عرض مشاركة واحدة
قديم 21 - 07 - 2012, 05:55 PM   رقم المشاركة : ( 3 )
magdy-f Male
..::| الاشراف العام |::..

الصورة الرمزية magdy-f

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 348
تـاريخ التسجيـل : Jun 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : egypt
المشاركـــــــات : 18,593

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

magdy-f غير متواجد حالياً

افتراضي رد: شخصيات بإسم مريم فى الكتاب المقدس


أنشودة مريم The Magnificat
هذه هي كلمات مريم وقد وضعناها هنا أما القارئ لكي يدقق بعمق أكثر من معانيها الإلهية وجمالها الصحيح:
"تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي لأنه نظر إلى اتضاع أمته فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوبني لأن القدير صنع لي عظائم واسمه قدوس ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يتقونه. صنع قوة بذراعه شتت المستكبرين بفكر قلوبهم أنزل الأعزاء عن الكراسي ورفع المتضعين أشبع الجياع خيرات وصرف الأغنياء فارغين عضد إسرائيل فتاه ليذكر رحمة كما كلم آباءنا لإبراهيم نسله إلى الأبد"

قال كاتب معروف: "من الملاحظ أنه لم يقال أن مريم كانت مملوءة من الروح القدس". ويكمل الكاتب قائلاً: "ويبدو لي أن هذا كان تمييزاً مكرماً لها. فقد افتقد الروح القدس أليصايات وزكريا بصورة استثنائية. ومع أننا لا نشك أن مريم كانت تحت تأثير روح الله، فقد كان تأثيراً داخلياً أكثر ويرتبط بإيمانها وتقواها وكذلك بعلاقات قلبها مع الله (والتي تكونت بسبب إيمانها وتقواها) واستطاعت أن تعبر عن نفسها أكثر من يجيش في حاسياتها ففاض من تلك الفتاة المتواضعة الشكر لأجل النعمة المقدمة لها، ولكن يرتبط تسبيحها وشكرها رجاء وبركة إسرائيل". هذه الملاحظات ستساعدنا في التأمل في ترنيمة الحمد وهذه والتي يمكن أن نصفها بحق "أفراح إسرائيل بالمسيح المعطى لهم". فبينما كانت أقوالها هذه نابعة من المشاعر التي تغمر قلبها بواسطة الروح القدس، فإن مشاعرها أيضاً كانت تتفق وتتجاوب ع النعمة الممنوحة لها والتي ميزتها، فمع كونها خاطئة إلا أنها صورة لإسرائيل (انظر عدد 54).
وبنظرة سريعة على هذه التسبحة نجدها ذات طابع يهودي، فهي لا تتجاوز إبراهيم ونسله. وفي هذا الصدد يمكن مقارنتها بتسبحة حنة التي هي أيضاً لم تصل إلى ما وصلت إليه مريم من جهة مواعيد الله لإبراهيم ولكنها تتكلم عن معاملات الله في شعبه وتوقع الانتصار والخلاص الكامل عندما يتدخل الرب "مخاصموا الرب ينكسرون. من السماء يرعد عليهم. الرب يدين أقاصي الأرض، ويعطي عزا (أو قوة) لملكه ويرفع قرن مسيحه". أما مريم فمن الجهة الأخرى تنظر إلى الخلاص إذ يتحقق في شخص ذاك الذي سيولد – ولذلك تقول "عضد إسرائيل فتاه ليذكر رحمة كما كلم آباءنا لإبراهيم ونسله إلى الأب".
هناك شيئان يدفعاننا إلى ملاحظتهما في ترنيمة مريم: أولاً أنها تنسب كل شيء إلى الله، وثانياً أنها تتخذ مكاناً باعتبارها لاشيء على الإطلاق، ولذلك ترنمت بنعمته. وبخصوص هاتين النقطتين فإننا لا نتغاضى عن تقرير هذه الكلمات: "لقد اعترفت بالله مخلصها بالنعمة التي ملأتها بالفرح، في الوقت الذي فيه اعترفت بصغرها وأنها لاشيء أبداً. ولذلك فمهما كان يتطلب من قداسة للإناء الذي يستخدمه الله فقد وجدناه حقاً في مريم – كانت عظيمة فقط بالقدر الذي أخفت فيه نفسها إذ كان الله كل شيء لها. ومتى حاولت أن تجعل شيئاً فهذا معناه أنها تفقد مكانها، وهذا ما لم تفعله. وقد حفظها الله لكي تستعلن نعمته استعلاناً كاملاً. ليتنا جميعاً نعطي الانتباه لهذا التعليم المبارك ومن المستحيل أن النعمة يكون لها السيطرة التامة على نفوسنا ما لم نأخذ مكاننا الحقيقي أي لا شيئيتنا أمام الله."
ويستطيع القارئ أن يفهم لغة ترنيمة الحمد هذه إذ استوعب تلك الأفكار. وعندما يكون هناك عمل حقيقي لروح الله في نفوس شعبه فإن قلوبهم ترتفع إلى المصدر الذي تأتي منها بركتهم. وهكذا مع مريم فقد كان أول ما انطبع في فكرها عندما افتقدها الرب بنعمته التي لا توصف "تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي باله مخلصي". لقد اندمجت فرديتها في الحال بعمل روح الله العظيم في إسرائيل، ولذلك ابتهجت بإله إسرائيل ومخلصه. صحيح أنها تكلمت عن نفسها في العدد التالي وقالت أن الله نظر إلى اتضاع أمته (أو جاريته) وأن جمع الأجيال ستدعوها الطوبة، ولكن هذا باعتبارها فقط الإناء المختار للبركة الآتية لإسرائيل. إنها فكرة خلاص إسرائيل من حالتهم المتدنية التي ملأت نفسها عندما قالت "لأن القدير صنع بي عظائم، واسمه قدوس". وتضيف للتو "ورجمته إلى جيل الأجيال للذين يتقونه". وترينا فضلاً عن ذلك أن إسرائيل كمختار الله هو الذي كان يملأ ذهنها – إسرائيل الذي كان يتكلم عنه بلعام بانحصار عندما قال أن الله لم يبصر إثماً في يعقوب. ولا رأى انحرافاً في إسرائيل – إسرائيل بحسب قصد الله وأفكاره.
وتقدم لنا الثلاثة أعداد التالية مبادئ أعمال الله بالنعمة وما يجب أن تكون عليه النفس أساساً لتتجاوب مع النعمة وما يجب أن تكون عليه النفس أساساً لتتجاوب مع النعمة. فالمستكبرون بفكر قلوبهم والأعزاء وهم على الكراسي والأغنياء والشباعى ولا يمكنهم أن يقفوا أمام الله القدوس في دينونته. ولكن لهؤلاء الفقراء يكرز بالإنجيل دائماً وللمتواضعين والأدنياء يرفعهم الله وللجياع يملأهم بالخيرات. والرب نفسه يعلن ذات الدرس عندما قال "طوباكم أيها المساكين لأن لكم ملكوت الله. طوباكم أيها الجياع الآن لأنكم تشبعون. طوباكم أيها الباكون الآن لأنكم ستضحكون..." ثم يتحول إلى الجانب الآخر ويقول: "ولكن ويل لكم أيها الأغنياء لأنكم قد نلتم عزاءكم. ويل لكم أيها الشباعى لأنكم ستجوعون. ويل لكم أيها الضاحكون الآن لأنكم ستحزنون وتبكون" (لوقا 6: 20 - 26). ليت هذه الكلمات الجادة تعمل بأقصى قدر وبصورة متسعة على تشجيع وتعزية الفقراء والمتألمين والمذلين من شعب الله، كما تكون أيضاً تحذيراً عالياً ومتوالياً للذين يطلبون الشبع والغنى والمجد في هذا العالم.
وتختتم مريم تسبحتها بلغة أشرنا إليها قبلاً "عضد إسرائيل فتاه ليذكر رحمة. كما كلم آباءنا لإبراهيم ونسله إلى الأبد". إن الإيمان هو البرهان أو الإيقان بالأمور التي ترجى، ومريم في تلك اللحظة عاينت تتميم كل مقاصد الله بالنعمة لشعبه الأرضي. حقاً فقد كان كل شيء آمناً ومستقراً في شخص ذاك الذي سيولد في هذا العالم. كما هتفت الملائكة بتسبحتها في الإصحاح التالي "المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام للذين سر الله بهم".
واستمرت مريم ثلاثة أشهر مع نسيبتها العجوز ثم عادت إلى بيتها. ويزيح الكاتب الستار عن تلك العلاقة الروحية والشركة بين هاتين القديستين ولا شك أنهما كانتا مشجعتين لبعضهما في الإيمان والفرح بالرب. وانتهت الزيارة وعادت مريم إلى بيتها "لتتبع طريقها بكل تواضع لتميم مقاصد الله". كان هذا المنزل هو البقعة التي على الأرض تجتذب اهتمام السماء وتتركز فيها.

