عرض مشاركة واحدة
قديم 21 - 07 - 2012, 09:43 PM   رقم المشاركة : ( 2 )
magdy-f Male
..::| الاشراف العام |::..

الصورة الرمزية magdy-f

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 348
تـاريخ التسجيـل : Jun 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : egypt
المشاركـــــــات : 18,593

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

magdy-f غير متواجد حالياً

افتراضي رد: القديس مرقس الرسول كاروز الديار المصرية

مرقس
" خذ مرقس واحضره معك لأنه نافع لى للخدمة"
( 2تى 4 : 11)


مقدمة
فى واد جميل فى إيطاليا ، يعد من أجمل وديان العالم ، حيث المناظر الجميلة الرائعة الخلابة، كان الزائرون يستمتعون بأبهج مناظر الطبيعة هناك ، ولم يكن ما يشوش المنظر سوى كتلة صخرية صماء رابطة على تل يشرف على الوادى ، وقد مر الكثيرون بالمكان ، وقد ضاقوا بها، وتأذوا من منظرها ، إلا شاب فى شرخ الشباب ، تعود أن يذهب إليها ، ويطيل النظر ، ثم يعود إلى بيته ، وبعد بضع زيارات حمل إزميله وبدأ يعمل فيها ، وبعد فترة صنع من الكتلة تمثالا رائعاًلملاك يحنو على الوادى ويرفرف بجناحيه ، وتحول المنظر الكئيب إلى أبهج منظر يتوج التل والوادى معاً ، كان هذا الشاب هو المثال الإيطالى العظيم مايكل أنجلو !! .. كان يوحنا مرقس فى لحظة من اللحظات أشبه بهذه الصورة المشوهة ، حتى لمسته اليد العظيمة التى تصنع من حياتنا أوان للكرامة ، ونجح الفخارى الأعظم ، فى أن يصنع من الشاب الذى لفظه بولس ، ورأى أنه لن يصلح للخدمة قط ، .. ولكن رأى بولس لا يمكن أن يضيع نعمة اللّه وإحسانه ورحمته وحبه ، ونجح الشاب ، وسر بولس بخطأ تصوره ، وأكذوبة تفكيره ، فى الشاب الذى نجح بعد الفشل الذريع ، وعاد إلى موقعه من المعركة ، حيث لم يرتد قط إلى الوراء ، وذهب شهيداً ، وعلى الأغلب فى الاسكندرية حيث قضى الجزء الأخير من حياته فى بلادنا ، وقد أخذ بولس بالحياة العظيمة للشاب ، وكان فى حاجة إليه ، إذا به يقول لتلميذه تيموثاوس: «خذ مرقس وأحضره معك لأنه نافع لى للخدمة » ... هذه هى القصة التى أرجو أن نتأملها ، وعلى وجه الخصوص لأن صاحبها يمثل الفرصة الثانية التى يعطيها اللّه فى العادة لنا نحن المتعثرين فى الطريق لننهض بعد الكبوة التى كثيراً ما تلحق بالكثيرين منا . وهنا نحن نراه فيما يلى :

