2. سمات المرأة المنحلّة
إن كانت شفتا المؤمن المنصت لصوت الحكمة تحفظان معرفة فإن شفتيْ المرأة المنحلة تنساب منهما كلمات معسولة لينة كالزيت.
"لأن شفتي المرأة الأجنبية تقطران عسلًا،
وحنكها ألين من الزيت.
لكن عاقبتها مرة كالأفسنتين،
حادة كسيفٍ ذي حدّين" [3-4].
سبق لنا الحديث عن المرأة الأجنبية في هذا السفر، أنها تعني امرأة أممية زانية، لأنه بحسب الشريعة المرأة الإسرائيلية التي تُضبط في الزنا تُرجم. لذلك جاءت بعض الشريرات وسكنّ في وسط إسرائيل. وربما تعني أيضًا الإسرائيلية الساقطة في الزنا سرًا، فإنها تُحسب أجنبية وغريبة لأنها فصلت نفسها عن العهد الإلهي وفقدت انتسابها للشعب المقدس.
كلماتها من الخارج حلوة كالعسل، وفي الداخل مرة للغاية كالأفسنتين؛ من الخارج لينة كالزيت ومن الداخل كسيفٍ قاتلٍ ذي حدّين. يرى البعض أن العاقبة المرة كالافسنتين والسيف ذو الحدين هي الأمراض التناسلية التي يعاني منها كثير من الساقطين في الزنا[137]. ولعل الله سمح بذلك لكي خلال ما يحل بالجسد يدرك الإنسان خطورة ما يحل بالنفس. فإن كان العالم قد اهتز منذ سنوات قليلة بسبب اكتشاف مرض الإيدز الذي غالبًا ما ينتقل خلال العلاقات الجسدية الخاطئة، فإن البشرية ستهتز حينما يفقد الكثيرون أبديتهم ومجدهم السماوي وشركتهم مع السمائيين بسبب الاستعباد للشهوات الجسدية الدنسة.
غالبًا ما يُقصد بالشفتين والفم هنا القبلات المثيرة للشر مع الكلمات العاطفية الغاشة.
يتطلع الإنسان الحكيم إلى المرأة الشريرة بفمها ذي الشفتين الناعمتين كعدوٍ خطيرٍ يقف ممسكًا بسيف ذي حدين. كل شفاه أشبه بحد سيف، أينما توجه السيف يقطع ويدمر... هكذا فم الشريرة.
* يُقدم أحدهم هذه النصيحة: "لا تُلاحظ جمال المرأة الأجنبية، ولا تلتقي بامرأة تُدمن الزنا. إذ تقطر شفتا الزانية عسلًا، الذي إلى حين يبدو لينًا لحنجرتك، لكنه بعد ذلك تجده أكثر مرارة من الأفسنتين، وأكثر حدّة من سيفٍ ذي حدّين. فالمرأة الزانية لا تعرف كيف تُحب بل تصطاد؛ قبلاتها مملوءة سمًّا، وفمها مخدِر ضار. إن كان هذا لا يظهر في الحال، فبالأكثر يجب تجنبها، لأنها تحجب هذا التدمير وتختم على هذا الموت ولا تسمح له بالظهور في البداية[138].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* تبدو ملامح الزانية مقبولة. أنا أعلم ذلك، إذ يقول الكتاب: "شفتا المرأة الأجنبية تقطران عسلًا" [3]. لهذا السبب احمل كل هذا التعب حتى لا تكون لك خبرة هذا العسل، فإنه في الحال يتحول إلى إفسنتين. هكذا يقول أيضًا الكتاب المقدس: "هذا الذي إلى حين ليّن لحنجرتك، لكنه بعد ذلك تجده أكثر مرارة من الإفسنتين، وأشد حِدّة من سيفٍ ذي حدّين" [3، 4 lxx][139].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* هكذا حرم الإنسان نفسه من ثمار الأمور الصالحة وملأ (بطنه) بالثمر الذي يجلب دمارًا خلال العصيان[140].
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
"قدماها تنحدران إلى الموت.
خطواتها تتمسك بالهاوية.