مريم في بيت لحم

إن كان الله له مطلق السلطان في مقاصده، فله أيضاً مطلق السلطان في اختياره لتلك الأواني التي تحقق مقاصده. ولأكثر من سبعمائة عام قبل ميلاد المسيح، تنبأ ميخا النبي بميلاد المسيح في بيت لخم: "أما أنت يا بيت لحم أفراته، وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا، فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطاً على إسرائيل، ومخارجه منذ القديم، منذ أيام الأزل". وكانت هذه نبوة عن مكان ميلاد المسيا، وقد اقتبسها رؤساء الكهنة والكتبة في إجابتهم عن السؤال الذي طرحه هيرودس عليهم – أين يولد المسيح؟. ولكن كان بيت مريم في الناصرة في الجليل، وكان الوقت يقترب لميلاد طفلها القدوس، وهكذا: "في تلك الأيام صدر أمر من أوغسطس قيصر بأن يكتتب كل المسكونة (العالم أو الإمبراطورية الرومانية). وبناء على هذا القرار تحرك يوسف (ومعه مريم امرأته المخطوبة وهي حبلى بابنها)، لكونه من بيت داود وعشيرته، وصعد من الجليل من مدينة الناصرة إلى اليهودية في مدينة داود التي تدعى بيت لحم. ولم يكن الإمبراطور الروماني يدري كثيراً عن نتائج هذه الفكرة التي طرأت على ذهنه. كما لاحظ أحد الكتاب أن "هذا العمل كان لتحقيق قصد الله العجيب، لكي يولد المخلص الملك في قرية – كانت بحسب شهادة الله لابد أن يتم فيها هذا الحدث". وما يلفت الملاحظة أكثر أنه على الرغم من صدور هذا القانون، والذي بموجبه صعد يوسف ومريم مع كثيرين أيضاً إلى مدينتهم ليكتتبوا هناك، غير أن الاكتتاب قد تم بعد ذلك بفترة "عندما كان كيرينيوس والياً على سورية". كم عجيبة حكمة الله وكمال طرقه! فيوسف كان عليه أن يأخذ مريم امرأته إلى بيت لحم، ويحرك الله الإمبراطور ليدفع إمبراطوريته للاكتتاب فيصعد يوسف إلى بيت لحم. يا له من برهان أكيد أن الله يمسك بزمام الحكم في يديه ويحرك قلوب الناس حيثما يشاء أن يمليها. والمسيحي يؤمن ويعرف ذلك وهو يستريح بسلام إزاء كل أعمال الناس ونشاطها، وإزاء كل التشويش والاضطراب والصراعات التي تجري هنا وهناك.
وبينما كان يوسف ومرين في بيت لحم، أن مريم "ولدت ابنها البكر فقمطته وأضجعته في المذود إذ لم يكن لهما موضع في المنزل" (ع 7). وليس غرضنا في هذا الجزء أن نتناول موضوع التجسد، ولكننا بالحري نتكلم عن تاريخ مريم الشخصي. ونتجاسر أن نقدم لأحدهم بعض التأملات على هذا الحدث العجيب، وسر الأسرار فقال: "إن ابن الله ولد في هذا العالم ولكنه لم يجد مكاناً هنا. وإن كان جميع الناس لهم بيوت ولهم أماكن ولو في فندق غير أن ابن اله لم يجد مكاناً غير مذود. وهل عيثاً يسجل الروح القدس هذه الحادثة؟ كلا، فليس مكان لله ولا لأمور الله في هذا العالم. وهل نجد ما هو أكثر كمالاً غير تلك المحبة التي جعلته ينزل إلى الأرض. ولكنه بدأ في مذود وانتهى بالصليب، وبين البداية والنهاية كل الطريق لم يكن له أين يسند رأسه". ونحن كمؤمنين بكل خشوع وتعبد في حضرة إلهنا نتأمل في الطريقة التي بها "الله ظهر في الجسد" نعمة ربنا يسوع المسيح الذي من أجلكم افتقر وهو الغني لكي تستغنوا أنتم بفقره. وإذا كانت هذه الأمور هكذا فليتنا نتذكر أنه لكي يتمم مقاصد محبته ويفتدي شعبه سواء كان إسرائيل أم الكنيسة، كان لزاماً عليه أن يرفض في حيته ويصلب في موته. إن الطفل المضجع في الذود هو "غرض كل مشورات الله، وهو الممسك والوارث لكل الخليقة، المخلص لجميع الذين يرثوا المجد والحياة الأبدية". ولا عجب فإن مريم كانت محتجة كل هذا الوقت. ولا كلمة تسجل عنها لما كانت تشعر به أو تفكر فيه أو تقوله، والحق أنها كانت مختفية وراء مجد ابنها.