مرقس ومن هو ؟؟
إن الاسم « مرقس » لفظ لاتينى يعنى « مطرقة » ... ويبدو أن هذه المطرقة كانت من النوع الكبير وليست ما يطلق عليه « مرسيليوس » أو المطرقة الصغيرة ، وقد أعطى له هذا الاسم إلى جانب اسمه اليهودى يوحنا ، كما أخذ بولس اسمه إلى جانب شاول ، ... والاسم يشير إلى القوة التى تمكنت فى حياة هذا الرجل فيما بعد ، حتى أصبحت حياته كالمطرقة التى تحطم الوثنية والشر بين الأمم الذين ذهب إليهم ، .. وكان الرومان يسمون أولادهم كثيراً بالاسم مرقس ، وعلى وجه الخصوص كانوا يعطون هذا الاسم للابن البكر ، وكان شيشرون الخطيب الرومانى الأشهر يسمى « مرقس توليوس شيشرون » إذ كان الابن البكر فى عائلته ، ... وإن كنا لا نعرف اسم أبى مرقس ، لكننا نعرف أن أمه كانت تدعى مريم ، وأنها كانت من الشخصيات القوية التى أخذت مركزاً ممتازاً فى الكنيسة المسيحية الأولى ، وكان بيتها فى أورشليم على الأغلب ، البيت الذى صنع فيه المسيح الفصح مع التلاميذ ، والمكان الذى ألف التلاميذ أن يلتقوا فيه ، ويظن أن فيه أيضاً ولدت الكنيسة الأولى يوم الخمسين ، وهو البيت الذى ذهب إليه بطرس بعد أن أخرجه الملاك من السجن إذ كان كثيرون مجتمعين هناك للصلاة ، والظاهر من ذلك أن يوحنا وأمه كانا على جانب ليس بقليل من الثراء ، إن لم يكونا غنيين ، فلابد وإن الأم كانت كأخيها برنابا الذى باع حقله وقدم ثمنه للرسل ، .. ويقول البعض إن الشاب وقد كان من سبط لاوى ، كان يمارس الخدمة ككاهن ، .. على أنه لا يستطيع أحد أن يقطع بكيفية تجديد الشاب ، هل تجدد فى أثناء خدمة المسيح ، وهل كان للعشاء الربانى فى بيته ، وبينما كان التلاميذ هناك تم القبض على السيد ، ثم ما أعقب ذلك من الصلب ، والقيامة اثارها فى حياته !! ؟ أم أنه جاء إلى المسيح يوم الخمسين أو بالعشرة مع بطرس فترة من الزمن ؟ ! وهل دعاه بطرس : « ومرقس ابنى » ( 1 بط 5 : 13 ) باعتبار أنه ابنه الروحى الذى ولده فى المسيح أم باعتبار الشركة العميقة التى تربط بين شيخ وشاب أحبا بعضهما البعض حباً عميقاً ، أياً كان الأمر ، فمن الثابت أن الشاب كان مسيحياً مجدداً ، وأنه خرج فى رحلته التبشيرية الأولى مع بولس عام 48 م وكان برنابا خاله رفيق بولس فى تلك الرحلة ، وفى برجة بمفيلية تركهما وعاد إلى أورشليم ، وقد رفض بولس أن يأخذه فى رحلتهما التبشيرية الثانية عام 50 م ، وافترق عن برنابا لهذا السبب ، على أنه عاد فقبله إذ ظهر أنه تغير كثيراً عما كان عليه أولا ، وبقى معه إلى النهاية ، ومن الواضح أنه ذهب إلى رومية ، ... وعندما قال بطرس : « تسلم عليكم التى فى بابل المختارة ومرقس ابنى » ( 1 بط 5 : 13 ) .. ظن البعض أن بابل هنا هى روما بالمعنى الرمزى ، غير أن آخرين يعتقدون أنه لم يكن من داع للرسول بطرس إلى أن يشير إلى رومية بهذا المعنى ، .. وأنه يقصد حقاً بابل التى كان بها جالية يهودية كبيرة ، ويعتقدون أن الرسول قصدها مع مرقس ابنه ، ... ومن المرجح أن مرقس وهو يكتب إنجيله ، الذى يعتقد أنه أقدم البشائر الأربع ، استقى الكثير من معلوماته من بطرس نفسه ، وقد تواترت شهادات ايرانيوس وترتليانوس وجيروم بذلك، ... وقد كتب جيروم يقول : « كان القديس مرقس مترجماً للرسول بطرس ، والأسقف الأول لكنيسة الاسكندرية وقد جمع الحقائق ، التى تلقنها من وعظه ، وضمنها الإنجيل بحسب الحق الذى تضمنته مواعظ بطرس وليس بترتيب الزمن الذى وقعت فيه » .. وقال أوغسطينوس إن نهج مرقس كان أكثر تركيزاً مما جاء فى متى ، مما تلقنه من الرسول بطرس ، ولأجل ذلك جاءت المعلومات الكثيرة فى إنجيله أكثر تركيزاً مما جاء فى إنجيل متى الذى اهتم بعرضها وشرحها !! .. وقد سر الرسول بطرس بالإنجيل الذى كتبه مرقس ، وطلب أن يقرأ - على ما يقول جيروم - فى الكنائس ، وقد حمل إنجيله إلى الإسكندرية حيث أسس الكنيسة المسيحية فيها ، ويقال إنه مات شهيداً بها ، وحمل جسده من الإسكندرية إلى البندقية عام 827 م . على يد بعض التجار المسافرين ودفن هناك وبنيت فوق القبر كنيسة من أجمل وأروع الكنائس فى العالم المسيحى ، وقد أعاد الفاتيكان رفاته منذ سنوات قليلة إلى مصر !! .. ومن المعلوم أن رمزه بين البشائر رمز الثور ، أو رمز القوة التى كان يبهر بها الرومان ، وجاءت المسيحية لتؤكد قوتها وصبرها واحتمالها وشجاعتها !! ..

