ثالثًا، من الجدير بالملاحظة أن ابنة يفتاح لم تمانع بتحقيق رغبة والدها، بل أن سعادتها بالانتصار على الأعداء كانت فيّاضة وغامرة لتعمل ما نذر به والدها. ألا تجدر أن تكون ابنة يفتاح مثالاً لمحبة الوطن والاستعداد للتضحيّة في سبيل تحرره وتقدمه وازدهاره؟ لقد طلبت الابنة المطيعة من والدها أن تذهب إلى الجبال هي وصاحباتها. ونسأل لماذا تذهب مع صاحباتها إلى الجبال؟ لم يكن ذهابها بغرض توديع الحياة لأن والدها يريد أن يقدمها ذبيحة لله، بل يقول النص صراحة أنها ذهبت مع صاحباتها للقيام بمهمة محددة، هذه المهمة هي بكاء عذراويتها، وليس لتوديع هذه الحياة. لاحظ تكرار العبارات التالية للتشديد على حقيقة “العذراويَّة”: “وأبكي عذراويتي” (الآية37)، “وبكت عذراويتها” (الآية38)، “وهي لم تعرف رجلاً” (الآية 39). ألا نرى في هذه العبارات أن التأكيد هو على موضوع البتوليَّة، وليس على موضوع الموت؟ إن عبارة “وهي لم تعرف رجلاً” تعني بأنها تممت النذر دون أن تعرف رجلاً، بل أنها تممت النذر بواسطة كونها لم تعرف رجلاً.
ولكن قد يقول معترض على هذا التفسير، ماذا عن كلمة “محرقة” الواردة في الآية 31 لتصف ما سيقوم به يفتاح؟ من المحتمل جدًا أن يفيد أصل هذه الكلمة في العبريَّة معنى التكريس أساسًا وليس فكرة الاحتراق بالنار أو الذبيحة الدمويَّة المحترقة. إن أصل الكلمة العبري هو “علاخ” وهي من الفعل الذي يماثل الفعل “علا” (ارتفع، صعد) بالعربيَّة، فالمحرقة (علاه)، إذن هي في أصلها إشارة إلى ما يتم رفعه أو إصعاده إلى المذبح كتعبير ظاهر وعلني عن التخصيص للرب والتكريس له تعالى.