مريم والرعاة
وإذ نشير إلى أولئك الأتقياء الذين اختارهم الله ليتسلموا إعلان ولادة المخلص الذي هو "المسيح الرب"فذلك بسبب ارتباطهم بما تسجل في قصة مريم. فإن الله في هذا الوقت لم يمنح عظماء الأرض هذا الإعلان بل إلى فقراء شعبه والمتألمين الذين كان هؤلاء الرعاة معدودين منهم. فالأخبار والإعلانات الإلهية تعطى فقط للقلوب المعدة إعداداً إلهياً ولهذا فإننا نؤمن بأن هؤلاء الرجال البسطاء كانوا ممن ينتظرون فداء في أورشليم (انظر ع 38). وإذا كانوا ساهرين ليلاً على قطعان أغنامهم فقد أرسل لهم الملاك حاملاً بشائر الفرح العظيم لجميع الشعب، كما أعطاهم علامة للمصادقة على إيمانهم "تجدون طفلاً مقمطاً مضجعاً في مذود". وحالما أنهى رسالته سرعان ما "ظهر بغتة مع الملاك جمهور من الجند السماوي مسبحين الله قائلين المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة".
ولنترك للقارئ التقي أن يتأمل هذه الكلمات التي رنم الملائكة بها والتي ترينا على الأقل أن كل مقاصد الله لبركة شعبه إسرائيل تتحقق في شخص ابنه المحبوب، ولكن دعونا نتتبع هؤلاء الرعاة الذين في بساطة إيمانهم دون أن يتساءلوا عن هذا الحق الذي سمعوه ولكنهم قالوا بعضهم لبعض "لنذهب الآن إلى بيت لحم، وننظر هذا الأمر الواقع الذي أعلمنا به الرب. فجاءوا مسرعين ووجدوا مريم ويوسف والطفل مضجعاً في مذود". ويا له من منظر ملأ عيونهم بالتحية له! ربما لم يدركوا المغزى الكامل لما رأوه أو مجد هذا الصبي. ولكنهم رأوه بقلوب ساجدة بدون شك. وليست هناك كلمة قيلت منهم ولا من مريم ولا من يوسف،ذلك لأنهم كانوا مثبتين عيونهم على المخلص المسيح الرب وهو مضجع في مذود. ولكن كان لا بد لهم أن يكونوا قد تكلموا، فيعد العبارة المتعلقة بشهادتهم "في الكورة" ونتيجة هذا إذ قيل "وكانت مريم تحفظ جميع هذا الكلام متفكرة به في قلبها". فإذا ربطت هذا مع نهاية فقرة عدد 57 نستطيع أن نقول أن مريم كانت ذا نفس هادئة متأملة ومتجاوبة. فالاختيار لمثل هذه الإرسالية وبهذا التكليف يصبح من الصعوبة أن يكون بخلاف هذه الشخصية. إن أقل شعور تجاه صبي كهذا أقول أنه يجب أن يكون في رهبة حضور الله، وهنا يقصر الكلام عن التوضيح والإنسان يجب أن يعرف أكثر عن أفكارها وهي تحملق في وجه هذا الصبي العجيب الذي قال عنه أشعياء بالنبوة "ويدعى اسمع عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام". ولكن يا لها من نعمة حظت بها مريم، ومع ذلك فليست هي غرض السماء بل ابنها وهو غرض مشورات الله، الذي به استعلن مجد الله وتثبت وصار نافعاً في هذا العالم. ونحن نتعجب من السمات الجميلة التي اتصفت بها مريم والتي تتفق مع تقواها وسلوكها.