لئلا نتأمل طريق الحياة،
تمايلت خطواتها ولا تشعر" [5-6].
بدأ وصفه للمرأة الزانية بشفتيها اللتين تقطران عسلًا مسمومًا، قد دهنتهما بزيت الخداع لتسحب كل قلب إليها. من يستمع إليها ينزل إلى الأسافل، "قدماها تنحدران إلى الموت"، ولا يرتفع إلى قمم الجبال العالية والتلال الراسخة، فيعجز عن إدراك صوت حبيبه الحقيقي. يفقد قدرته على الترنم قائلًا: "صوت حبيبي. هوذا آتيًا طافرًا على الجبال، قافزًا على التلال" (نش8:2). وكما يعلق القديس غريغوريوس النيصي على هذه التسبحة الرائعة فيقول بأن العروس وقد تيقظت بطرق كثيرة بلغت قمة السعادة. لقد تحدث معها عريسها خلال الآباء والأنبياء، خلال الجبال والتلال، والآن قدُم إليها بنفسه ليتحدث معها فمًا لفمٍ ووجهًا لوجهٍ[141].
خطورة المرأة الزانية أن حركاتها تميل يمينًا ويسارًا، أو خطواتها غير ثابتة، لهذا تسحب قلب من يرتبط بها إلى حيث لا يدري. الأمر الأكيد أنها تضم معها من يرتبط بها إلى مملكة الموت.
في البداية تظهر كحيّة تبث سمومها، شهواتها الباطلة تشكل كل كيانها وحركاتها وكلماتها لكي تحدر النفوس إلى الموت آجلًا أو عاجلًا. الالتصاق بها يُسرع بالجسد إلى الدمار ويُسقط النفس في الموت الأبدي. إنها تسحب القلب والفكر من التأمل في طريق الحياة الأبدية، ليس علانية، ولكن بالخداع ومع مرور الزمن ينسى المُلتصق بها يوم الدينونة، فلا تشتهي نفسه أكاليل المجد، ولا تخشى نار جهنم.
العلامات الظاهرة لطريق الخطية هي: العاطفة والحب والعذوبة والتنعم والحياة المترفة والتدليل والميوعة... أسماء براقة جذابة للإنسان، فيظن أن الحياة بدونها لا طعم لها، أما العلامات الخفية الحقيقية لهذا الطريق فهي الموت والهاوية والدمار الأبدي. وإذ وضع الحكيم هذا اليوم العظيم أمام أعين تلاميذه يقول:
"والآن أيها البنون اسمعوا لي،
ولا ترتدّوا عن كلماتي" [8].
* حسنًا، لقد بدأ يخاف يوم الدينونة.
ليته بالخوف يُصلح حياته، ليسهر ضد أعدائه، أي خطاياه.
ليبدأ ينطلق نحو الحياة الداخلية مرة أخرى ويميت أعضاءه التي على الأرض كقول الرسول[142].
القديس أغسطينوس
"أبعد طريقك عنها،
ولا تقرب إلى باب بيتها" [9].
يُقدم لنا الحكيم هذه النصيحة، وهي الابتعاد عن طريق الخطية وعدم الاقتراب إلى مدخل بيتها، حتى لا تسقط في حبائلها.
* هذه النصيحة التي يُقدمها لنا كاتب الأمثال: "أبعد طريقك عنها، ولا تقرب إلى باب بيتها" [8] هي بخصوص الزانية. أود أن أردد نفس الأمر بالنسبة لمحبة المال. فإنه بالدخول التدريجي إليها تسقط في محيط الجنون ولا تقدر أن تتخلص منها بسهولة. فتكون كمن في عاصفة، تجاهد ما استطعت لكنك لا تبلغ إلى الخلاص منها بسهولة. فإنك بعدما تسقط في هوة الطمع الشريرة تحطم نفسك وكل ما تملكه (أع20:8).
هكذا نصيحتي هي أنه يلزمنا أن نحذر من البداية، ونتجنب الشرور الصغيرة، فإن الشرور العظيمة تصدر عن هذه[143].
القديس يوحنا الذهبي الفم
"لئلا تُعطي زهرك (كرامتك) لآخرين،
وسنينك للقاسي" [9].
