21 - 07 - 2012, 10:00 PM
|
رقم المشاركة : ( 3 )
|
..::| الاشراف العام |::..
|
رد: القديسة مريم المجدلية
مريم المجدلية
مقدمة .... هن سيدات ثلاث أثيرات إلى درسي وفكري وتأملي وخيالي، أغلب الظن أنهن جميلات بل رائعات الجمال، فما رسمهن الفن مرة إلا في أبدع تصويره وأرق حواشيه وأزهى ألوانه، وقفن في الطريق الإنساني، وعلى طوله، وأدين رسائلهن التي تركت آثارًا هائلة تحتضن التاريخ بكل ما في التاريخ من طول وعمق واتساع، ومن عجب أن يقف ثلاثتهن في شبه عقد نظيم، طرفاه بستانان ووسطه صحراء، ولعلك قاربت أن تعرف بعد ذلك من أعنى، فهن حواء والعذراء والمجدلية.
أتذكر تلك الشجيرت السادرة في جنة عدن في البستان الأول تظلل حواء وآدم العريانين البائسين الخجلين؟ وأتذكر الصوت الحزين الذي جاءهما ينادي بالطرد والألم، والدموع والتعاسة للجنس البشري جزاء العصيان؟ وأتذكر المرأة تخرج لتغرق أولادها والأجيال البشرية في البؤس والمرارة والشقاء؟ وأتذكر كيف تهدم هذا البستان، وتحولت الأرض غير الأرض فأضحت طريقًا ملعونًا صحراويًا لبني البشر؟ في عرض هذا الطريق وفي وسط الصحراء ولدت المرأة الثانية مخلص العالم، كان كل ما حولها صحراويًا فالجوع والفقر والفاقة والجدب كانت تحيط بها كرمز لحياة الإنسان كلها. على أن الصحراء تحولت واضحت كما قال إشعياء : «تفرح البرية والأرض اليابسة ويبتهج القفر ويزهر كالنرجس» . حين رأينا المرأة الثالثة تخرج راكضة من البستان لتنادي بقيامة الرب يسوع.
إن بين حواء والمجدلية أشياء كثيرة التناظر والتباين مما لا يغيب عن العين الدقيقة الملاحظة، فهذه البنت وتلك أمها، وكلتاهما حملت رسالتها الكبرى في بستان، وكلتاهما بكت فيه، وكلتاهما اتجهت بقلبها وشعورها نحو شخص واحد. على أن احداهما حملت رسالة الهلاك للبشر والثانية رسالة الخلاص، الأولى بدأت رسالتها باستسلامها للشيطان والثانية عرفت رسالتها بعد مبارحة الشيطان.
والآن أريد أن تتأمل المجدلية من نواح ثلاث: الفتاة التي أخرج منها المسيح سبعة شياطين، الفتاة التي كرست حياتها لمخلصها، الفتاة التي كوفئت أجل مكافأة.