مريم في الهيكل
نتبين في كل من شخصية مريم ويوسف هذه الصفات التقوية التي نلحظها في انتباهها الشديد لدقائق كلمة الله سواء في أمر ختان الصبي القدوس أو في تطهير مريم، فقد كانت طاعتها لأوامر الناموس واضحة وصريحة (انظر لاويين 13). وكذلك في تقديم يسوع للرب "كما هو مكتوب في ناموس الرب أن كل ذكر فاتح رحم يدعى قدوساً للرب".وكان لا بد أن يمضي أربعون يوماً بعد ولادة الصبي قلما تظهر مريم في هيكل أورشليم. وفي هذه الفترة كانت قد تمت زيارة المجوس أو حكماء المشرق كما وردت في إنجيل متى. وفي هذا المشهد كما في مشهد زيارة الرعاة أيضاً لم تتخذ مريم دوراً ظاهراً بل كانت متوارية في الظل بإرادتها، وكانت في شركة مع الله – على الأقل بقدر قياسها، لذا كانت تعرف المجد الآتي لذاك "المولود ملك اليهود"، فلم تندهش كثيراً عندما رأتهم يخرون ساجدين له أو عندما فتحوا كنوزهم وقدموا له هداياهم – ذهباً ولباناً ومراً – كانت فرحة لكونها الإناء المختار لولادته، ولكن كان عليها أن تتعلم أنه بحكم هذا الارتباط والاندماج بمسيح الله فلا بد أن يلاقيها الاضطهاد من إله هذا العالم. ومن تلك اللحظة التي ولد فيها هذا الصبي ابن الله فإن التنين (أو الشيطان) الذي كان يترقب تلك اللحظة سعى أن يبتلعه. صارت مريم ويوسف وكذلك الطفل يسوع غرضاً لعداوة الملك الشرير ولكنهم كانوا تحت غطاء الحماية الإلهية والإرشاد الذي دفعهم للهروب إلى مصر. وبعدما عادوا إلى أرض إسرائيل إلى الجليل إلى منزلهم الأصلي استمتعا بهذا الشرف والامتياز الذي لا يقدر لخدمته – ذاك الذي لم يكن أقل من ابن الله.
وإذ نتذكر تلك الحوادث لنستكمل القصة، والآن لنتأمل هذا المشهد في الهيكل. كتب ملاخي: "ويأتي بغتة إلى هيكله السيد الذي تطلبونه" نعم لقد أتى "وعندما دخل بالصبي يسوع أبواه ليصنعا له حسب عادة الناموس". كانت أورشليم كعادتها – شعبها يبيع ويشتري النساء تتمم واجباتها المنزلية والرجال يلازمون حرفهم اليومية. كما كان ملكهم الأدومي المتعطش للدماء والقاسي والحزين والبائس ولكنه كان يعمي أتباعه بسخاء وعظمة صروحه المشيدة، عاملاً على إرضاء شهواته الدنيئة. وهكذا كان الجميع في جهل تام بهذه الحقيقة العجيبة أن الله قد افتقد شعبه، والمسيا الممجد الذي تنبأ له الأنبياء والذي يمتد ملكه إلى كل الأرض (انظر مزمور 72) كان في وسطهم وقد حمل إلى تخوم الهيكل المقدس.
ولكن كيفما كان اتجاه الأمة وحالة عدم إيمانهم فإن الله يضمن دائماً معرفة ابنه المحبوب بالصورة التي يستحضره بها. وفي هذه الحالة أعد الله قلوب قليلين كانوا ينتظرون فداء في أورشليم للترحيب بمسيحه واختار الله اثنين من هؤلاء لينظراه بأعينهم في ذلك الوقت كانت مريم ويوسف يجتاز شوارع المدينة ومعهم هذه الوديعة الثمينة، وفعلاً كما كان يفعل أي قديسين يهود بسطاء في أحوال مشابهة لهذه الظروف. ودخلا إلى المكان المقدس دون أن ليلاحظهما أحد أو يعطيهما اهتماماً، ودون أن يعرفا شيئاً عما أعده الله أو ما سيفعله. وكما كتب الإنجيلي "وكان رجل في أورشليم اسمه سمعان. وهذا الرجل كان باراً تقياً ينتظر تعزية إسرائيل، والروح القدس كان عليه. وكان قد أوحي إليه بالروح القدس أنه لا يرى الموت قبل أن يرى مسيح الرب. فأتى بالروح إلى الهيكل" وجدنا هنا واحداً تحت السيطرة الكاملة للروح القدس، وقد دعاه الله وأعده لكي يأخذ ابنه على ذراعيه عندما دخل مريم ويوسف بالصبي يسوع ليصنعا له حسب عادة الناموس.
يا له من مشهد عجيب فعلاً إذ يشغل انتباهنا حقاً لما فيه من فائدة ونفع لنا قبلما نستكمل موضوعنا. ليتنا نتذكر ونحن نتأمل هذا المشهد أننا نقف على أرض مقدسة. ونقرأ أن سمعان "أخذه على ذراعيه" أخذه من يدي أمه. مشهد عجيب! فهذه الأم التقية والمكرسة تضع طفلها بين ذراعي سمعان الشيخ. إن سمعان نال هذا الامتياز الثمين ليحمل على ذراعيه هذا الطفل الذي تتحقق وتتكمل فيه كل مشورات الله!.
ولكن من هو هذا الصبي؟ إنه الكلمة الذي صار جسداً المكتوب عنه "في البدء كان الكلمة، والكلمة كانت عند الله، وكان الكلمة الله" (يوحنا 1: 1) وهو "صورة الله غير المنظور، بكر كل خليقة: فإنه فيه خلق الكل، ما في السماوات وما على الأرض، ما يرى وما لا يرى سواء كان عروشاً أم سيادات أو رياسات أم سلاطين، الكل به وله قد خلق، الذي هو قبل كل شيء والذي فيه يقوم الكل". وهو الذي "فيه سر أن يحل كل الملء" (كو 1: 15 - 19). إنه هو الابن "الذي جعله وارثاً لكل شيء. الذي به عمل العالمين.. وهو بهاء مجده ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته" (عب 1: 2و3) ومن جهة أخرى باعتباره مولوداً في هذا العالم فقد كان هو نسل المرأة ونسل إبراهيم وابن داود. كل هذه الأمجاد وغيرها الكثير، فهو أقنوم إلهي تنازل وصار جسداً، إذ تدور حوله وتشع وتلمع من هذا الصبي المقدس الذي وضعته مريم بين ذراعي سمعان. ليتنا نحملق جيداً وبكل خشوع في هذا السر الإلهي، فكلما نظرنا بعمق أكثر كلما انحنت قلوبنا تعبداً وخشوعاً في حضرة ذاك الذي هو عطية الله التي لا يعبر عنها وأمام نعمة لا يسبر غورها ومحبة فائقة المعرفة.
لقد وقف سمعان والصبي على ذراعيه أمام الله، وبقلب فائض بارك الله وقال: "الآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام. لأن عيني قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته قدام وجه جميع الشعوب. نور إعلان للأمم ومجداً لشعبك إسرائيل". لقد تحققت كل رغائبه، وانقطعت كل علاقة له بالأرض حالما امتلك خلاص الله، وكان مستعداً أن ينطلق بسلام. مثل موسى أيضاً عندما وقف على الفسحة ورأى الأرض التي أعطاها الله لشعبه، هكذا سمعان والصبي المقدس على ذراعيه مركز مشورات الله وتطلع إلى الأمام إلى الوقت عندما يستحضر الأمم إلى النور ويصبح المسيح مجداً لشعبه إسرائيل.
وكان يوسف وأم الصبي يتعجبان من الكلمات التي قالها سمعان عنه، ذلك أنهما كانا لا بد أن يعرفا الأمور جزئياً. ونحن كذلك بشكل عام نأتي تدريجياً إلى معرفة الحق بكل قوته – ذلك الحق الذي نعترف نحن به. وتبع ذلك أمرين فإن الارتباط بالمسيح في هذا العالم يستحضر البركة والألم معاً. ونجد هنا مريم مثالاً على ذلك. فإن سمعان "بارك" الله، والآن يباركهما أي يوسف ومريم، ثم يتجه نحو مريم مخاطباً إياها قائلاً "ها إن هذا قد وضع لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل، ولعلامة تقاوم، (وأنت أيضاً يجوز في نفسي كسيف)، لتعلن أفكار من قلوب كثيرة". وهكذا فإن الله في نعمته ولطفه يستخدم عبده سمعان ليعد مريم بطريق طفلها – طريق الأحزان والرفض – ومن يشك أن هذا القول إن صب أساساً عندا وقفت عند صليب يسوع لتنظر أوجاعه وآلامه ألم يكن في ذلك اختراق للسيف في نفسها أيضاً؟ وفي طريق الله التي نجتازها كم من رحمة تحوطنا إذ نقترب – ليس دفعة واحدة بل – بالتدريج إلى نصيبنا من الأحزان، ونجد أنها عندما تقع علينا تظهر "لمعان محبته"! لا يمكن لمريم أن تنسى هذه الكلمات ولكنها كانت تحفظه "متفكرة به في قلبها"، ولابد أنها كانت دائماً تضع هذه الأقوال أمام الله في تأملاتها وصلواتها. ومن خل حياتها نجد أنها عاشت تحت ظل الصليب، وبالتأكيد فقد كان لها التعويض الكافي والمؤازرة وهي في رفقة ابنها. لابد أنه كان أمامها الكثير الذي لم تقدر أن تتركه ولكنها بالتأكيد كانت تستريح في معرفة أن يسوع هو مسيا المخلص الذي معها. ولم يوجد في كل الأرض من منح هذا الامتياز الذي لا ينطق به وتلك البركة – فلأجل خاطره ومحبة ل فقد أمكنها أن تعاين المستقبل وتترك بين يديه كل شيء اختاره لها في هذا الطريق.
ونتبين فقر يوسف ومريم من الحادثة العرضية عندما قربوا ذبيحتهم عند تقديم يسوع. ونقرأ في اللاويين وبخصوص تطهير المرأة عند ولادتها: "وإن لن تنل يدها كفاية لشاة تأخذ يمامتين أو فرخي حمام الواحد محرقة والآخر ذبيحة خطية فيكفر عنها الكاهن فتطهر" (ص 18: 8). لم تكن مريم أن تنال يدها فتحضر شاة وروح الله يلفت انتباهنا أن ربنا قد ولد في ظروف مذلو وحياة متواضعة من البداية، نعم ومن قبل أن يأتي إلى الأرض كان فكره أن يتذلل ويتواضع، فأي أم لا تريد أن تحيط طفلها بكل وسائل الراحة والترف طالما تستطيع أن تفعل ذلك؟ ولكن كل شيء يتحدد بحكمة إلهية، إذ نرى ليس فقط ظروف ولادة ربنا بل أيضا كل طريقه في هذا العالم الذي لم يجد فيه أين يسند رأسه. وهذا يطبع فينا، كلما تفكرنا في ذلك نعمته التي لا ينطق بها.
إذا انتهت طقوس الهيكل مع أقوال سمعان النبوية، "ولما أكملوا كل شيء حسب ناموس الرب" تركوا الهيكل وخرجوا من بواباته ومعهم هذا الكنز الثمين و "رجعوا إلى الجليل إلى مدينتهم الناصرة". ممارسين أعمالهم اليومية، وهم يمتلكون سراً إلهياً لم يعفه أحد في الناصرة بخلافهم.