مرقس بين النجاح والفشل
انفرد مرقس بالحديث عن القبض على المسيح ، بذكر قصة الشاب الذى كان لابساً ازاراً على عريه ، وكان أشجع من التلاميذ إذ تبع المسيح ، فى الوقت الذى هرب فيه الجميع ، ويبدو أنه كان نائماً أو مقبلا على النوم عندما سمع عن واقعة القبض على السيد ، وهو يمثل خصائص الشباب على أدق الوجوه ، إذ أنه لم يتمهل ليلبس ثيابه ، بل أخذ الازار ولفه على جسده العارى ، وجرى مسرعاً وراء الموكب ، ومن الغريب أن بعض المفسرين كيوحنا فم الذهب اعتقدوا أن هذا الشخص هو يوحنا الرسول ، وآخرون قالوا إنه يعقوب أخو الرب ، ... لكن الرأى الأرجح الذى يأخذ به غالبية المفسرين يتجه إلى أنه يوحنا مرقس نفسه ، وأنه عندما كتب القصة أوردها كما حدثت معه ، واختبرها بنفسه ، والذى يشجع على هذا الاعتقاد ، هو أنها تعطينا صورة طبيعية حقيقية لحياته كشاب بين الاندفاع والتراجع ، بين الإقدام والإحجام على نحو مباغت عنيف ، كما ستراه فيما بعد .، وكما يبدو الشباب فى الأغلب قبل أن تعركهم الحوادث ، وتصلب وتثبت إرادتهم الأيام !! .. وفى الحقيقة أننا لا نحتاج إلى الوقت الطويل مع أى شاب - إذا قورن بالشيخ - لنحركه فى الاتجاه العاطفى الذى ينقله من النقيض إلى النقيض فى سرعة بالغة.
كان الشاب طموحاً يعتقد أن اللّه سيساعد طموحه ، ويدفعه إلى النجاح بسرعة مذهلة، وسيعطيه المال الوفير الذى يحقق كل آماله وانتظاراته ، ووضع كل ماله من زراعة الخوخ، وبدأت الأشجار تبشر بمحصول جيد ، مما زاده يقيناً بأن اللّه سيعطيه الكثير من الخير،... ولكنه صدم ذات يوم بنزول الصقيع الشديد الذى أتلف كل المحصول،... وتغيب الشاب عن الاجتماعات الكنسية التى لم يتعود من قبل أن يهملها أيام الآحاد ، .. فذهب القسيس ليسأل عنه ، إذا به يواجهه بثورة عارمة قائلا : إنه لا علاقة له بالإله الذى يتلف بستانه بالصقيع ، وصمت القسيس برهة ثم قال : اللّه يحبك أكثر مما يحب الخوخ ، فإنه يعلم أن الخوخ قد يكون أفضل بدون الصقيع ، ولكنه يعلم أيضاً أنك قد تكون أفضل بالصقيع !! ..