الفتاة التي أخرج منها المسيح سبعة شياطين مريم المجدلية فتاة من بلدة مجدل الواقعة غرب بحر الجليل، عند المدخل الجنوبي لسهل جنيسارت، ويظن بعضهم أن الكلمة تعني «الحصن» إشارة إلى أنها كانت حصنًا على الطريق المؤدي إلى السهل، بينما يرجح آخرون، ولعله الأصح، أن الكلمة مأخوذة من جدائل الشعر، نسبة إلى جمال موقعها، وجمال سيداتها المجدولات الشعور، ومن هنا رسم الفن المجدلية ذات جمال رائع أخاذ غير عادي طويلة الشعر مجدولته حينا مسترسلته حينا آخر، على أننا نعلم، على وجه التحقيق، إنها كانت فتاة غنية استطاعت أن تمد المسيح مع آخريات بما كان يحتاج إليه من أموال، ولعلها كانت تنتمي إلى بيت ذائع الصيت في ذلك الوقت، لأن لوقا عند ذكره إياها وضعها في الطليعة قبل يونا امرأة خوري وكيل هيرودس، وسوسنة، وسائر النساء الأخريات، ولئن كان هذا دليلاً على تقدمها عليهن في التعبد والخدمة، لكنه يعني أيضًا أن عائلتها ربما كانت أظهر وأكثر شهرة، كما كانت شديدة الحساسية ملتهبة الشعور يقظة العاطفة، وقد حاول بعض النقاد أن يردوا هذا إلى تأثيرات ماضيها المعذب، ولكننا قد نكون أقرب إنصافًا، وأكثر صدقًا، إذ قلنا أن هذه الفتاة التي أطل عليها المسيح بعد سبعة شياطين، كان لابد أن تكون فيها دنيا الشعور أوسع من دنيا المنطق، وقدرة الحس أعلى من قدرة التفكير، وأنها كبنات جنسها أكثر استجابة للقلب من العقل، لقد عاشت بشياطينها، في منطقة اللاشعور ردحًا من الزمن ثم تفتحت عيناها لأول مرة على مخلصها المجيد، فعرفت الدنيا فيه، ومنه وبه، فكان لابد أن تكون ما كانت، وما بلغت، من هذا الاتجاه العاطفي العميق.
غير أنه هنا يجدر بنا أن نقف قليلاً متألمين حزانى آسفين لذلك التقليد الغريب الضخم الذي عصف بحياة المجدلية الأولى، والذي أخذ قوته في العصور الوسطى للكنيسة وما يزال إلى اليوم يتمشى بيننا، بل والذي كان دائمًا ايحاء محزنًا لجمهرة الفنانين والروائيين والممثلين، ممن تعرضوا لتصوير حياتها وشخصيتها، يقول هذا التقليد إن ماضي المجدلية كان آثمًا بل كان شديد الإثم، وما السبعة الشياطين التي كانت بها إلا تعبير رقيق دقيق قصد به لوقا أن يعبر عن تمام انهيارها وسقوطها في الأوحال، ومن الغريب أن الذين أخذوا بهذا التقليد قالوا إن مريم أخت لعازر، والمرأة الخاطئة التي جاءت من وراء المسيح في بيت سمعان، وسكبت طيبها وغسلت قدميه بدموعها ومسحتها بشعر رأسها، والمجدلية لسن ثلاث شخصيات بل شخصية واحدة، وقد ظل هذا الفكر يتأرجح في الكنيسة اللاتينية بين القوة والضعف، والسقوط والبقاء، حتى جاء غويغوري السابع فناصره وحكم بصحته وأيده، وسارت في أعقابه الأجيال البشرية التي دمغتها بهذه الدمغة المحزنة، وأغلب الظن أنه فعل ذلك لكي يمجد النعمة وقدرتها على انتشال الناس، شأنه شأن الكثيرين من الوعاظ الذين يجنحون عادة إلى الإغراق في الخيال، والتهويل في الحديث عن الخطية، ليستطيعوا بذلك تصوير النعمة في قوتها ورقتها وعظمتها وجلالها وقدرتها المخلصة، ولكن النعمة فيما أعتقد لا تحتاج منا إلى مثل هذا الاستنصار وهذا التحيز، لأن هناك أوضاعًا متعددة للخطية وحالات لاحد لها ولا حصر يكفي أن نظرها كما هي، في كل بساطة، لنرى النعمة في كامل جودها وقوتها ولطفها وجمالها.. كلا لم تكن السبعة الشياطين في مريم غير ذلك الجنون العادي الذي يذهب بالوعي والتعقل والتفكير، الجنون الذي يترك في شدته آثارًا مخيفة في البدن والهيئة والمعاملة مع الآخرين، ألم يقل الأب الذي جاء بابنه المجنون إلى المسيح ليشفيه: «ارحم ابني فانه يصرع ويتألم شديد ويقع كثيرًا في النار وكثيرًا في الماء». ومجنون كورة الجدريين «كان مسكنه في القبور ولم يقدر أحد أن يربطه ولا بسلاسل لأنه قد ربط كثيرًا بقيود وسلاسل فقطع السلاسل وكسر القيود فلم يقدر أحد أن يذلـله، وكان دائمًا ليلا ونهاراً في الجبال وفي القبور يصيح ويجرح نفسه بالحجارة». وقد أخذ بهذا الرأى كثير من أئمة الفكر المسيحي في طليعتهم الكنيسة اليونانية القديمة، وأسقف الإسكندرية، ترتليانوس وايرانيوس، واريجانوس، والكنيسة الشرقية، برجالها تاوفيلوس الأنطاكي ومكاريوس، والذهبي الفم، والمفسرون المحدثون، ككلفن، وبنجل، والفورد، وستير، وماير، وغيرهم ممن قاوموا بكل حمية وحماس الفكر الغريغوري.