مريم ويوسف يجدان يسوع في الهيكل

لقد انقضت اثنتا عشرة سنة، ولم يذكر طيلة هذه الفترة غير شيئين أولهما: "وكان الصبي وينمو ويتقوى بالروح ممتلئاً حكمة وكانت نعمة الله عليه". والأمر الثاني: "وكان أبواه يذهبان كل سنة إلى أورشليم في عيد الفصح". وهذا شهادة أخرى لتقوى مريم وزوجها لعل هذا الأمر مذكور هنا للتأكيد على هذه الحقيقة. ولا يرد هنا عن مريم أنها كانت تأخذ معها الصبي يسوع في هذه المناسبات السنوية. كما لا نجد هنا كلمة تضاف لإشباع الرغبة البشرية لحب الاستطلاع، ولكن ما يتناسب فقط مع غرض روح الله هنا. فالكل في كمال إلهي – لأن كل كلمة في الكتاب كانت تعبيراً لحكمة إلهية. والحقيقة تتقرر في عدد 41 وهي مقدمة للحادثة التي تتبعها والتي ترتبط بمريم.
إن العددين الأولين يمهدان طريقنا للموضوع، "ولما كانت له اثنتا عشر سنة صعدوا إلى أورشليم كعادة العيد. وبعدما أكملوا الأيام بقي عند رجوعهما الصبي يسوع في أورشليم، ويوسف وأمه لم يعلما". ومن السجلات اليهودية نعلم أن عمر الثانية عشر بين الشباب اليهودي يعتبر السن الكافي للنضوج وتحمل المسئولية الفردية أمام الله. والصبي الذي يبلغ هذا العمر يعتبر ابناً بحسب الشريعة ويطالب أيضاً بمتطلبات الناموس.
والحقيقة التي يسجلها الوحي هنا بأن يوسف ومريم صعدا بيسوع إلى أورشليم عندما كان عمره اثنتا عشرة، لا يمكن أن تكون هذه الملاحظة دون معنى خاص لنا. أما ما حدثا في العيد فلم يتسجل هنا، إنما يلفت انتباهنا مباشرة بالحري إلى هذا الظرف بالذات، وهو عند رجوع مريم مع القافلة العائدة فإن يسوع بقي في أورشليم. وكان من الطبيعي أن يظنان بين الرفقة وذهبا مسيرة يوم يطلبانه بدون قلق. ولكنهما إذ لم يجداه بين الأقرباء والمعارف رجعا إلى أورشليم يبحثان عنه. ولمدة ثلاثة أيام في قلق ومخاوف وهما يطلبانه. فمما لاشك فيه بأن كل هذا بترتيب إلهي، فبينما كان "الصبي يسوع" يتمم إرادة أبيه فقد كان يجب ألا يتعطل عن عمله. وفي نهاية المدة "وجداه في الهيكل جالساً في وسط المعلمين يسمعهم ويسألهم". ليت القارئ يدرك هنا كيف أن الروح القدس قبل أن يسجل كلمات مريم فإنه يلفت انتباهنا إلى الحكمة التي يعلمها هذا الصبي القدوس- وهي حكمة مستعلنة بشكل واضح. "وكل الذين سمعوه بهتوا من فهمه وأجوبته". وكم هو حقيق بأن الله يسر بأن يشغلنا بكلمات ابنه المحبوب! أما مريم ويوسف – وهما من أذل الغنم على الرغم من أن يوسف كان ابناً لداود (متى 1: 21) – فقد اندهشا من هذا لمنظر ومريم بقلب أم متأثرة قالت "يا بني لماذا فعلت بنا هكذا؟ هوذا أبوك وأنا كنا نطلبك معذبين".
وقبل أن نأتي إلى جواب يسوع فلنتأمل قليلاً في كلمات مريم. لقد انقضى أكثر من اثني عشر سنة على تلك الإعلانات العجيبة التي أتى بها جبرائيل، وكذلك نفس المدة تقريباً على الأقوال النبوية لسمعان الشيخ، والتي لم تعترضها إلا أوقات عيد الفصح السنوية التي كانا يصعدان فيها إلى أورشليم. بخلاف ذلك مرت هذه السنوات هادئة في الناصرة تتخللها الحياة العائلية بالتزاماتها العادية. وليس أمر غير مصدق، بالرغم من كمالات ابنها الظاهرة في نموه عبر تلك السنوات، أن يصيب مريم العمى الجزئي تجاه طبيعة حياة يسوع اليومية أو على الأقل كانت تنسى النصيب الذي ينتظر ابنها. ولن نذهب بعيداً في تصوراتنا بل نلتزم بالمكتوب فقد كان هناك أمران في خطابها إلى يسوع تؤكد لنا هذا الافتراض السابق، فأولا اللوم الذي تتضمنه كلماتها "يا ابني لماذا فعلت بنا هكذا؟" وثانياً استخدمها لعبارة تتضمن يوسف معها "هوذا أبوك". ولسنا بحاجة إلى إبراز هذين الأمرين باعتبارهما فشلاً، وإن كنا لا نشك أنهما نبعاً من مشاعر طبيعية صافية وعلاقات نقية. ولكن من جهة أخرى يتبرهن لنا أن أسلوب حديثها هو نتاج عواطف شديدة لابنها الكامل.
أما إجابة يسوع لأمه فكانت إعلاناً عن إدراكه لتلك العلاقة الإلهية بالإضافة إلى إعلانه أنه قد جاء ليفعل إرادة أبيه. قالت مريم ليسوع عن يوسف أنه "أبوك"، وكانت إجابته أنه بقي في أورشليم، كقوله، "ينبغي أن أكون فيما لأبي" كانت إرادة أبيه هي الشريعة العظمى في حياته، وفرحه في أن يعترف بها. وعب اعترافه بها مكان جواباً شافياً لسؤال مريم الذي أزاح به لومها الظاهر. ولا يدهشنا أنهما "لم يفهما الكلام الذي قاله لهما".
وعلى ذلك نقرأ: "ثم نزل معهما وجاء إلى الناصرة وكان خاضعاً لهما". كانت إجابته لمريم في الهيكل قد ألقت الضوء الكافي على هذه السنين كلها ما بين أول فصح يصعد إليه وبين يوم معموديته إذ كان يعرف مركزه بدقة، لقد كان هنا فيما لأبيه أو لخدمة أبيه، وبالتالي في خضوعه ليوسف ومريم كان يفعل إرادة أبيه بنفس الكيفية كما بقي في أورشليم. فلم يكن هناك ولا يمكن أن يكون شيئاً من عدم الاتساق بين حياته اليومية وما يسمونه الناس الواجبات المقدسة. وكان كل نفس وكل شعور وكل فكر وكل كلمة وكل عمل إنما هي ثمار لحياة تقوية وتكريسية تامة لإرادة أبيه إذ كان يفعل كل حين ما يرضيه (يوحنا 8: 29). ويا له من مشهد يجرى يومياً أمام عيني مريم ويوسف في هذا المسكن المتواضع بالناصرة.
وفي الختام يقال لنا عن "أمه" التي كانت "تحفظ جميع هذه الأمور متفكرة به في قلبها". هناك الأقوال في أورشليم وكذلك الأقوال في الناصرة. وهي في حالة من اليقظة وتتفكر متأملة في هذه الكلمات. ويمكننا أن نتأكد أن روح الله أعطاها بعض الإدراك لمعاني هذه الأقوال. لتؤازرها وتقودها وتعزيها في سنوات آتية. وأقول أنه ليست واحدة من بين جميع النساء أعطي لها الامتياز المبارك مثل مريم، فهي حقاً "المنعم عليها". ومرة أخرى نسترجع إجابة الرب للمرأة التي رفعت صوتها من الجميع قائلة له "طوبى للبطن الذي حملك والثديين الذين رضعتهما" أما هو فأجاب "بل طوبى للذين يسمعون كلام الله ويحفظونه". هذه البركة ممنوحة لكل واحد من شعب الله.

