياً، لذلك حدث له ما حدث من أذى من جراء عدم احتياطه. " ابتدأ نوح بحرث الأرض وغرس كرماً وشرب من الخمر وسكر"(تك 20:9-21)، لا لأنه كان سكيراً بل لعدم خبرته في شرب الخمر باعتدال. إن شرب الخمر بعيد عن مرحلة الفردوس بقدر ما يبتعد الصوم الشريف في قدم زمنه.
ونعلم أيضاً أن موسى لم يجرؤ على الاقتراب من جبل سيناء و الصعود إليه إلاّ بعد صوم طويل. لم تكن له الجرأة على الصعود إلى الجبل المدخّن ولا الشجاعة على الدخول في وسط الغمام الذي غطاه (خر18:24) لو لم يتسلّح بالصوم. عن طريق الصوم تسلّم الوصايا العشر التي دُفعت إليه على لوحين من حجر مكتوبين بإصبع الله (خر28:34)، بينما في أسفل الجبل دفعت الشراهة الشعب إلى عبادة الأوثان، لأنه جلس يأكل ويشرب ثم قاموا كلَّهم يلعبون. البقاء على الجبل أربعين يوماً وابتهال عبد الله المؤمن، كل ذلك لم يجد نفعاً مقابل يوم واحد من السكر والعربدة. وبعبارة أخرى، إن لوحي الوصايا التي أتت عن طريق الصوم مكتوبة بإصبع الله حطمها السكر، لأن النبي موسى حكم أن الشعب المستسلم للسكر لم يكن يستحق استلام الوصايا الإلهية (خر19:32). بالنسبة للشعب الذي عرف الله الحقيقي والصانع له العجائب، لحظة واحدة كانت كافية ليعود ويغرق في وثنية المصريين. فاجعلوا أمامكم إذاً الأمرين وقارنوا بينهما: أنظروا أن الصوم من جهة يقرّب الإنسان إلى الله، بينما التمتع من جهة أخرى يقضي على خلاص نفسه.