كانت مريم فتاة مبدعة ثرية بائسة، فيها كل عناصر الجمال الحي المبدع الرائق ولكن هذه العناصر عبثت بها يد الشيطان فذرتها هباء، كانت مريم أشبه بالمصباح الكامل الجميل المستعد أن يرسل أضواء قوية بعيدة مشرقة، ولكن أستارًا كثيفة من الظلام دثرته وغطته، فأخفت وراءها ما يمكن أن يبعث من وهج وجمال ونور، ولقد بكى مريم كل قلب نبيل عرفها، بكاها أولئك الذين يؤخذون في الحياة بالمعاني العليا السامية في الإنسان الذين يهزهم الحزن على الجمال الذاوي والحسن الضائع والإنسانية المعذبة، ولكن هذه الدموع في مجموعها كانت دموعًا حزينة يائسة متألمة عاجزة، حتى جاء ذلك اليوم العظيم في حياتها، حين مر بها - ولا نعلم أين ومتى - مخلص العالم وصديق البائسين، لشد ما كنت أتمنى أن ترجع لنا القرون لنراه في رقته وقوته، في جوده وقدرته، في وجهه المشرق بالدموع والحنان وهو ينحني على آلام التعساء، وفي يده الرفيعه المقتدرة وهي تمسك بهم لترفعهم فوق الألم والتعاسة والشقاء.
مريم!! وبهذا النداء القوي المقتدر خرجت الشياطين وولت، وعاد للعينين الزائغتين والعقل المشوش والكيان المضطرب الصفاء والشعور والدعة والتعقل، بل عادت لنا مريم التي دعاها البعض حقاً زنبقة الإنجيل.
كان يعقوب بهمن يقول: «ليس لي كتب أفلاطون وأرسطو والفلاسفة القدماء والمحدثين لأدرس بحثًا عن الشيطان، ولكن لي قلبي أوفي المحدثين وأبرعهم وأرهبهم». «بقلبي تستقر سبعة شياطين أفظع وأنكى وأشد من شياطين مريم: «الحسد والأنانية والكبرياء والحقد والطمع والخبث والمكر» بذا صرخ دانتي «لا تتمثلوا بي فقلبي كتلة من الخطية» بذا صاحت سانت تريزا لتلميذاتها المعجبات المقلدات.
في قصة قديمة قيل إن سقراط كان جالسًا مرة بين جماعة من شباب أثينا، ومر بهم رجل به روح عرافة، لم يكن يعرف سقراط، فدعوه ليقرأ نفسيته فقال: «أيها الرجل أنت لص مجرم أثيم لك نفس خبيثة غادرة» وواصل نعته بشر النعوت التي يمكن أن يوصف بها إنسان، وإذا بالجماعة تهب عليه تريد أن تمزقه، كيف يصف نبيها المحبوب بهذه الأوصاف، وإذا بسقراط يقول في هدوء عميق حزين: «دعوه يا رفاقي: إن الرجل قد صدق، فهذه هي الصورة الصادقة لنفسي» ويحي أنا الإنسان الشقي من ينقذني من جسد هذا الموت، أشكر الله بيسوع المسيح ربنا، هذه صرخة النفس التي وجدت انتصارها في المخلص الذي يستطيع أن يحررنا من سلطان الخطية والجسد والعالم والشيطان.
|
|
|
|