في قانا الجليل
(يوحنا 2: 1 - 11)
تمضي السنون قبلما نجد مريم مرة أخرى في سجل الوحي. رأيناها آخر مرة في أورشليم عندما كان يسوع عمره اثنتا عشرة سنة وقد صعدت مع رجلها إلى هناك لتحفظ عيد الفصح ثم رجعت إلى الناصرة. ولا يرد شيئاً عن يسوع أو عن أمه لمدة لا تقل عن ثمانية عشر عاماً. وطوال هذه الفترة التي كان فيها يسوع مختفياً كانت هي كذلك مختفية وهكذا يكون الأمر مع المسيحي فإن حياتنا الآن مستترة مع المسيح في الله، ولكن عندما يظهر المسيح حياتنا ستظهرون معه في المجد (انظر أيضاً 1 يوحنا 3: 2) كذلك في الإنجيل ففي اللحظة التي بدأ فيها يسوع ظهوره لإسرائيل (ص 1: 31) نجد مريم مرة أخرى تأتي في المشهد. ولكن لكي نفهم الأمر فهماً صحيحاً وما تبع ذلك فتجب ملاحظة أن سيرتها الشخصية تتوقف. وعندما نراها بعد ذلك أو يرد ذكرها فإما بغرض رمزي أو لتعلم درساً ثميناً في ارتباطها مع ربنا. وتجد ملاحظة أن مريم هذه المنعم عليها لا ينبغي أن تكون محط أنظار شعب الله عندما يأتي ابنها يسوع في المشهد، فما يشغل القارئ هو كمالاته وحكمته وخضوعه الكامل لإرادة إلهه ومجده، وفي نفس لوقت لا ننسى هذه الوحدة في العلاقة بين مريم وطفلها.
ويقال لنا أنه "في اليوم الثالث" "كان عرس في قانا الجليل. وكانت أم يسوع هناك". "ودعي أيضاً يسوع وتلاميذه إلى العرس". إن البعض يشكون إذ تناولنا هذا المشهد بشكل رمزي عندما نطرح الصورة النبوية لرجوع إسرائيل المستقبلي. والجملة التي تتكلم عن العرس أنه كان "في اليوم الثالث" إنما تشير بوضوح إلى ذلك المعنى النبوي، فاليوم الثالث يتكلم عن زمان البركة (وكذلك الدينونة إذا أضفنا إليها حادثة تطهير الهيكل) والتي جاءت بعد اليومين للشهادة وهما ليوحنا المعمدان وليسوع نفسه – والمسجلة في ص 1، والتي تعني غالباً القيامة – وهي ظلال مستقبلية لحقيقة بركة الشعب الأرضي وكذلك بركة الشعب السماوي والتي تتأسس على القيامة وحدها. ولكي نفهم الخاصية الرمزية لهذا العرس – فقد اتخذ العرس مجراه ولكنه اختير خاصة لإظهار هذا الغرض وهو مفتاح هذه الحادثة ولا بد لنا أن نقول ذلك لأن كثيرين حتى من المسيحيين أنفسهم لم يفهموا بحسب أفكارهم البشرية المناقشة التي دارت بين الرب نفسه في تعاملاته مع مريم في هذه المناسبة، وقد نسوا مجد ذاك الذي استعلن هنا كما في أماكن أخرى وكذلك كماله المستعلن في تلك العلاقة.
ونقرأ "ولما فرغت الخمر قالت أم يسوع له ليس لهم خمر. قال لها يسوع مالي ولك يا امرأة؟ لم تأت ساعتي بعد. قالت أمه للخدام مهما قال لكم فافعلوه" (ع 3 - 5). ونسجل هنا ملاحظات كتبها واحد تشرح معنى هذا الجزء: [إنه في العيد (أو العرس) لا يعرف أمه، وهذه هي علاقته الطبيعية مع إسرائيل، والمنظور لها أنه قد ولد منها تحت الناموس، فإسرائيل أمه، إنه يفصل نفسه عنها ليتمم البركة]. وهذا يساعدنا في شرح طبيعة هذا المشهد الرمزي المشار إليه. وهذا صحيح فإذا كان يسوع قد ولد من امرأة وولد تحت الناموس، فقد كان عليه أن يموت عن هذه العلائق جميعها لكي يمجد الله تمجيداً كاملاً ويفتدي الذين هم تحت الناموس بأن يصير لعنة لأجلهم قبلما يأتي بالبركة لإسرائيل. وحبة الحنطة كان ينبغي أن تقع في الأرض وتموت لكي تأتي بثمر كثير.
ولكن هناك شيئاً آخر يجب أن نتذكره أن يسوع قد أخبر أمه – كما رأينا كذلك من قبل – أنه ينبغي أن يكون فيما لأبيه أي لصوالح أبيه، وأنه قد أتى ليفعل إرادة أبيه وهو قد فعل ذلك ففي كل خطوة كان في شركة مع أبيه سواء من جهة التوقيت أو الأسلوب الذي يتبعه، كما قال عن نفسه "لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئاً إلا ما ينظر الآب يعمل. لأن مهما عمل ذلك فهذا يعمله الابن كذلك" (يوحنا 5: 19 - 20). ولذلك كان من المستحيل عليه أن يقبل اقتراحاً من مريم عما ينبغي أن يعله وهذا معناه أن مريم تتدخل في منطقة مقتصرة ومحددة للآب وللابن. كان ما قالته تعبيراً عن حثها للرحمة وهو في ذات الوقت يعبر عن إيمانها بقوة يسوع التي لا يمكن أن تنكر. وعندما نأتي إلى دائرة كمال المسيح وتكريسه فإننا لا نسمع غير صوته الذي يقول أنه جاء ليفعل إرادة أبيه. إن هذا يفسر لنا قوله "مالي ولك يا امرأة؟؟ لم تأت ساعتي بعد".
كانت كلمة يسوع لأمه التأثير المقصود، ويتضح هذا من حقيقة أنها لم تحاول أن تجيب،وأنها كانت تعتمد على تدخل يسوع وإظهار قوته، فقالت للخدام: "مهما قال لكم فافعلوه". وهذا جميل ورائع في حد ذاته، فمع أن مريم بسبب عواطفها الزائدة جربت في أن تأخذ مكاناً لا يخصها، وربما رغبة منها أن ترى ابنها يظهر علانية،ولكن سرعان ما تكلم الرب حتى عادت إلى مكانها الصحيح وانسحبت إلى الخلف. حتى وهي تتطلع إلى مجده الذي يفوق المجد البشري (ع 11) موصية الخدام بطاعة له لا تقبل الجدال. إن التوفيق بين عواطف الأمومة مع إيمانها بيسوع باعتباره يدعى ابن العلى وابن الله، وهي تراه في طريقة حياته اليومية يأكل ويشرب وينام، إنما يصبح هذا التوفيق أمراً صعباً ولكن الله نفسه كان يلاحظها ويفتح قلبها كل يوم لما كانت تحتاج أن تتعلمه وكذلك في هذه المناسبة عرس قانا الجليل. لم تعد تنشغل بتاتاً بنقص الخمر، وبقيت شاهدة بصمتها عن ما سيحدث، ولذلك استمتعت بهذا الامتياز الذي لا ينطق به كشاهدة لبداية هذه الآيات التي صنعها يسوع عندما أظهر مجده وآمن به تلاميذه. إن ما يصدر عما هو إلهي هو جزء من مجد الله وإظهار لحقيقة شخصه، وبالتالي فإن تحويل الماء إلى خمر كان بقوة كلي القدرة ونتيجة ذلك أن تلاميذه آمنوا به.كانوا قد قبلوه من قبل مع ضعف إيمانهم أما الآن فقد تثبت إيمانهم وذلك مريم أيضاً.
وإذ أكمل يسوع إرساليته في قانا الجليل انحدر إلى كفرناحوم هو وأمه وإخوته وتلاميذه وأقاموا هناك أياماً ليست كثيرة.