مرقس الفاشل
كانت نقطة الفشل البارزة فى حياة مرقس ما حدث عند برجة عاصمة بمفيلية فى جنوب آسيا الصغرى ، وكان ذلك فى أثناء رحلة بولس التبشيرية الأولى ، فبعد أن سار مرقس مع بولس وخاله برنابا فى هذه الرحلة ، وبعد أن ربحوا سرجيوس بولس وإلى قبرس ، وركبوا البحر متجهين نحو آسيا الصغرى رجع مرقس إلى أورشليم رافضاً الاستمرار مع الرسولين ، ولم يفصح الكتاب عن السبب ، ولكن بولس صدم فى الشاب صدمة قاسية ، .. فهل رجع مرقس لما رأى من هول االصعاب والمتاعب لأن برجة عاصمة بمفيلية تقع فى بقعة منخفضة واطئة تنتشر فيها الأمراض والحميات ، ويرجح بروفسور رامسى أن بولس نفسه أصابته حمى الملاريا فى هذه البقعة ، وخلفت له شوكة الجسد التى ناء بها ، والرحلة من برجة إلى أنطاكية كانت من أشق وأخطر الرحلات لصعوبة المواصلات ، وكثرة اللصوص ، والمرتفعات والمنخفضات التى كانت تواجه المسافرين ، وعندما يصل المسافر إلى أنطاكية بيسيدية كان عليه أن يصعد إلى المدينة التى ترتفع عن سطح البحر أربعة آلاف قدم ، وكانت واحدة من ست عشرة مدينة بناها سيلوقس الأول ودعاها جميعاً باسم أبيه ، ... وعلى أية حال فالتعب والجهد والمنخفضات والمرتفعات والأوبئة والأمراض ، واجهت الشاب الغض ، ولعلها ردته عن الخدمة ، وهو كما نعلم الشاب الثرى الذى تعود الفراش الوثير والحياة الناعمة ، ولم يألف الجبال ،البحار والمخاطر أو المتاعب ، ... وما أكثر الذين تراجعوا عن الخدمة لما واجهوا من متاعب أو مشقات أو صعاب !! ... وربما كان السبب حب الوطن والحنين إليه ، ولعلها كانت المرة الأولى التى فارق فيها أمه ، وافتقد فيها حبها وأحضانها !! .. وما أكثر ما ضعف الخدام الكثيرون عندما كان عليهم أن يتركوا بلادهم إلى أوطان غريبة ، دون رجاء فى عودة أو أمل فى رجوع ، ... على أن البعض يعتقد بأن مرقس رفض التقدم إلى الأمام لأنه ضاق بتقدم بولس على خاله برنابا ، ... أليس برنابا هو الأسبق ، وهو الذى شجع بولس نفسه وفتح أمامه الطريق ، ... وها بولس يظهر فى الرحلة متقدماً على خاله ، ومبرزاً عليه كقائد للرحلة ومن فيها ، ... وهو لا يستطيع كشاب غيور على خاله ، وعلى مركزه ، أن يقبل مثل هذا الوضع ، ... وعلى أية حال أياً كان السبب ، فمن الواضح أن بولس استاء بعمق من هذا التصرف وتمكن فى ذهنه وقلبه ، أن هذا الشاب لن يصلح مرة أخرى للخدمة ، ... ولكننا نشكر اللّه لأنه حتى تصور بولس لا يصلح أمام نعمة اللّه قياساً للفشل أو النجاح فى الحياة !!


مرقس الناجح
أما كيف تحول مرقس من الفشل القاسى إلى النجاح العظيم ، فتلك قصة تروى ، ولعلنا نستطيع أن نراها من الزوايا التالية :