بالمعنى الحرفي يحذر الحكيم الإنسان الذي تخدعه الخطية، خاصةً الزنا، لئلا يكتشف الزوج ما يفعله هذا الساقط مع زوجته الخائنة، فيفقد كرامته أمامه، بل وأمام الجماعة كلها، ويُحكم عليه بالموت، أو يسقط تحت عقوبات تمرر حياته. أما روحيًا، فإن ما هو أخطر أن ما يرتكبه الإنسان تعرفه السماء، فيفقد موضعه هناك، ولا يكون له نصيب بين السمائيين والقديسين. يفقد بهاءه الذي كان يليق به أن يقتنيه بالتقائه الدائم مع الله وشركته مع السمائيين، فيهوي مع إبليس وجنوده إلى المذلة والعار والهوان.
إذ يتهاون الإنسان مع نفسه ويقترب من الخطية أو يقف بجوار بابها، يفقد احترامه لنفسه وينسى كرامته في الرب، ويُسلم بقية عمره لعدو الخير. الخطية، خاصة الزنا، غالبًا ما تبدو رقيقة ولطيفة، لكنها تُخضعنا لسيد عنيف، مستبدٍ، ومحطمة للنفس ولكرامتها الحقيقية.
* من هم غرباء عنا إلا الأرواح المهلكة التي انفصلت عن جماعة السمائيين؟ وما هي كرامتنا سوى أننا بالرغم من كوننا أجسادًا من الطين خُلقنا على صورة صانعنا ومثاله؟! أو من هو عنيف إلا الملاك المرتد الذي أصاب ذاته بألم الموت خلال الكبرياء ولم يتوقف عن أن يجلب الموت على الجنس البشري مع أنه هو نفسه مفقود؟! لذلك يُعطي كرامته للغرباء ذاك الذي خُلق على صورة الله ومثاله وكرّس أزمنة حياته لملذات الأرواح المُهلكة[144].
الأب غريغوريوس (الكبير)
"لئلا تُشبع الأجانب من قوتك،
وتكون أتعابك في بيت غريب.
فتنوح في أواخرك عند فناء لحمك وجسمك" [10-11].
الشر كالعاصفة العنيفة تهبّ فتُحطم كل شيء. حينما يرتكب الإنسان الخطية، خاصة الزنا، يظن أنه يتمتع بنوعٍ من الشبع عِوض الحرمان، وهو لا يدري أنه يُسلم قوته لعدو الخير، ويُسلم كل ما يملكه إلى بيتٍ غريبٍ، ليس فقط من الجانب الروحي، بل حتى في الأمور المادية، إذ غالبًا ما تنتهي حياته بالمرارة. يفقد الكثير من ممتلكاته ويخسر صحة جسده.
ربما يقصد هنا أنه إذ يُكتشف أمر الزاني يلتزم بالإنفاق على من سقط معها في الزنا، وعلى المولود منها مدى الحياة، بهذا يشبع الأجانب من قوته ويكون تعبه في بيت غريب.
"فتقول: كيف إني أبغضت الأدب،
ورذل قلبي التوبيخ،
ولم اسمع لصوت مرشدي،
ولم أمل أذني إلى مُعلمي.
لولا قليل لكنت في كل شرٍ في وسط الزمرة والجماعة" [12-14].
الأمر ليس كما يظن البعض مجالًا للتسلية، لكنه بحق خطير، فما يزرعه الإنسان إياه يحصد. ولعلنا نرى الآن كيف تئن المجتمعات من ثمار الانحلال الذي بذرته في قلوب الأجيال الجديدة فحصدت مرارة ودمارًا.
حسب الشريعة الموسوية يتعرض الزاني للرجم حتى الموت (تث22:22)، لكن ما هو أخطر يفقد الإنسان الحياة الأبدية.
مع أنه في وسط الزمرة والجماعة، أي في وسط كنيسة العهد القديم أو العهد الجديد، لكنه حرَم نفسه من سلامها وفرحها، وعزل نفسه بنفسه عنها خلال عدم سماعه لصوت أبيه الروحي، مرشده ومعلمه. رفض التأديب والتوبيخ ففقد عضويته الكنسية حتى وإن حملها في الظاهر.
