4- الفرح الأكبر
لا بدّ أنّ هذا الأب كان فرحاً في بيته مع ابنه الأكبر الذي لم يغادر. ولكن الغريب هو ما يشدّد عليه هذا المثل، وعدّة أمثلة حوله في الكتاب، أن تشير إلى “فرح أكبر” بعودة الابن الذي ضلّ، وبإيجاد الدرهم الضائع، والعثور على الخروف الذي تاه في الجبال. فهناك فرح خاص بهؤلاء! ويريد يسوع في هذه الأمثلة أن يؤكّد علينا “أن نفرح أكثر” بعودة الضال! هذا الأمر ليس صورة شعريّة! إنّها حقيقة أنثروبولوجيّة يؤكّد الكتاب عليها! نعم لا ينتظر الله منا البرّ دون خبرة الضعف! القدّيس ليس من وُلد ومات دون خطيئة! فهذا مفهوم عكس حقيقة السرّ ذاته.
القدّيس هو من أخطأ حيناً لكنّه تاب أبداً. والإنسان ينمو في القداسة فيتبدّل وجه حياته ويغلب عليه لون النعمة بدل لون الخطيئة. يتحمّل الله في الكتاب الخطيئةَ كحدث، ولكن يرفضها كحياة. الخطيئة تُصلح بالتوبة وتقابل بالغفران المجاني! والمهمّ هو أن تكون وجهتنا دائماً نحو البيت الأبويّ وليس باتجاه كورة بعيدة!
ليست خطيئتنا أنّنا لا نحبّ الله، ولم يكن الابن الضال يوماً لا يحبّ أباه، حتّى في اللحظة التي رحل فيها. كانت خطيئته كما هي خطيئتنا، أنّه في لحظة ما أحبّ ما في الكورة البعيدة أكثر ممّا في بيته الأبويّ. لا نخطئ نحن عندما لا نحبّ الله! إنّنا نخطئ عندما نحبّ أيّ شيء في الدنيا أكثر من الله. أليس هذا هو السبب الذي دفع الابن الأصغر ويدفع أيّاً منّا ليترك الآب ويقسم المعيشة معه ويرحل؟ هذه هي الخطيئة الحقيقيّة التي نجرّب بها كلّ يوم، وتتطلّب منّا توبة كامل اليوم كلّ يوم! التوبة والخطيئة ليستا حدثاً معيناً، إنّما هما حالة توازن بين محبّة الآب ومحبّة الأشياء. من يحبّ الله أقلّ من الأشياء هو الضال، ومن يحبّ الله فوق كلّ شيء هو التائب. إنّه التوازن الدائم الذي نسمّي رجوح كفّة الله فيه “توبةً”. وهذه التوبة هي التي دفعت بالابن إلى العودة.
يتفهّم الكتاب إذاً مرورنا بلحظات الضعف وترجيحنا حيناً حبّاً ما على حبّ الآب، لكن يدعونا إلى التوبة والعودة. ليس دينونةً أن نخطئ أحياناً، ولكن الدينونة أن نبقى في الخطيئة. ليس دينونة أن نرحل للحظات، ولكن دينونة أن نبقى في الكورة البعيدة. مفهوم البرّ في الكتاب لا يقوم على قداسة فطرية عفوية لم تختبر خطيئة ولم تمرّ بلحظة ضعف. يقوم مفهوم البرّ على تفضيل العجل المثمن على كلّ خرنوب الدنيا. ينمو الإنسان في الحبّ الإلهيّ، ويبدأ بحبّ الخبز السماويّ أكثر من ملذّات الدنيا كلّها. لدرجة زهد فيها بعض البشر حتّى عن الخبز اليومي الضروريّ حيناً، ولصق لحم داؤود بعظمه وسها عن أكل خبزه عندما هام في طلب البيت الأبويّ. لهذا هناك فرح خاصّ “بتائب واحد يعود” أكثر من الـ”تسعة والتسعين”!