مرقس ودرس بولس
وحق لكلوبس تشابل أن يرى بولس الذى بدا كما لو أنه عقبة فى سبيل نهوض الشاب ، سبباً فى قيامه على قدميه ، إذ أن يوحنا مرقس كان أدنى إلى الشاب الناعم الذى يخرج من بيته والملعقة الذهبية ملتصقة بفمه ، والثوب الناعم ينساب على جسده ، وكانت تعوزه - إلى حدبعيد - حياة الخشونة والرجولة التى لا يمكن أن تكون فى الهدوء والدعة والأمن وكانت ثورة بولس فى رفضه لقبوله رغم حبه وإعزازه لبرنابا ، ورغم حنانه ولطفه كإنسان مسيحى ، سبباً فى أن يتنبه الشاب إلى حقيقة موقفه ، ... كانت جروح المحب التى أحدثها فيه ، أفضل من أية قبلات غاشة ومخادعة، يمكن أن تقضى على مستقبله وخدمته ، .. كان من رحمة اللّه بمرقس ، أن قسا بولس عليه ، .. فى قصة مثيرة عن الحرب العالمية الأولى ، إن ثلاثة من الشباب الضباط الإنجليز فى إحدى الكتائب كانوا يتأهبون لدخول المعركة ، عندما بدا واحد منهم فزعاً مرتاعاً خائفاً من الحرب ، وقد استطاع عن طريق أبيه الذى كان من الرجال ذوى النفوذ السياسى أن يتخلف عن المعركة ، وينجو من دخول الحرب ، ... وذهب الشاب إلى ايرلندا ، حيث خطب لنفسه فتاة حلوة جميلة ، وتأهب للزواج ، ... وبينما كان الشاب وخطيبته فى جلسة يتضاحكان جاء رجل البريد يحمل صندوقاً صغيراً استلمه ، وإذ فتحه وجد فيه ريشتين صغيرتين بيضاوين، فضحكت الفتاة للمنظر ، واستفسرت منه عما تعنيان ، وكان الشاب أميناً فأخبرها بالقصة، وكيف أن زميليه فى الجيش أرسلا له الطرد ، كتعبير عن جبنه وتخلفه عن المعركة ، وتلاشت بسمة الفتاة، وامتلأ وجهها بالجد ، وأخذت من قبعتها ريشة مماثلة ، وضمتها إلى الريشتين ، وتركته وخرجت ، .. فامتلأ الشاب من الخزى والعار ، ... ثم وقف قليلا متأملا ، وسرعان ما ذهب إلى لندن ، وهناك دخل الجيش تحت اسم مستعار ، وما هى إلا أسابيع قليلة حتى وجد نفسه فى الكتيبة القديمة التى كان قد خرج منها ، .. واحتدمت المعركة ذات ليلة ، ولم يعد أحد زميليه ، وإذ به يسأل قائده أن يذهب بحثاً عن الرجل ، .. وحاول القائد أن يمنعه دون جدوى مؤكداً له أنه يغامر بذلك بحياته ، ولكنه إذ أصر سمح له بالذهاب ، وعاد يحمل الضابط الجريح الذى قال له: ياتوم أنا أعلم أنه كان لابد لك من العودة ، لأنك لا يمكن أن تكون جباناً ، وسرعان ما أخرج توم ريشة من الثلاث وسلمها لزميله فأخذها بيده وقبض عليها ، وهو يحتضر، ومات وهى فى يده،... وفى هجمة من الهجمات أصيب زميله الثانى بشظية ، وكان يصرخ طالباً الماء،... ولم يكن مع توم سوى القليل منه ، فأسرع وأعطاه لزميله الذى شربه إلى آخر نقطة، وإذ بدأ الجريح ممنوناً أسرع توم وأخرج الريشة الثانية وأعادها إلى زميله الذى أخذها بحب وفرح ، ... وإذ عاد إلى بلاده مثخناً بالجراح ، خرجت الجماهير تستقبله وزملاءه الأبطال ، وأسرعت إليه فتاة كانت تلبس ثياب الممرضات فى الصليب الأحمر ، فقدم لها صندوقاً ممزوجاً بالطين والدم ، فأخذته ، وفى غرفتها فتحت الصندوق لتجد الريشة الثالثة ، ... لقد تحول الجبان بطلا !! ... وهكذا كان مرقس فى المعركة الأسمى والأعظم ، وكان بولس وهو لا يدرى عاملا فى عودة البطولة إلى الجبان الرعديد !! ..
على أنه إذا كان بولس قد عالج مرقس بالشدة والتوبيخ ، فإن بطرس قد عالجه بالرجاء والتعزية،... ولعل قصة بطرس نفسه كانت خير مشجع له على العودة إلى معركة المسيح!... ألم يتحول بطرس فى اللحظة الحرجة جباناً أمام الجارية ، بطرس الذى بلغت به الجرأة إلى تحدى المسيح نفسه بالزعم أنه سيبقى أميناً حتى ولو أنكره الجميع ، ولكن المسيح كان يعرف بطرس أكثر مما يعرف بطرس نفسه ، وكان يرى بطرس ، وهو كالوعل الذى يتخبط فى الشبكة ، عندما أمسكت به الشراك ، ... ولم يكن له من أمل ، إلا فى النظرة الحلوة العطوف التى لاحقته فى أعماق تجربته ، والغفران الواسع الشامل الذى طوقه فى الوقت الدقيق . وعرف يوحنا مرقس من بطرس ، أن الرجاء الدائم ينبغى أن يثبت فى المسيح ، ... ومهما يختلف تلاميذ المسيح بين بطرس وبولس وبرنابا فى سعة قلوبهم أو ضيقها تجاه ضعفات الآخرين ، فإن قلب المسيح أوسع وأكمل وأصدق وأحن ، ضاق قلب بولس عن قبول مرقس ، ولكن يسوع المسيح قبله !! ..