* من يعتمد على رأيه الذاتي، ولو كان قديسًا، فهو مخدوع، وخطر خداعه أخطر من خطر المبتدئ الذي سلم تدبيره بيد غيره. فالأول يشبه ربان سفينة ألقى بنفسه في مركبٍ بلا شراع ولا مجدافٍ في وسط البحر، متكلًا على حذاقته وفن تدبيره. والثاني أي المبتدئ يشبه من لا خبرة له في سفر البحر، فيطلب من نوتيٍ ماهرٍ أن يركبه في سفينته العامرة بكل لوازمها واحتياجاتها.
فلا ينخدع أحدكم ويهرب من نير الطاعة اللين، عازمًا أن يتمسك برأيه في الأمور الروحية مثل الصوم والصلاة وغير ذلك من علامات الإيمان والنسك، ظانًا أنه بذلك يخلص!!
يوحنا الذهبي الفم
* الطاعة...هي جحود النفس، موت المشيئة، قبر الهوى، قيامة الاتضاع...
الطاعة موت أعضاء الجسد وهوى النفس، وذلك يكون للمبتدئ بألم، وللمتوسط تارة بألم وأخرى بلا ألم، وأما الكامل فلا يشعر بألم إلا إذا فعل شيئًا بحسب هوى نفسه...
فالذين يريدون أن يحملوا نير المسيح على رقابهم، ويُحّملون أحمالهم على رقاب غيرهم (آبائهم أو مرشديهم الروحيين)، سبيلهم أن يرفضوا أهواءهم الذاتية ويفعلون ما يرون أنه موافق لإرادة الله.
* بلا مدبر لا تكون السلامة. فمن الطاعة الاتضاع، ومن الاتضاع الشفاء من الآلام. فقد كُتب أنه باتضاعنا ذكرنا الرب وخلصنا من أعدائنا.
يوحنا الذهبي الفم
* يا لسعادة من يميت إرادته ويترك تدابير نفسه لذاك الذي أعطاه اللّه إياه أبًا ومعلمًا، فسيكون مكانه عن يمين يسوع المسيح المصلوب.
* الذي يطيع أباه مرة ويخالفه مرة، ويطيعه في شيء ويخالفه في آخر، فهو تارة يبنى وأخرى يهدم، فيكون تعبه باطلًا.
* ذاك الذي يطيع أباه الروحي تارة ويعصاه أخرى، مثله مثل الذي يضع تارة ماء جيدًا لعينيه المريضتين، وأخرى يضع عليهما كلسًا حارًا.
قال الآباء أن التسبيح بالمزامير سلاح، والصلاة حفظ، والدموع النقية غسل، والطاعة الفاضلة شهادة، فبغير اعتراف وطاعة لا يخلص الخطاة.
* إن طريق الطاعة هو أقصر المسالك، وإن يكن أكثرها صعوبة. ولا يوجد إلا طريق واحد متى سلكنا فيه ضللنا: وهو الذي ندعوه "الاتكال على الذات وعلى إرادتنا الشخصية".
* الطاعة احتجاج أمام اللّه. فان سُئلت منه: لماذا فعلت هذا؟ تجيبه "أنت يا سيد أمرت بالطاعة، أنا فعلت ما أمرت به"، فتجاوبه هكذا وتتبرر.
إن السفر بهذه السفينة فيه أمان من الغرق. فيسافر الإنسان وهو نائم، كما يسافر الإنسان في السفينة نائمًا ولا يلتزم بتدبيرها، لأن مدبرها حاضر. هكذا حال الإنسان السائر تحت الطاعة، يسافر نحو السماء والكمال وهو نائم من غير تعبٍ ولا تفكير فيما ينبغي أن يفعل. لأن الرؤساء هم مدبرو هذه السفينة والساهرون من أجله. لعمري أنه ليس بالأمر الهين بل هو عظيم جدًا. فالإنسان يجتاز بحر هذا العالم وهو على ساعد غيره وذراعه!! هذه هي النعمة الكبرى التي يفعلها الله مع السالك تحت الطاعة.