أم الرب وإخوته
متى 12: 46 – 50، مرقس 3: 31 – 35، لوقا 8: 19 – 21
بمقارنة الفصلين الأولين المشار إليهما يبدو أن الحادثة المذكورة فيهما والتي تلفت نظرنا إلى مريم ثانية قد حدثت في كفرناحوم. وإلى تلك اللحظة كان الرب مشغولاً تماماً بخدمته المباركة. وكانت جموع غفيرة جداً التي انجذبت نحوه حتى أنه وتلاميذه لم يقدروا ولا على كسر خبز. "وأقرباؤه" سواء أكانوا المهتمين به أو المتضايقين مما كان يحدث "خرجوا ليمسكوه لأنهم قالوا أنه مختل". (مرقس 3: 20 و 21). هذه الحادثة هي التي ستشرح الواقعة التي سنتأملها الآن، لأنه في إنجيل مرقس تتبعها في الحال غالباً. ومرة أخرى نجده يتتبع بنشاط إرساليته الإلهية "وكان الجمع جالساً نحوه" (مرقس). "وفيما هو يكلم الجموع" (متى) "إذا أمه وإخوته قد وقفوا خارجاً طالبين أن يكلموه". وكما نفهم من لوقا أنهم "لم يقدروا أن يصلوا إليه لسبب الجمع" "ووقفوا خارجاً وأرسلوا إليه يدعونه" كما نتعلم من مرقس. وهكذا انتقل الكلام إلى دائرة المحيطين به من الجمع – الدائرة الداخلية بأن الرب يطلبه أمه وإخوته. وإذا نتتبع رواية متى – قال له أحد "هوذا أمك وإخوتك واقفون خارجاً طالبين أن يكلموك".
وفي البداية قد يبدو غريباً بعدما تعلمت مريم الدرس في قانا الجليل أن تتجاسر هكذا لتقاطع الرب في خدمته.ويمكن أن نفهم ذلك في ضوء الحادثة المشار إليها في (مرقس 3: 20 و 21). وعلى الرغم من أنه قد كُشف لمريم من هو يسوع فلم تستطع إلا أن تُظهر عواطفها الطبيعية هذه التي ازدادت وقويت وهي تشهد حياته الطاهرة والمقدسة – الحياة التي ظهرت منها محبة كاملة لله وللإنسان. ومطالب إلهية وأرضية (إذ كان خاضعاً وهو صبي ليوسف ومريم). وإن كانت مريم لم تكن قد رأت كل شذى وجمال ابنها الذي يمكن أن نتصوره جيداً غير أن ما رأته كان يكفي ليجعل يسوع موضوع مشغولية قلبها المتزايد. ولهذا عندما رأته خاضعاً مستسلماً، دون اعتبار للذات أو الراحة، متابعاً خدمته يوماً فيوماً، غير مبق على نفسه ولو في أدنى درجة لها، وهو لا يكف بلا كلل صباحاً وظهراً ومساءً، متمسكاً بكل فرصة ليكون فيما لأبيه. فقد كانت إلى حد بعيد محكومة بعواطفها الطبيعية ومنزعجة لأجله. وبهذه الطريقة فقط أوصلت الرسالة التي رغبت أن تتحدث بها معه بشكل يكون مفهوماً.
وقبل أن نتأمل في إجابة الرب، فإنه من المفيد أن نشير إلى الصفة المميزة للحكمة الإلهية المستعلنة هنا. فالفشل من جانب التلاميذ وتعبيرات العداوة التي يطلقها الذهن الجسدي مسجلة كلها في الأناجيل لتتحول في الحال بالفكر الإلهي إما لكي تلفت انتباهنا إلى بعض سمات المجد في شخص المسيح نفسه أو لتعلمنا بعض الدروس الهامة للحق الإلهي. فلا شيء أكثر وضوحاً ليبين لنا أن الله وراء كل شيء حتى أنه يستخدم الكل لتتميم مقاصده سواء بالنعمة أو بالحكم. وهكذا كان مع مقاطعة مريم لخطاب الرب المسجل هنا. وتوضح لنا أمثلة (متى 13) أن الرب قد وصل إلى أزمة في خدمته. ولا نذهب بعيداً إذا قلنا أن الأمثلة التي نطق بها لم تقال قبلما يقطع علاقته بالأمة اليهودية المرتبط بها حسب الجسد. وهو ذات الشيء الذي يفعله الرب إزاء رسالة مريم ويا للكمال الإلهي الذي نراه في كلٍ من حكمته وغنى كلمته. إنه هو الأقنوم الإلهي الذي سبق فرأى كل شيء وجعله خاضعاً لأغراضه.
إن إجابة الرب لأمه وإخوته تستحق منا كل انتباهنا الخاشع: "من هي أمي؟ ومن هم إخوتي؟. ثم مد يده نحو تلاميذه وقال ها أمي وإخوتي! لأن من يصنع مشيئة أبي الذي في السماوات هو أخي وأختي وأمي" (متى 12: 48 - 50).
ومع أننا مهتمون بالدرجة الأولى في تأملاتنا بتاريخ مريم الشخصي، غير أن هذا لا يمنع من أن نعبر سريعاً على التعليم النافع لهذه الحادثة. فبالنسبة لمريم نفسها فإن هذا الدرس شبيه للغاية بالدرس المعطى لها في قانا الجليل. وإذ كان الرب مشغولاً بتتميم إرادة الله في خدمته المباركة فإنه لم يسمح بمن يُعوِّق خدمته ولو كانت أمه بحسب الجسد. وفي تكريسه لصوالح أبيه لم يكن لديه ما يفعله معها (انظر يوحنا 2: 4). ويسمح لنا هنا أن نراه باعتباره لاوي الحقيقي والكامل. وقبل رحيل موسى كان قد بارك أسباط إسرائيل فقال عن لاوي: "الذي قال عن أبيه وأمه لم أرهما، وبإخوته لم يعترف وأولاده لم يعرف بل حفظوا كلامك وصانوا عهدك" (تثنية 33: 9، انظر أيضاً مزمور 69: 8). ويا لها من أمور مباركة هذه التي نجدها ممثلة كلها في المسيح إزاء هذا المشهد الذي أمامنا! لقد كان لله تماماً وبكليته، وهكذا كان خارج العلاقات الطبيعية برمتها. لقد كان حقاً قائداً لشعبه في كل طريق يدعوهم أن يسلكا فيه (انظر 1 يوحنا 2: 6). وبأسلوب مماثل تمم فكر الله عن النذير، وهكذا في كل أيام انفصاله ونذره كان قدوساً لله. ومع أن نذره الآن مؤكد ويأخذ الآن شكلاً آخر وحالة أخرى، إلا أن حياته التي عاشها هنا كانت لله، وكان في كل طريقه هنا على الأرض بكامله لله.
وبالإضافة إلى ما ذكرنا هناك معنى آخر. ففي ختام (ص 11) نجد أنه قد رفض، وأن مختار الله هذا قد نحى جانباً الأمة التي لم تقبل ماسياها. وإذا كان بركات النعمة مخيفة عن الفهماء والحكماء فإن الله أعلنها للأطفال. وأمكن ليسوع أن يحمد الآب "رب السماء والأرض" لأجل تدريبات نعمته بحسب مقاصدها الأزلية. وهكذا كما أعلن الآن "كل شيء قد دُفِع إليَّ من أبي. وليس أحد يعرف الابن إلا الآب، ولا أحد يعرف الآب إلا الابن، ومن أراد الابن أن يعلن له". ولذلك عندما قال الرب إجابته لمن أخبره عن رغبة أمه وإخوته أن يتكلموا معه – من هي أمي؟ ومن هم إخوتي؟ كان في هذا إعلاناً عن عدم اعترافه بالروابط الطبيعية. ومن كما نتوقع أن نجده في الفصل التالي يذهب ليلقي البذار طالباً الثمر، إذ قال أتى مفتشاً عن الثمر ولكنه لم يجد.
ونتعلم أيضاً بخلاف ذلك أنه أقام روابط حميمة وأكثر مودة مع تلاميذه إذ مد يده نحوهم وقال ها أمي وإخوتي! لأن من يصنع مشيئة أبي في السماوات هو أخي وأختي وأمي. ويا لها من نعمة ثمينة يعلنها مظهراً أمام الجميع ارتباطه الكامل بهذه البقية المسكينة والضعيفة التي تتبعه بخطوات مترددة، والتي بفضل عنايته ومؤازرته لها يثبتون معه في تجاربه! وإذ يصنعون مشيئة الآب وذلك بسماعهم لدعوته فإنه قد أحضروا إلى الدائرة التي يشكل فيها هو المركز والرأس والتي وجد فيها كل مسرته (مزمور 16: 3). ويمكننا أن نرى كيف اهتم بمريم بكل حنان عندما انتهت خدمته. وكان هذا أيضاً جزءاً من كماله كإنسان على الأرض. وليس أقل من ذلك كانت روابطه الحميمة بأولئك الذي أعطوا له كأبناء (أشعياء 8: 18).
ويلاحظ أيضاً بالتأكيد أنه كان في هذا كالمثال الكامل. فكم يفشل الكثيرون في اتخاذ الموقف المتوازن بين استيفاء مطالب الله وشعبه وبين مطالب الروابط الطبيعية! إن خلو الفرد من العواطف الطبيعية هي علامة الأزمنة الأخيرة والخطيرة، ولكن إذا تغلبت هذه العواطف وعلت فوق المحبة للإخوة وأصبحت تتحكم في حياتنا فإننا لا نقدر أن نسلك في روح كلمات رنا المبارك. أما لو كان المسيح ممتلكاً لقلوبنا فإننا نرى جميع هؤلاء الذين هم له في ضوء عواطفه ومن جهة الحق الكنسي كعائلاتنا وأهلنا الذين يشغلون كأنهم الحقيقي. ليت قلوبنا تستنير بكلمات النعمة التي انسابت من شفتي ربنا في هذا الموقف.

