1- الثالوث الأقدس في سرّي المعمودية والافخارستيّا
تتّضح لنا عقيدة الكنيسة الأولى في الثالوث الأقدس ليس فقط في تعاليم الآباء بل في ممارسة الأسرار المقدسة، ولا سيّمَا سرَّي المعمودية والإفخارستيّا. إنّ إيمان الكنيسة الأولى بالثالوث الأقدس قد انطلق من خبرة الرسل الذين عاشوا مع المسيح ابن الله واختبروا عمل الروح القدس في المسيح وفيهم من بعد قيامه المسيح. وهذا الاختبار هو الذي نقلوه إلى جميع المؤمنين بالمسيح عبر الأسرار المقدّسة، ولا سيّمَا سرَّي المعمودية والافخارستيّا. فمَا آمنوا به عبّروا عنه في الأسرار. لذلك نجد علاقة وثيقة بين كرازة الإيمان وممارسة الأسرار. وتلك العلاقة واضحة في وصية يسوع لتلاميذه بعد قيامته: "اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به" متى 28: 19- 20). فالتعليم يسبق المعمودية، والمعموديّة تعبّر عن قبول التعليم وصدق الإيمان. والعلاقة ذاتها نجدها في إنجيل مرقس: "إذهبوا في العالم أجمع، واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها، فمن آمن واعتمد يخلص" (مر 16: 15- 16). وهنا أيضاً التعليم والإيمان يسبقان المعمودية
أ) المعمودية
لذلك ينطلق تعليم الكنيسة الأولى في عقيدة الثالوث الأقدس من الكرازة التي كانت تهيّئ الموعوظين لتقبّل سرّ المعمودية.
ففي تلك الكرازة كانت تفسّر لطالبي العماد معاني هذا السر وأبعاده ومضمون الإيمان الجديد الذي سوف يعتنقونه. وقبل المعمودية وفي طريقة منح السر ذاتها، كان يُطلب من المعتمدين إعلان إيمانهم.
نقرأ في "العقليد الرسولي" لهيبوليتوس الروماني، الذي كُتب سنة 215، أنّ الأسقف، أو الكاهن، يقف بجوار الماء، بينما ينزل الشماس في الماء مع طالب العماد. ويضع الأسقف يده على رأس المعتمد، ويسأله:
- "هل تؤمن باله الآب القدير؟"، فيجيبه المعتمد: "إنّي أومن به"، فيغطسه إِذّاك في الماء مرة أولى. ثم يضع من جديد يده على رأسه ويسأله ثانية:
- "هل تؤمن يسوع المسيح ابن الله، الذي وُلد بفعل الروح القدس من مريم العذراء، ومات وقبر وقام من بين الأموات في اليوم الثالث، وجلس عن يمين الآب، وسوف يأتي ليدين الأحياء والأموات؟"، فيجيبه المعتمد: "إنّي أومن به"، عندئذ يغطسه في الماء مرة ثانية. ثم يسأله ثالثة:
- "هل تؤمن بالروح القدس، وبالكنيسة المقدسة، وبقيامة الجسد؟"، فيجيب المعتمد: "إنّي أومن". وإذّاك يغطسه مرة ثالثة. ثم يخرج المعتمد من الماء.
وتلك العادة كانت منتشرة في معظم الكنائس المسيحية، كما تشير إلى ذلك مؤلفات يوستينوس، وديونيسيوس الاسكندريِّ، وترتوليانوس، وكبريانوس، وسِيَر الشهداء التي تعود إلى القرن الثالث.
إن إعلان الإيمان هذا، في أثناء رتبة المعمودية، هو شهادة لموجز العقيدة المسيحية، و"قانون الإيمان" الكنيسة الأولى. ويبدو لنا الاعتراف بالثالوث الأقدس، الآب والابن والروح القدس، الركن الأساسي في تلك العقيدة.