15. ولكنه لما اضطر إلى عبور ترعة أرسينا[30] ـ وكان الداعي إلى هذا افتقاد الاخوة ـ كانت الترعة مليئة بالتماسيح، وبمجرد الصلاة دخلها هو وكل من معه، وجازوا فى أمان.
وإذ عاد إلى صومعته عاد إلى نفس رياضاته النبيلة الباسلة وبأحاديثه المستمرة ألهب الغيرة فى الذين كانوا رهبانا فعلا، وبعث فى نفوس أغلب الباقين حب النسك، وسرعان ما تكاثرت الصوامع بجاذبية كلماته، وأرشدهم جميعاً كأب.
16. وفى أحد الأيام إذ خرج، لأن جميع الرهبان اجتمعوا إليه وطلبوا أن يسمعوا كلماته، وخاطبهم باللغة المصرية قائلاً: "إن الأسفار المقدسة كافية للتعليم[31] ولكنه جميل تشجيع الواحد الآخر فى الإيمان وإنهاضه بالكلام لذلك أطلب كبنين أن تحملوا ما تعرفونه إلى أبيكم، وأنا كأخيكم الأكبر أشارككم معرفتي وما علمني إياه الاختبار، ليكن الهدف العام للجميع بصفة خاصة أن لا تتراجعوا بعد أن بدأتم، أو تخور عزائمكم فى الضيق. ولا تقولوا قد عشنا طويلا فى النسك بل بالحرى لنزدد غيرة كأننا كل يوم مبتدئين، لأن كل حياة الإنسان قصيرة جداً إذا قيست بالدهور القادمة، ثم أن كل زماننا ليس شيئا إن قيس بالحياة الأبدية. وفى العالم كل شيء يباع بثمنه، والإنسان يبادل السلعة بنظيرها، أما وعد الحياة الأبدية فيشترى بأمر زهيد جدا لأنه مكتوب "أيام حياتنا فيها سبعون سنة وان كانت مع القوة فثمانون سنة وما زاد على هذه فهو عناء وحزن"[32] لذلك فحينما نعيش ثمانين سنة كاملة أو حتى مائة فى النسك فإننا لا نملك[33] مائة فقط بل نملك إلى الأبد بدلا من مائة سنة. ورغم أننا جاهدنا على الأرض فإننا لا ننال ميراثنا على الأرض بل ننال المواعيد فى السماء. وإذا ما خلعنا الجسد الفاسد نسترده غير فاسد.