مريم تقف عند صليب يسوع
(يوحنا 19: 25 - 27)
عندما حمل سمعان الشيخ الطفل يسوع على ذراعيه قال لمريم "ها إن هذا قد وضع لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل، ولعلامة تقاوم، (وأنت أيضاً يجوز في نفسك سيف) لتعلن أفكار في قلوب". وقد كتبنا الكلمات التي تشير بصفة خاصة إلى مريم في شكل مائل، وقد وجدت تتميمها في المشهد لذي يحويه هذا الكتاب. لم يقال أنها تبعت يسوع إلى الصليب أو إذا كانت شهدت التعبير والإهانات واللطم الذي لحقه قبل محاكماته. ولقد أسدل الستار على مشاعر مريم وقلقها وألمها الشديد طوال الليل المظلم الكئيب لتسليمه، وإن كان لا بد أن السيف كان قد أترق أعماق نفسها طوال الليل والنهار عقب الفصح. غير أن روح الله يهتم هنا بالسيف الذي تسلط على الرب وليس على مريم. وقد دعينا لكي نتأمل اتجاهه مسلكه ووداعته وصبره واتضاعه وكلماته، والآن إذا تقترب أحزانه وآلامه من النهاية فإن الستار يرتفع إلى لحظة قصيرة حتى يمكننا أن نرى مريم عند الصليب أو بالحري أن ننظر إلى كمال يسوع في اهتمامه بمريم – بعدما تمم إرادة الله بخدمته على الأرض. كان آخرون مع مريم، ومريم أختها زوجة كليوباس، ومريم المجدلية. ولكن لمريم وللتلميذ المحبوب الذي كان واقفاً كانت كلمات الرب. لا يمكننا أن نخمن حيث صمتت كلمة الله ولكننا لا نزال نكرر ونؤكد أن مريم لم تستطع أن تتفرس في صليب ابنها القدوس بدون ألم لا ينطق به وبدون أن يتمزق قلبها بهذا المشهد المروع. لقد شاهدته لأكثر من ثلاثين عاماً ولم تستطع إلا أن تكون حساسة لشذاه الأدبي الفائق وجمال حياته المكرسة، ولا بد أنها قد رأت على الأقل بعض اللمحات من مجد شخصه. والآن صار من نصيبها أن تنظره مرفوضاً ومهاناً ومنبوذاً ومصلوباً! لقد نالت بكل تأكيد مؤزارة إلهية وهي تعبر هذه التجربة النارية. ولم يطن قلبها أقل من كونه ينفطر حزناً وهي تراه معلقاً على الصليب وتجد ابتهاج أعدائه بحقدهم الشيطاني وقد بلغوا غايتهم الشريرة.
لا يمكننا مهما كان أن نتوانى في تأملات كهذه، ولا نتجاسر فنجعلها إلا لتزيد من تقديرنا لعطف وحنان يسوع لمريم في أحزانها. كانت كأسه على وشك أن تفرغ إذ نقرأ في الحال "رأي يسوع أن كل شيء قد كمل" وكان عالماً بما يدور في قلب مريم، وقد أنهى عمله، فتوجه إلى مريم بكلمات التعزية والمواساة. أكانت هي في ظلام رأسي في لحظات تجربتها المرة؟ كان النور يقترب ليبدد لظلمة ويؤكد لها أن الشخص الذي كانت تنظر إليه بأسى وحزن لا يوصف يفهم حزنها، فقد فتح شفتيه وقال عندما رأى أمه والتلميذ الذي كان يحبه واقفاً "يا امرأة هوذا ابنك، ثم قال للتلميذ هوذا أمك. ومن تلك الساعة أخذها التلميذ إلى خاصته".
عندما التأمل في هذه الكلمات يلفت انتباهنا تلك الحقيقة بأن الإنجيلي بالوحي يكتب كلمة "أم"بينما خاطبها يسوع "امرأة"، كانت مريم هي أم يسوع – هذه النعمة من الله قادت جبرائيل أن يعطي التحية لها كالمباركة بين النساء. ولكن كما رأينا أن الروابط الطبيعية لا يمكن الاعتراف بها أنها تشكل أي مطلب من حياة نذير ومكرس كامل والآن بما أن موت الرب صار وشيكاً وهذه الرابطة الحميمة والعاطفية ستنتهي برحيله من هذا المشهد – وحتى تلك اللحظة فإن الروح القدس يذكرنا بأنها أم يسوع. وبلا جدال فإننا نتعلم أن الكرامة التي منحها الله لمريم في دائرتها الخاصة لن تنتزع منها. إن الخطأ، بل الخطأ القاتل، كان في نقل الكرامة من الأرض إلى السماء، ونتيجة ذلك أنها نالت مجداً أعلى مما لابنها الحبيب.
وفي كلمات ربنا هذه يمكننا أن نفهم بوضوح شيئين. ففي المكان الأول يعطي لمريم في حرمانها تعزية وغرضاً. إن التلميذ المحبوب الذي عرف فكر الرب أكثر مما عرفه أحد آخر (إذ كان يتكئ رأسها على صدر الرب) كان عليه أن يصبح ابناً لمريم، وكان على مريم أن تأخذه في عواطفها كابنها بطريقة جديدة كما أعطي لها من الرب نفسه. وفي الحقيقة لقد كان ميراثاً ثميناً لعواطف قلبه واستطاع أن يمنحها أعظم تعزية لها في تلك الظروف. وثانياً أنه نقل علاقته الأرضية إلى يوحنا عندما قال له "هوذا أمك". وهكذا خصص للتلميذ الذي كان يحبه تتميم كل المسؤوليات الحبية والمرتبطة بعلاقات القرابة. وبإيجاز فإن مريم سلمت من الرب لعناية يوحنا واهتمامه، الذي كان عليه أن يحنو عليها ويمنها عواطفه البنوية. لقد عرف الرب ما في قلب كل منهما التي كانت بحسب معرفته ومحبته لكل منهما حتى أنه استودعهما بعضهما لبعض وهكذا ربط قلبيهما معاً في الزمان الباقي لغربتهما على الأرض.
  رد مع اقتباس