على أنه يجمل بنا - مهما كان الأمر - أن لا ننسى دور برنابا هنا فى إنقاذ الفتى من الفشل العميق ، وبرنابا يعطينا درساً من أعظم الدروس فى السماحة وكرم النفس ، وهو دائماً المشجع للضعيف والخائف والمنهزم والمتردد ، لكن مهما تكن السماحة عنده ، فإن الدرس الخاص الذى يعطيه لنا هنا ، هو أن السماحة إذا كانت مع جميع الناس ، فلا يجوز بالأولى أن تقف أو تردد دون القريب والأهل والصديق ، ... إن بعض الناس الأتقياء كثيراً ما يجهلون هذا الدرس أو يتجاهلونه ، وهم يكونون فى العادة أشد قسوة على أقرب الناس إليهم ، بل كثيراً ما يقفون بعيدين عنهم ، خشية تصور الناس أنهم يفعلون هذا بهم لأنهم أهل وأقرباء ، ... على أن النزاهة فى حد ذاتها لا ينبغى أن تتحول عائقاً فى طريق مساندة الضعيف متى كان قريباً أو صديقاً ، وقد كان برنابا شجاعاً ، فلم يخش أن يتصور أحدهم أنه يساند يوحنا مرقس لأنه ابن أخته ، ليكن ما يكون طالما أن الشاب يحمل علامات التوبة ورغبة الرجوع الصادقة ، فهذا واجب الأقوياء تجاه من هم أضعف أو أصغر أو أقل أمام التجربة ، ... وفى الحقيقة لقد أنقذ برنابا الشاب من الفشل والتراجع، عندما أخذه على مسئوليته ، واصطحبه فى الرحلة ، يعلمه ، ويدربه ، ويشجعه ، ويقويه ، ويعطيه أفضل الدروس فى القوة والشجاعة والحماس والثبات ، ... وأبى الصغير أن يخيب رجاء الكبير فيه ، وتعلم منه كيف يأخذ المروء الفرصة الثانية إلى الحياة الأقوى والأشجع والأكمل والأصلح ... كان شاب من ولاية الينوى فى أمريكا ، قد فشل فى عمله ، وفى السنة التالية سعى إلى المجلس التشريعى وهزم . ثم فشل فى العمل مرة ثانية ، ولما كان عمره تسعة وعشرين عاماً ، حدث له انهيار عصبى ، ثم هزم فى معركة الخطابة فى المجلس ، وكذلك هزم فى انتخابات مجلس الولاية ، وفى انتخابات البرلمان ، ولم ينجح فى انتخابات مجلس الشيوخ وبعد سنة هزم فى معركة الترشيخ نائباً للرئيس ، سعى مرة أخرى إلى مجلس الشيوخ وفشل ، وفى سنة 1860 انتخب رئيساً للجمهورية ، وكان هذا الشاب هو ابراهام لنكولن !! ..
وهل يمكن أن نختم القصة دون أن نعجب للشاب اللابس الأزار على عريه ، والذى هرب يوم الصليب عرياناً بعد أن ترك أزاره بين يدى من حاولوا القبض عليه ، والشاب الذى عاد فاشلا إلى أورشليم بعد توقفه عند برجة بمفيلية ، والشيخ الذى قضى شاهداً وشهيداً فى مدينة الاسكندرية فى بلادنا المصرية ، وشتان بين الصورتين الأوليتين والصورة الأخيرة ، ولكنها نعمة اللّه هى التى غيرت إلى الأفضل والأحسن والأنفع ، ... فإذا ذكرنا كل هذه ، وتذكرنا القصة التى يقولونها عن بيت كان في قلب غابة أوربية ، يذهب إليها الصائدون ، فإذا غنموا صيدهم استراحوا فى ذلك البيت ، وكان جميلا فى بنائه وتصميمه ، وكانت به ردهة كبيرة ، حدث أن أفسد جمالها بعض من شربوا الصودا وسكبوا بعضها على جدرانها ، وكان المنظر مشوهاً حتى جاء رسام بارع فرسم غزالا يخوض ماء بحيرة فوق البقعة المشوهة ، وتحول القبح جمالا ، حتى إن الغادين والرائحين ، كان يستهويهم المنظر الساحر الذى غطى التشويه المتخلف عن الصودا المسكوبة ، ... فإذا كان هذا الرسام قد استطاع لا أن يغطى القبح فحسب ، بل أن يحوله جمالا رائعاً ، ... فإن الرسام الأعظم قد فعل الشئ نفسه ، فى حياة مرقس وحياتى وحياتك، إذ حول قبحنا إلى جمال ، وضعفنا إلى قوة ، وفشلنا إلى نجاح ، وهزيمتنا إلى نصر يحق معه القول : « خذ مرقس وأحضره معك لأنه نافع للخدمة » .

  رد مع اقتباس